الراقص مع الفيل [2]

 

«إنها مخاطرة، ولكنها مخاطرة محسوبة»، كذلك قال «المجاهد الأكبر» (1). فكّر رئيس تونس وقدّر، فهداه تفكيره إلى أنّ خير وسيلة لمغالبة «الفيل الفرنسي» هي إحراجه لإخراجه من بنزرت، وإرغامه على الجلاء عنها. ولكن أنّى لجيش صغير مثل جيش تونس أن يغالب جيش فرنسا؟! وكيف لبورقيبة أن يُحرج ديغول؟! – نعم، هزّ بورقيبة رأسه، إنه يستطيع أن يُحرج الفيل إذا ما حاصره بقطع البيادق، فطوّقوه من كلّ جانب. وإنّ بوسعه أن يحشد آلافاً من أفراد الشعب في بنزرت، وأن يأمر تلك الجماهير بمحاصرة القواعد العسكرية الفرنسية، واجتياحها. وماذا يتسنّى للفيل أن يصنع بعد أن يشدّد الناس الخناق عليه؟ ابتسم بورقيبة، وقال: لا يبقى له إلّا خياران اثنان. فإمّا أن ينجرّ ديغول إلى المعركة ضد التونسيين، وهو عندئذ سيدهس آلاف المدنيين الذين رمى بهم بورقيبة في طريقه. وَجَمَ رئيس تونس قليلاً، وهو يفكر في هذا الاحتمال الخطير، ثم هوّن من واقعية هذه الفرضية، قائلاً: «تلك فظاعة لن يجرؤ الجنرال ديغول على اقترافها، وحمل أوزارها، فوراءها خسران لمنزلة، وتلطيخ لسمعة». واستطرد بورقيبة يقلّب الخيار الثاني المتبقي أمام الفيل: إذا استنكف ديغول عن خوض معركة مشينة، فإنه بذلك يكون قد رضي بالأمر الواقع الذي فرضه عليه بورقيبة. والقبول بالواقع يعني شيئين: إمّا الجلاء الفوري عن بنزرت، وفي هذا نصر عظيم لنا، أو التفاوض على إعادة رسم الحدود الجنوبية بين تونس والجزائر، وهذا أحبّ إلى النفس من استرجاع بنزرت ذاتها. وحدّث بورقيبة نفسه، فقال: «ولو كنتَ يا بورقيبة في مكان ديغول، ماذا ستختار بين هذين الحلّين؟». أجاب بورقيبة على السؤال الذي ألقاه على نفسه، وقد أخذه الزهو بحسن تدبيره: «أختار أن أعطي تونس جزءاً من مطلبها في صحراء الجزائر، وأحتفظ لفرنسا بباقي الصحراء، وببنزرت أيضاً». وعاد بورقيبة يسأل نفسه من جديد: «وإذا أعطاك الفيلُ الصحراءَ، هل ترضى أن تمنحه بنزرت؟!» أجاب بورقيبة: «بلى، بكل سرور! وعلى كل حال، فإنّ فرنسا لن تبقى في بنزرت مدى الدهر، وسيأتي اليوم الذي ترحل فيه!».

«اللي يحسِب وحده يفضل له» (مثل تونسي متهكِّم)

حسِب بورقيبة حِسبته، فوجد أنه كاسبٌ لا محالة، بل ومُفضِل أيضاً. ما عليه إذاً سوى «التهويش» قليلاً بفزّاعة الحرب، وسيرى أنّ الجنرال ديغول يتحاشى الدخول معه في صدام. ولم يُبطئ الرئيس التونسي كثيراً في تنفيذ خططه الحربية، فبدأ يصعّد تدريجياً من إجراءاته ضدّ الفرنسيين. واغتنم، في شهر حزيران/ يونيو 1961، إعلان الأميرال موريس أمان، قائد القاعدة العسكرية الفرنسية في بنزرت، عن انطلاق أشغالٍ لتمديد مدرج هبوط الطائرات في قاعدة سيدي أحمد الجوية، فأبدى بورقيبة رفضه القاطع لهذه الخطوة الفرنسية. وأمر قوات الحرس الوطني (الدرك) أن يمنعوا العمّال من المشاركة في تطوير مدرج ذلك المطار العسكري. وبعد أيام، منعت الحكومة التونسية الجنود الفرنسيين من الخروج من قواعدهم العسكرية دون إذن ممضى من والي (محافظ) بنزرت. ثم وصل التضييق التونسي حداً تمٌ فيه منع الأميرال أمان نفسه من مغادرة مقره، والذهاب إلى تونس. وقدّم سفير فرنسا احتجاجاً غاضباً، فاضطرت الحكومة التونسية إلى تليين مواقفها، والسماح لأمان بالعبور، مع اعتذار مناسب له. لا بأس! لقد سجّل «المجاهد الأكبر» نقطة ليغيظ ديغول، ومثل هذه المناكفات الصغيرة هي لعبة بورقيبة المفضلة.

لكنّ الرئيس التونسي لن يكتفي بتسجيل نقاط، إنه يريد أن يضرب ضربته الحاسمة والسريعة. جمع بورقيبة حشداً من الناس، في ساحة القصبة، وخطب فيهم خطاباً حماسياً، وأعلن أنه «سيحرّر بنزرت، وسيطرد المحتلين، وسيطهّر تراب تونس من دنس الاستعمار». ولم ينسَ بورقيبة أن يدعو الشباب لكي ينفروا إلى بنزرت، ويعتصموا حول القواعد الفرنسية، ويحفروا خنادق يتحصنون فيها، ويقيموا حواجز وأسواراً لمنع جنود فرنسا من التحرك خارج معسكراتهم. لم يصدّق الفرنسيون، ولا بعض التونسيين أيضاً، ما يصنعه بورقيبة. هل يريد أن يمضي إلى الحرب حقاً؟! أليس هو الرجل الذي ما فتئ يحذّر من عاقبة الحروب، ويبشّر الناس بفضائل الجنوح إلى السلام؟! ماذا اعتراه؟! أتراه شرب فجأة حليب السباع؟! أحجم كثيرون عن تصديق بورقيبة بيد أنّ آلافاً من أفراد «الشبيبة الدستورية» (شباب الحزب الحاكم) لبّوا نداء «زعيم الأمة»، وذهبوا جماعات إلى بنزرت. قيل لهم إنهم سيقومون بمظاهرات حاشدة، ثم يعودون بعد ذلك إلى بيوتهم. ولسوء الحظ، لم يفطن أولئك الشبان المتحمسون إلى ما يُدبّر لهم. هل تخيّل واحد من الآلاف الستة الذين تطوعوا للقيام بمظاهرات أنّ الزعيم سيستخدمهم دروعاً بشرية، ليحمي بهم جنوده، أثناء الصدام مع الجيش الفرنسي؟! لم يخطر على بال أحد أن «القائد المفدّى» سيلقي بالجميع، مدنيين وعسكريين، في محرقة يموتون فيها موتاً مجانياً! ومن أين لهؤلاء التونسيين أن يدروا بأنّ رئيسهم لا يراهم إلّا مجرد بيادق يمكن له أن يحاصر بهم «الفيل»، ضمن مخاطرة «محسوبة»، في لعبة دولية، يبتغي من ورائها مجداً شخصياً!

«حينما يصير للدجاجات أسنان!» (مثل فرنسي متهكِّم)

لم تكن قاعدة بنزرت الاستراتيجية مجرد ميناء عسكري منيع يشرف عبر قناة ضخمة على بحيرة داخلية واسعة تؤوي بعض أهم البوارج والمدمرات في أسطول فرنسا الحربي. بل إنّ بنزرت كانت للفرنسيين أهم من ذلك بكثير، فهي مركز للقيادة والسيطرة، في شمال أفريقيا، وجنوب البحر الأبيض المتوسط كله. وهي تضم بعض أهم منصّات التنصت على الاتصالات التي أنشأها حلف «الناتو»، ووجهها نحو الشرق الأوسط، وبلدان أوروبا الشرقية. وفضلاً عن كل ما سبق، فبنزرت بموقعها الجغرافي المميز تشرف على مضيق صقلية، وتستطيع أن تتحكم في حركة المواصلات البحرية بين شطري المتوسط الشرقي والغربي. زد على ذلك، فمنطقة بنزرت هي المركز الرئيس لصيانة السفن الحربية، وبجوارها شيّدت فرنسا مدينة كاملة للصناعات الميكانيكية سمّتها «فيري فيل» (غيّر بورقيبة فيما بعد تسمية هذه المدينة، فنسبها إلى نفسه، وجعلها «منزل بورقيبة»). كما أن الفرنسيين بنوا في قاعدة بنزرت ملاجئ ضخمة تحت الأرض محصّنة ضد مختلف أنواع القنابل، ومخصصة لتخزين كميات هائلة من الذخائر. ولم يكن عجيباً، حينئذ، أن تتشبث فرنسا بقاعدتها الجوية والبحرية الاستراتيجية. لكنّ الفرنسيين لم يكونوا غافلين أيضاً عن حق التونسيين في استعادة هذا الجزء المحتل المهم من بلادهم. إنّ ذلك كان حقاً ثابتاً لتونس، والنضال في سبيل الجلاء عن بنزرت ظلّ أمراً مشروعاً، ومطلباً عادلاً. ولئن كانت الحكومة التونسية، بعد نيل البلاد استقلالها، في 20 آذار/ مارس 1956، غضّت النظر، مؤقتاً، عن المطالبة باستعادة بنزرت، فإنّ ذلك كان إجراءً مرحلياً اتبعه بورقيبة ليصل إلى أهدافه «خطوة تلو خطوة»، حسب التصور السياسي الذي آمن به. والآن، ها قد جاءت خطوة المطالبة ببنزرت.

ولقد لمّح بورقيبة لديغول، يوم التقى به في قصر «رامبوييه»، في 27 شباط/ فبراير 1961، بأنه مستعدٌّ ليتناسى المطالبة ببنزرت، ويتركها في يد فرنسا مدة زمنية أخرى، ولكن شرطَ أن يعوّض عن هذا التساهل بقطعة من الصحراء. أغضى ديغول، يومئذ، طرفه، وقال: «أنا لا أملك أن أتنازل عن الصحراء لأحد. ولكن يمكن لي أن أعدك بأن فرنسا ستخرج من بنزرت يوم تؤمّن سلاحها الذري الرادع». لم يعجب ذلك الجواب بورقيبة، ورأى فيه تهرباً، وتسويفاً. علم الرئيس التونسي جيداً بأنه إن لم يحصل الآن من ديغول على تنازلات في الصحراء، فلن يحصل على هذا التنازل بعد ذلك من الجزائريين أبداً، إذا استعادوا وطنهم، بعد جهاد السنوات السبع. وكان بورقيبة يعرف أيضاً بأن ديغول قد دخل في مواجهة مفتوحة مع معارضيه الداخليين الذين اتهموه بالخيانة، والتفريط في «الجزائر الفرنسية»، وقبول التفاوض مع قادة جبهة التحرير الجزائرية. ووصل الأمر إلى حدٍّ تمردَ فيه جنرالات الجزائر على سلطة باريس، في يوم 21 نيسان/ أبريل 1961. يومها، قرأ بورقيبة الوضع الفرنسي وفقاً لمزاجه وأمانيه ورغباته، فاعتقد بأنّ ديغول صار في وضع ضعيف. إنه مرتبك، ومتردّد. وإنّ هذا هو الأوان الصحيح ليضرب بورقيبة ضربته الكبرى في بنزرت. وشيئاً فشيئاً، وصل التجييش التونسي إلى مرحلة خطيرة تنذر بقرب اندلاع نزاع مسلح. وتلقى الرئيس الفرنسي، في يوم 7 تموز/ يوليو 1961، رسالة رسمية نقلها له عبد الله فرحات مبعوث بورقيبة الخاص، ومدير ديوانه الرئاسي، وتتضمن تهديداً مبطّناً بالحرب بين تونس وفرنسا. استشاط ديغول غضباً: هل أصبحت تونس نداً لفرنسا ليتجرأ رئيسها، ويهدده بالحرب؟! أي صفاقة هذه؟! سأل ديغول الأميرال أمان قائد قاعدة بنزرت: «هل للتونسيين فرصة ضئيلة في الفوز؟!». ورد أمان متهكّماً: «أجل! حينما يصير للدجاجات أسنان!». (Oui, quand les poulets auront des dents).

«لم أتصوّر أنّ فرنسا تتصرف كالبرابرة، وأنّ ديغول سيبُزّ الفاشيين!» (بورقيبة مذهولاً)

بدأت المواجهات المسلحة، في الساعة الواحدة والربع، من بعد ظهر يوم 19 تموز/ يوليو 1961. وكان الأداء العسكري التونسي كارثياً. زحف الوطنيون على القواعد الفرنسية على طريقة «يا خيل الله اركبي!». كانوا نساءً، ورجالاً، وشيوخاً، وصبياناً… بعضهم حمل عصا أو حجراً، والبعض الآخر تسلّح ببندقية صيد، وكثيرون ظلوا عزلاً بلا سلاح. واندسّ ضمن الحشد المدني التونسي أفراد عسكريون تسلحوا بالقنابل اليدوية، وببعض الرشاشات الخفيفة. ومضى الجميع إلى القواعد الفرنسية في مظاهرات حاشدة جابت شوارع بنزرت مطالبة بـ «الجلاء… الجلاء». وأما في داخل القواعد الفرنسية، فقد تجمّع سبعة آلاف وسبعمئة جندي مدرب جيداً على القتال، ولديهم أوامر حازمة للرد بمنتهى القوة على أي استخدام للعنف ضدهم. صدرت لهم تلك الأوامر من رئيس الوزراء الفرنسي ميشال دوبريه شخصياً، حينما جاء إلى بنزرت قبل أيام، في الحادي عشر من تموز، ليتفقد بنفسه الوضع العسكري للقاعدة. وما إن أطلق التونسيون أول رصاصاتهم حتى أُعطى الأميرال أمان الأمر لطياريه لكي يفجّروا الحواجز التي أنشأها التونسيون في الطرق، ويبيدوا كلّ من فيها من المرابطين. وطفق الجنود الفرنسيون يطلقون نيران رشاشاتهم على التونسيين الذين يتحركون في الشوارع دون تمييز أحد. كانوا يقتلون، وهم مطمئنون في مروحياتهم، وكأنهم يبيدون ذباباً لا بشراً! وفي دقائق معدودة قتِل العشرات.. وفي الساعات الأولى تمّت تصفية المئات.. ولم يكد اليوم الأغبر ينتهي حتى كانت حصيلة الشهداء بالآلاف. في اليوم التالي أصدر الأميرال أمان الأوامر إلى قوات المظليين لتأمين القنال الرابط بين بحيرة بنزرت والبحر المتوسط. شملت أوامر الاحتلال التي أطلقها أمان مدينة بنزرت نفسها، وكانت تحت السيادة التونسية. قاوم التونسيون احتلال بنزرت ببسالة. وأصدر بورقيبة لجنوده أمر اليوم «إنّ رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة يأمركم بالصمود بجميع الوسائل أمام احتلال مدينة بنزرت من قِبل الجيوش الفرنسية. أتمنى لكم التوفيق، والله يكون في عونكم». صمد الجنود التونسيون فعلاً، وقاتلوا من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت. حارب الجنود والضباط حتى الموت، وسقط الرائد محمد البجاوي آمر سلاح المدفعية في الجيش التونسي شهيداً، وهو يقاوم دبابة فرنسية بسلاحه الفردي. كبّد المقاومون التونسيون العدو نحو عشرين قتيلاً، ومئة جريح. ولكن، في المقابل، كانت خسائرهم جسيمة. استعمل الفرنسيون الدبابات لاقتحام بنزرت، وقصفوها بصواريخ البوارج من البحر، واجتاحوها بآلاف من المظليين. ولم يكتفِ ديغول بما لديه من وسائل القوة، فبعث حاملة الطائرات «أرّومانش»، والبارجة «ماي بريز» لتشارك في المعركة، رغم علمه المسبق أنّ موازين القوى مختلة بشكل صارخ. لم يكن التونسيون يمتلكون سوى مدافع هاون يردّون بها على قصف مدافع المدمرات والبوارج!

تكشفت «الرقصة مع الفيل» التي حسبها بورقيبة مخاطرة مضمونة العواقب، عن فاجعة. وأزهقت معركة بنزرت التي لم تدُم إلا ثلاثة أيام وليال، أرواح أكثر من خمسة آلاف تونسي، وأما الجرحى فأضعاف هذا العدد، والمفقودون كثر. وشعر الشعب التونسي كلّه بهول هذه الكارثة الوطنية، رغم أن حكومته مضت تقلّص أعداد الضحايا عامدةً، ربما حفاظاً على الروح المعنوية العامة، أو خوفاً من ردة فعل الناس القاسية (لم تعترف البلاغات الرسمية التونسية سوى بالحصيلة التالية: 632 شهيداً، و1555 جريحاً، و640 مفقوداً أو أسيراً تونسياً، في معركة بنزرت). وفوق الخسائر البشرية الفادحة، دُمِّرت البنية التحتية في مدينة بنزرت، وقُصفت مستودعات النفط في منزل جميل، وحوصرت البلاد التونسية كلها حصاراً بحرياً مشدّداً. لم يجد بورقيبة ما يقوله إزاء المأساة التي تسببت بها حساباته الخاطئة. بقي الرئيس ساكناً ليومين كاملين بعد أن تكشفت له الهزيمة المنكرة، ثم تكلّم أخيراً، في اليوم الثالث بعد تنفيذ وقف إطلاق النار. قال بورقيبة لوزرائه: «لم أتوقع أبداً أنّ فرنسا بلد الأنوار ستتصرف كالبرابرة، ولم أتصور إطلاقاً أنّ الجنرال ديغول الذي قاوم الفاشية سيبُزّ الفاشيين، في بنزرت!». بعد أيام أخرى، قال بورقيبة، وكأنه يبرّر جنايته على شعبه: «هل حسب التونسيون أن ينالوا حريتهم دون أن يدفعوا قسطهم من الدم؟! فلينظروا إلى الشعوب من حولهم. إنّ هناك من بذل مليون شهيد، ولم يتفجع!». لم يتوقف غيُّ بورقيبة عند هذا الحد، مضى في ضلاله شوطاً آخر، وقام بتصرف خسيس. استغل اندلاع حرب بنزرت، وغضب الناس من المجزرة الفرنسية، فحاول أن يركب موجة السخط الشعبي، وأن ينفّس عن ضيقه من فرنسا بعمل فج. ماذا فعل بورقيبة؟ قام، في اليوم الثالث من أيام الحرب، بتطليق زوجته الفرنسية ماتيلد لوران!.. ماتيلد هذه – أو مفيدة لأنها بدّلت اسمها بعد أن اعتنقت الإسلام- كانت رفيقة عمر بورقيبة، وأم ابنه، وراعيته مذ كان طالباً فقيراً يتسكع في أزقة باريس. وهي التي وقفت إلى جانبه في كل أيام المحن، واحتملت لأجله كل أصناف المشقة. ولقد صبرت هذه المرأة المسكينة ثلاثة وثلاثين عاماً على نزواته، وحماقاته، وعجرفته. ودعمته بوفاء حين نبذه القريب والبعيد، وواسته بحب عندما جار عليه الزمان! هل كان قراره بتطليق ماتيلد حقاً وليد لحظة غضب وسخط ؟! لا، لا.. لم يكن الأمر وليد نزوة طائشة. لقد خطّط بورقيبة لكل شيء، وحضّر له منذ وقت طويل. قرّر أنها لم تعد تصلح أن تشاركه حياته الجديدة، واختار بالفعل السيدة التي ستقاسمه أيام مجده: إنها حبيبته المفضلة وسيلة بن عمار (2). وخمّن بورقيبة أنّ أنسب وقت لإعلان طلاقه، وزواجه الجديد هو يوم الاحتفال بالنصر في معركة بنزرت. ولكن حساباته خابت، وتحولت الفرحة المنتظرة إلى مأساة. ما همّ! إنّ بورقيبة إذا قرّر أمراً فلن يرجعه عنه أحد. بادر إلى تطليق الفرنسية، غير أنه أجّل زواجه بوسيلة أشهراً أخرى. ما زال في بورقيبة بعض الحصافة إذاً! وهو ليس بليداً إلى الحد الذي يقيم فيه عرساً، والبلاد في مأتم!

«يا سيّد الأسياد، يا حبيبي بورقيبة الغالي» (مطلع أنشودة)

ولكن كيف لبورقيبة أن يجتاز هذه المحنة التي أوقع نفسه وشعبه فيها؟! جعل الرجل يزيّن لقومه مأساة بنزرت (سمّاها بورقيبة «ملحمة»). وأخذ يسوّقها للناس، وكأنها قربان تونس العظيم. ذاع في تلك الأيام، في تونس، نشيد «بني وطني»(3) الحماسي الذي غنّته المطربة عُليَّة. ومضى بورقيبة يصوّر نفسه، ويزعم لشعبه أنه «يوغرطة الجديد المنتصر»، فهو من قاوم فرنسا وقارعها، مثلما واجه يوغرطة القديم روما وجابهها. والفارق بينهما أنّ بورقيبة ربح معركته، وأما يوغرطة فانهزم. وداوى بورقيبة خيباته بمزيد من طقوس عبادة الذات، وتبجيل النفس. وشيئاً فشيئاً، تفاقمت مشكلة نرجسية الرجل أكثر. وجب في عصره على كل مدينة تونسية أن تسمي أكبر شوارعها باسمه. وتعيّن في بعض مناطق البلاد أن تبني قصوراً فخمة ليقيم فيها بورقيبة ليالي معدودة، في السنة. وفُرِض على الإذاعات الوطنية أن تخصص في كل يوم ساعات كاملة من بثها لإذاعة أناشيد تسبّح بحمد بورقيبة من قبيل: «يا سيّد الأسياد، يا حبيبي بورقيبة الغالي». ولقد اضطر أحياناً كل صاحب دكان صغير أن يضع صورة بورقيبة في واجهة محله ليبرهن أنه من أهل الولاء. ولزم على الشعب كله أن يحتفي سبعة أيام بلياليها، في كل عام بعيد ميلاد بورقيبة العظيم… ورويداً رويداً زادت وتيرة «العكاظيات» في تونس، وهذه مواسم يقيمها بورقيبة للشعراء. وكان يجلس في قصره الصيفي بسقانص، كما لو أنه هارون الرشيد محفوفاً بحاشيته، ويقف الشعراء في حضرته صفاً، فيكيل له كل واحد أبيات مدح وتمجيد، ثم ينتظر منه جائزة… في أثناء كل هذه «الهمروجة البورقيبية» ألغى الرجل كل الأحزاب السياسية في بلاده، وأمّم الصحافة، ودور النشر، وقمع طلاب الجامعات، وأسّس الشُعب المهنية (هياكل حزبية زُرعت في كل مؤسسة أو مصنع) لتكون بديلاً من النقابات، واستغل فرصة الانشغال الوطني والعربي بأحداث بنزرت ليغتال أهم خصم سياسي له في البلاد، صالح بن يوسف… وفي أواخر ذلك العام البائس (1961)، أسعفت الأقدار بورقيبة من جديد، فنجا بأعجوبة من نهايته الوخيمة المتوقعة. أفلت بورقيبة، وازداد صخبه المفتعل، وضجيجه المصطنع. غير أنّ الصخب ما استطاع أن يخفي أثر الجراح في وجدان شعب دفع غالياً ثمن رعونة زعيمه الذي أراد أن يراقص «فيلاً».

 

الهوامش:

(1) «المجاهد الأكبر» هو اللقب الرسمي الذي اصطفاه الرئيس بورقيبة لنفسه، من بين ألقابه الكثيرة التي انتقاها بعناية، أو أفاض بها المنافقون عليه. وخلال عهده المديد الذي استمر ثلاثة عقود، أنعم بورقيبة على ذاته بأسماء فخمة عديدة سرعان ما أصبح بعضها ألقاباً رسمية لرئيس تونس، فهو مثلا : «محرر المرأة»، و«باني البلاد»، و«صانع الأمة»، و«سيد الأسياد»، و«منقذ العباد»… ولقد وصل احتفاء بورقيبة بهذه الألقاب حداً جعله يأمر بنقشها على بوابة ضريحه الضخم المذهّب في مدينة المنستير. وضريح بورقيبة صرحٌ عجيب استمر بناؤه سنين، وكلّف التونسيين ميزانية معتبرة، وتولى الرئيس الأسبق بنفسه الإشراف على عمليات إنشائه. ثم ظل الرجل يزخرفه، ويؤثثه، ويسمّيه «روضة آل بورقيبة». والضريح الفخم اقتطعت أرضه من مقبرة المسلمين في مدينة المنستير، ولكنه يساوي وحده ربع مساحة المقبرة كلها.

(2) لم تكن وسيلة بن عمار، الزوجة الثانية للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، أسعد حالاً معه من زوجته الأولى ماتيلد لوران. فقد انتهى زواجهما أيضاً نهاية بالغة الفظاظة: خانها، ونبذها، وحقّرها، ثم طلقها على خلاف ما يقتضيه قانون الأحوال الشخصية التونسي الذي صاغه بورقيبة بنفسه، واعتبره مفخرته. وفي الأيام الأولى من زواج بورقيبة بوسيلة، خلع الرئيس على زوجته المحبوبة لقباً فخيماً انتقاه لها بنفسه: «الماجدة». وسريعاً ما صار هذا الاسم الجديد لقباً رسمياً للسيدة الأولى في تونس، فلا يجوز أن تسمّى في نشرات الأنباء من دون أن يقترن اسمها بهذا اللقب، ولا ينبغي أن تخاطَب في المحافل إلّا من خلاله. ثم دارت الأيام دورتها، وفتر حبّ الرئيس لـ«ماجدته»، فطردها من قصره، وأخرجها من حياته كلها. وبالطبع هو لم ينس أن يجرّدها من اللقب الذي منحه لها. وفي غمرة سخطه عليها، أسدل عليها ستاراً من الجفاء والهجران، فأمات ذكرها، وجعلها نسياً منسياً. وكذلك انتهت قصة عشق طويل، وحب جارف تملّك قلب سي الحبيب منذ أول مرة التقى فيها بوسيلة، في 12 نيسان/ أبريل 1943.

(3) اشتهر، في أعقاب حرب بنزرت الدامية، نشيد حماسي كتبه الشاعر عبد المجيد بن جدّو، ولحنه الشاذلي أنور، وغنّته المطربة التونسية عليّة. كان عنوان هذا القصيد «بني وطني». وأما مضمونه فمساندة لجنود تونس «ليوث الصدام، وجند الفداء»، وتنديدٌ بما اقترفته فرنسا من مجازر في بنزرت. ومن الطريف أنّ مقطعاً في القصيدة يفترض به أن يخاطب ديغول، كانت كلماته كالتالي: (فلو كان للخصم رأي سدادْ/ وعقل يميل به للرشادْ/ ويردعه عن ركوب الردى/ لما اختار نهج الوغى والجلادْ/ وسالت هباءً دِمَا الأبرياء). ولم يفهم بعض التونسيين من هو المقصود الحقيقي بهذا الخطاب، أهو ديغول حقاً، أم بورقيبة؟!

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى