تأنيث فضاء المدينة في “تِرتِر”

 

ألقت الأحداث والتطورات التي شهدها العالم، نتيجة تفشي ظواهر العنف والتطرف، بظلالها على تشكيلة الأعمال الأدبية، فأصبح العنف والهوية والصراعات على الخلفية الدينية والمذهبية ثيمات أساسية في المؤلفات الروائية هناك من يعتقد أن الواقع السياسي والاجتماعي، خصوصاً في مرحلة ما بعد الربيع العربي، لا يزال زاخراً بما يمكن أن ينهل منه الروائي مادته السردية. لذا من الطبيعي أن يتوالى مزيد من الإصدارات التي قد تضيء زوايا معتمة في واقعنا الراهن، ولا يتطلب هذا الإجراء كثيراً من التعمق لإدراك ما يكمن في موجهاته من غرض إسقاط الوقائع التاريخية على الحاضر، مثلما ترى ذلك في رواية “ترتر”، الصادرة عن دار انطون، للكاتب والروائي العراقي نزار عبدالستار، الذي يدير دفة سرده من جديد نحو مدينة الموصل.

ومن المعروف أن تلك المدينة كانت حاضنةً لعمله السابق “يوليانا”، غير أن عبدالستار في “ترتر” لا يهمه النبش في ميثولوجيا المدينة، بقدر ما يريد استعادة صورة الموصل مع بدايات القرن العشرين، إذ ما أن ظهرت بوادر أفول الإمبراطورية العثمانية حتى تحولت ولاية الموصل إلى حلبة لصراع المصالح بين الدول الطامحة إلى التوغل في تركة الرجل المريض. هذه الحيثيات كلها تشكل خطاب الرواية وتخدم سياقها الفني.

يبدأ السرد مع تلقي الشخصية الأساسية آينور برقية من الشركة التي تعمل في فرعها الموجود باسطنبول تبلغها بالاستغناء عن خدمتها، كما تخبرها بما تتنظره من المكافأة المالية تقديراً للرعاية التي قدمتها للإمبراطور فيلهلم الثاني في جولته بالشرق. ولا تفوت الراوي الإشارة إلى مظاهر الاحتفاء بالإمبراطور الألماني في عاصمة الدولة العثمانية، قبل الانتقال لتتبع رحلة أخرى تقوم بها آينور إلى مدينة الموصل، فهناك تتكفل بتمثيل النفوذ الألماني.

ما يتابعه القارئ في هذا العمل عبارة عن مادة تاريخية، لكنها مسبوكة في الإطار الروائي، والرواية كما يقول كنكور تاريخ ما كان يمكن أن يقع المقاطع الأولى من الرواية تكشف دور شخصية آينور، وينهض السرد على المسارات التي تتخذها، وبهذا يصح اعتبار العمل رواية الشخصية، وما يدعم هذه الفرضية هو دلالة العنوان الذي يمتد على جسد النص.

وتتوارد مفردة “ترتر”، بما تحمله من الإيحاءات الجمالية في الكلام المتداول بين الشخصيات، ولكنها تحيل دائماً إلى آينور، كأنه اسم بديل لهذه الشخصية. وما يزيد من أهمية آينور هو هجانة انتمائها إلى الثقافتين الإسلامية والغربية، فكان أبوها الألماني قتل خطأً، وعلى أثر ذلك تعود أمها ناريمان إلى دينها الإسلامي، متخلية عن بروتستانتية عشيقها الفقيد، غير أن الدين بالنسبة لـ”آينور” ليس موضوعاً محورياً، فهي أقرب إلى هرطقات رودلف الذي لم يشغله سوى إبداع تصاميم جديدة، مستلهماً مما تتمتع به عشيقته من المواصفات الجسدية أشكالاً جديدة.

كما يكتسب حضور رودولف في المراحل اللاحقة وظيفة أخرى لدى آينور، إذ كلما تراه الأخيرة في الأحلام تتوقع حدوث أمر ما. وقبل أن تلتقي ابنة الرايخ بالسطان عبدالحميد الثاني ينتحر عشيقها في سجن توبنغن، لكن لا تقتنع آينور بسيناريو الانتحار، مرجحةً بأن منير باشا هو وراء نهاية حياة رودلف. وما أن يخبرها السلطان بأن كل ما واجهته، خلال السنة، كان مخططاً من قبل الدولة العلية وألمانيا العظمى، حتى تسأل آينور: هل يعني ذلك أن رودلف قتل ولم ينتحر؟ ينفي السلطان مقتل رودلف لأن ذلك لا يخدم البرنامج الذي من المفترض أن تقوم آينور بتنفيذه في الموصل، فالمطلوب منها بناء مصنع النسيج، ويعدها السلطان بأنه يتعهد بقبر رودولف في توبنغن ويكون اسم الحبيب الألماني شفيرةً للتواصل بين الاثنين.

ما يعطي الانسيابية لحركة السرد هو ترتيب المادة المروية، وفقاً لتواريخ زمنية مقترنة بالبعد المكاني. يتصاعد دور آينور في مفاصل الرواية إلى أن تصبح مركز التفاعل بين الشخصيات الأخرى، وما يضاعف من أهمية تلك المرأة هو مشروعها الهادف لنفض الغبار على مدينة الموصل.

تمر آينور في طريقها إلى الموصل بمدينتي البصرة وبغداد، وتمضي خمسة أيام في منطقة الميدان ببغداد، وهناك تتصرف حسب توجيهات تشكيلات يلدز الاستخباراتية، وتفهم من المشرف الألماني كروغر هايس أن الإنكليز قد هيمنوا على مدينة الموصل، كما يلمح الرجل إلى فشله في كسب ود الأكراد.

أكثر من ذلك فإن النزعة العشائرية تتغذى من الدعم الإنكليزي، وما يصعّب العمل برأي كروغر هو عدم تقبل الناس للتغيير، كما أن مظاهر الحضارة والمدنية تعتبر كفراً. لكن هذا لا يمنع آينور من مواصلة رحلتها، بل هي تطلب من هايس أن يلحق بها في الموصل لإنشاء أول مصنع لجوارب رودولف، في بلاد ما بين النهرين.

إضافة إلى توظيف تقنية الحذف الضمني مع بداية كل قسم، يستفيد الكاتب من تقنية الحذف المباشر، مع مطلع القسم المعنون بالمهترخانة، إذ يعلن على لسان الراوي مرور شهرين على وجود المرأة الألمانية في الموصل. هنا يأخذ وصف جغرافية المدينة وتكوينها المعماري وظيفة استكشافية للفضاء العام والمراد بمفهوم الفضاء هو معنى أوسع من مجرد البنية المكانية، حيث يدخل ضمنه الأشكال والألوان والروائح والأفكار والحركة، طبقاً لما أشارت إليه الباحثة الجزائرية مسعودة لعريط.

توافق بلدية المدينة على بناء مصنع الجوارب، مخصصةً لهذا المشروع مساحة واسعة. وبدورها تختلط آينور بأجواء المكان وتتواصل مع فئات من التجار والمتنفذين ومعاوني القنصليتين الفرنسية والإنكليزية، وطابت لها مراقبة الوافدين من الإيزديين والمسيحيين إلى المدينة يومياً مع إشراقة الشمس، إذ تقف برفقة حارسها تابور الحبشي متأملة المشهد.

تبدي آينور رغبتها لنقل مكان المسلخ ومصنع الدباغة من داخل المدينة إلى أطرافها. كما أن إقامة موفدة السلطان كانت تتراوح بين بيوتها الثلاثة المتعة والبهجة والرغبة. أتاح عزل حازم باشا فرصةً لإنجاز مزيد من المشاريع ونجحت آينور في تحويل بيت الرغبة إلى بازار للملابس النسائية، وأعجبتها فكرة التاجر الحلبي نارت الشركسي لترويج البضاعات الإغوائية.

 والأهم في هذا الإطار هو انضمام جليلة ابنة سعيد السعرتي إلى مساعدي آينور في عيادتها الواقعة في بيت المتعة، إذ تتسلل إليها النساء يبحن بحكاياتهن المثخنة بالوجع. وما تقوم به آينور هو بمثابة الثورة، حيث تختار الطبيب جرجس غزالة لإدارة مستشفى الغرباء، الذي أصبح مزوداً بجهاز أشعة إكس، كما أن شوارع الموصل لم تعد معتمة بعد استيراد لمبات الغاز تلبية لطلب آينور، فضلاً عن مشروعها لإحياء نسيج الموسلين.

في حين كانت مدينة الموصل تشهد حراكاً تجارياً وعلمياً، فإن مشروع مد خط سكة الحديد بين بغداد وبرلين قد توقف، لأن ذلك أثار حفيظة الدول الأخرى، من بينها روسيا وبريطانيا، وبدأ صوت المتشددين يعلو ضد آينور ومشاريعها التجارية في الموصل، إذ حذرها الشيخ سعد الدين آل دباغ من خطابات الشيخ المعروف التحريضية المتواطئ مع السير هانسفور الإنكليزي. فعلا، أخذ مناخ المدينة يتشبع بالعنف، ويهاجَم مقر جميعة العلم كما يُقتل خياط ألماني، ويتم استهداف المصالح الألمانية ويحطم جهاز الأشعة. تحدو هذه التطورات آينور وزكريا وبريتا وشاؤول جلعاد إلى التفكير بالهروب.

وقبل مغادرة الموصل يدور حوار خاطف بين آينور وتاجر الأقمشة، فالأخير يسألها: هل تريدين مزيداً من ترتر؟ وذلك يعود بك إلى عتبة العنوان. وكما بدأت رحلة عشيقة رودولف إلى الموصل بلقاء السلطان العثماني، كذلك تنتهي بالعودة إلى قصر دولمة باهجة ويشيد عبدالحميد الثاني بعقلها، معترفاً بأنه يتحمل مسؤولية الفشل لا آينور صحيح أن ما يتابعه القارئ في هذا العمل عبارة عن مادة تاريخية، لكنها مسبوكة في الإطار الروائي، والرواية كما يقول كنكور تاريخ ما كان يمكن أن يقع.

 

 

ميدل إيست أون لاين  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى