بيوت لبنانية بخيانات متبادلة (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

أي طريق يسلك لبنان، بعد اغتيال وسام الحسن؟
طريق 14 آذار مقفل. مسارب «8 آذار» مغلقة. لبنان يرتطم ولا رصيف يرسو عليه. وكل شيء يرتج.
تكبّدت «14 آذار» عدداً من قياداتها. شهداء أحياء أو موتى، تغير لبنان بعدهم: خرج السوري من الباب، ودخل الدولي من كل الأبواب. انسحبت سوريا، وسقطت حكوماتها في قفص الاتهام. واستبدلت عنجر بعوكر. كأن لبنان الذي كان يسير على عكازين سوريين، استبدلهما بعكازين، واحد فرنسي بتوقيع ايمييه، والثاني أميركي بتوقيع فيلتمان.
البحث عن الحقيقة، حقيقة من خطط وسهل ودعم ونفذ جرائم الاغتيال، وصل إلى حائط مسدود. تعرجت إضبارة الاتهام، وفق رياح السياسة ومصالح الدول. أدخل ضباط لبنانيون إلى السجن، سيقت «البيِّنات» ضد شخصيات، إلى أن رست الإضبارة على اتهام عناصر قيادية من «حزب الله».
تراوح مضبطة الاتهام راهنا في الأروقة. تعقد جلسات على أطراف القضية. الشهود لم يمثلوا بعد، المتهمون لن يحضروا، ولن يتمكن أحد من إحضارهم.
«14 آذار»، لها قناعتها المبرمة، بأن القاتل هو من تسميه نتائج التحقيقات، فتبنَّت كل شبهة أو كل اتهام لكل من سمّته هيئة التحقيق الدولية.
ماذا بعد ذلك؟ ماذا بعد سبع سنوات من الارتكاب والدماء؟ لا شيء يشي بأن الأمور تسير إلى خواتيمها الطبيعية، لاستعصاء التئام عناصر التحقيق ومستلزمات المحكمة. لا شيء يصب في منحى تنفيذ الأحكام إذا صدرت.
طريق 14 آذار مقفلة حتى الآن، لأن الطريق لتنفيذ الأحكام التي قد تصدرها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بحق «كوادر» من «حزب الله»، مقطوعة. فحزب الله، قطع كل صلة بالمحكمة الدولية، وكل ما يجري فيها لا يعنيه، وأصدر حكماً مبرماً بحقها، ويصنفها أداة لتصفية المقاومة… وعند هذا المقام، تتوقف الأحكام.
ما بين «14 آذار» و«حزب الله» إرث ليس بمقدور أحد أن يتجاهله وان يفوز به. هذا إرث مقيّد، وثقيل، ولا طاقة لأحد على احتماله بمفرده، ويستحيل تقسيمه إلى اثنين.
وطريق «14 آذار» مقفلة أيضا عند حاجز «سلاح المقاومة». مهما كانت التلوينات الكلامية والاقتراحات المتعرجة، فإن فريق «14 آذار» ضد هذا السلاح، من أوله إلى آخره. ضده في الأساس، لأنه لا يريد أن يكون لبنان ساحة مقاومة في مواجهة اسرائيل، وضد هذا السلاح لأنه يورط لبنان في حروب ومغامرات، وضد هذا السلاح انسجاما مع «المجتمع الدولي» وقرارات مجلس الأمن، وضد هذا السلاح لأنه مدعوم من إيران، وضد هذا السلاح لأن دول الاعتدال العربي ضده، وضد هذا السلاح لأنه شيعي، وضد هذا السلاح، لأن «أهل فلسطين أدرى بشعابها»… وأخيراً، هو ضد هذا السلاح، لأنه ثقيل الوطأة على السياسة اللبنانية. فالبلد رهينة هذا السلاح، حتى إذا لم يستعمل، فكيف إذا لوّح بقمصانه السود، أو حلّق بـ«أيوب».
هنا، الطريق مقفل أيضا. قد يجتمع العالم مرة أخرى، كما فعل عدوان تموز، لمحاربة سلاح المقاومة. والظن يميل إلى استحالة نزع هذا السلاح.
يرفض فريق «14 آذار» التخلي عن «الحقيقة». ويرفض «العيش في ظل السلاح». ويقيم تحالفاته الداخلية والخارجية، مع محور إقليمي، شديد الاتصال والامتثال للقرارات الدولية، وفق صيغة تيري رود لارسن (أكثر صهيونية من بيريز) وأصدقائه الدوليين.
الطريق الوحيدة المفتوحة، هي التي انتهجها، بعد اندلاع الثورة في سوريا. لقد تخلف هذا الفريق عن تأييد ثورتي تونس ومصر، ووقف ضد انتفاضة البحرين، ولكنه بات «محارباً» من خلف الحدود، بكل ما يمكله من إعلام ومواقف، وما يتوافر له من دعم إنساني وإسكاني، وما تيسر له من عتاد يعبر التخوم وخطوط التماس الحدودية مع سوريا.
الطريق إلى السلطة ليست مستحيلة. ما هو مستحيل بعد اليوم هو قيام سلطة.
أما فريق الثامن من آذار. فلا حول ولا… كل الطرق الداخلية مقفلة أمامه. كل طرقه الخارجية مقطوعة، أكانت مع «ربيع الاخوان» أم مع فصول الممالك والامارات العربية الثابتة والراسخة. طريقه الوحيدة السالكة بالاتجاه السوري فقط، مع ما يقتضيه هذا العبور من مخاطر والتباسات وارتباكات ومحاولات إقناع، لا تجد من يقتنع بها، غير فريقه الملتزم، ومن هم على ضفافه.
فريق الثامن من آذار، وتحديداً «حزب الله»، المنصرف باستمرار إلى تنمية قدراته العسكرية والقتالية لتصبح أكثر تفوقاً، يعرج في الداخل، وكلما خطا خطوة، كدّس خسارة فوق خسائر سابقة. ولم ينجح في نسج شبكة أمان سياسي. و«حكومته» عالة عليه وعلى اللبنانيين.
فكيف يمكن لفريقي الصراع أن يلمّا لبنان؟ كيف لفريق يفترض ان خصمه يتآمر عليه مع أميركا والمجتمع الدولي، أن يتفق على خطوط سياسية مع فريق 14 آذار الذي يفترض ويؤكد، ان «شريكه» متآمر عليه مع النظام السوري، ويهدد قياداته وكوادره بالتصفية؟
من يستطيع أن يرتكب هذه المعجزة؟ هذان فريقان نقيضان في كل شيء، يتألف منهما لبنان. وتزداد الفرقة بين الفريقين، وقد بلغ الخصام مداه، بحيث إن كل فريق، تحت عباءة النأي بالنفس، يدعم طرفاً من أطراف الصراع في سوريا… 14 آذار مع المعارضة ضد النظام، وضد رأسه تحديداً، وتعمل على إسقاطه كل يوم في لبنان، عبر إعلام ومواقف، لا تشذ قيد أنملة عما تقوم به قوى المعارضة السورية، المدنية والعسكرية، وبكل تلويناتها.. وفريق 8 آذار، مع النظام السوري ومع رأسه بالتحديد، وضد المعارضة بكل تلويناتها. وقد وصل «تورط» الفريقين إلى درجة خطيرة، تنبه لها الكثيرون، قد تفضي إلى نقل الصراع المسلّح إلى لبنان، مرة عبر الحدود، ومرة عبر الأمن، ومرة عبر التسلح…
ان لبنان يتدحرج إلى ما لا تحمد عقباه… لا أحد يستطيع وضع كوابح لـ«14 آذار» ولـ«8 آذار». قطاران يسيران بسرعة جنونية على سكة واحدة، وبالاتجاه المعاكس.
قيل: لبنان بجناحيه. يجب أن يقال: لبنان بمعسكريه. وليست هي المرة الأولى… وقد تكون الآخرة وليس الأخيرة. لأن ما يجري في المنطقة، هو في حجم إلغاء أنظمة وجماعات ودول. فهل ينجو لبنان؟
مجنون من يفكر بخلاص. عاقل من يحلم به، بشرط أن يكون قبل فوات الأوان. الحديث عن حكومة وفاق وطني، مستحيل، قبل ان توضع جانبا كل المعضلات الكبرى الواردة أعلاه، وهذا من مستحيل المستحيلات. فلا «حزب الله» سيتخلى عن بشار الأسد، ولا 14 آذار، بما لها ومن معها في الخارج، يقبل بالانسحاب من معركة يظنها رابحة، لإطاحة رأس النظام في سوريا.
بالأمس، استشهد وسام الحسن. هو لم يكن الأول، ويصعب التأكد من أنه سيكون الأخير. لبنان هذا، عرفناه في حروبه المتناسلة ما بين 1975 و1990. لقد اغتيل من قياداته الكثير. وقتل من شعبه عشرات الألوف، تحت شعار، «كي يحيا لبنان». مات لبنان مع من مات، وأعطونا «لبنانا» آخر، وصل بعد عشرين عاماً، إلى حافة الهاوية والموت.
لا يمكن ان تعود الحياة، شبه الطبيعية، إلى لبنان، إلا إذا رفع شعار «عفا الله عما مضى»، من جرائم واغتيالات وغبن ومؤامرات. تماما، كما فعل، في «اتفاق الطائف»، وأدخل «الميليشيات» كلها إلى سلطة ممسوكة من أطراف اقليمية متصالحة وأطراف دولية ذات مصالح.
إلى أن يحين ذلك الموعد قد يبقى لبنان.. أو قد لا يبقى. بقاؤه رهن إرادة خارجية، وتغيره وتبعثره رهن إرادات داخلية، لا يلجمها رادع إقليمي أو دولي.
كل الطرق مقفلة.. ولبنان يرتطم.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى