السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [4]

 

لا يزال الحديث هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة، والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات» (والسيرة لاقت استحساناً لدى إعلام الطغاة في الخليج وأفردت صحيفة «الشرق الأوسط»، السعوديّة الصهيونيّة، صفحات طوالاً لها، كما أنّ محطّات تلفزيون لبنان نشرت ندوة له في «بيت المستقبل»، حيث تناوب جورج غانم ومروان حمادة وعمرو موسى على الثناء على المذكّرات، التي أستبعد أن يكون المادحون قد قرأوها، بسبب الملل الفظيع الذي تُحدثه في نفس القارئ. وعمرو موسى يثني على ما يرضى عنه طغاة الخليج ويشوّه سمعة عبد الناصر، وذلك أيضاً خدمة لطغاة الخليج الذين رعوا دوره المشين في الجامعة العربيّة). وعن العلاقة مع العدوّ الإسرائيلي، يتحدّث أمين كأنّه كان سائحاً في لبنان وكأنّ حزب «الكتائب» لم يكن حصانَ طروادة إسرائيلياً مزروعاً في لبنان ويتغذّى على التأجيج الطائفي البغيض وعلى الدعم الخارجي (الغربي والعربي والإسرائيلي) الذي عوَّل على ميليشيا الحزب للقضاء على المقاومة الفلسطينيّة واليسار (لا يجب أن ننسى عداء الحزب التاريخي وجرائمه ضدّ اليسار). لا بل تصل بأمين القحّة لأن يقول إنّه حصل على معلومات قبل الاجتياح الإسرائيلي عن قيام ضبّاط إسرائيليّين وعملاء من الـ»موساد» بعمليّات استطلاع على الأراضي اللبنانيّة. لكن كيف حصلتَ على المعلومات، يا أمين؟ من أبيك أم من أخيك أم من ابن عمتك، أم من نسيبك زوج ابنة موريس الجميّل؟ العلاقة مع إسرائيل كانت حزبيّة وعائليّة في آن. ثم، هل كنت أنتَ في منأى عن العلاقة مع إسرائيل عندما كانت بيروت الشرقيّة مرتَعاً ومَضافة لضباط وعملاء العدوّ، حيث افتتح أخوك مكتباً في فيلا ليكون مركزاً للـ«موساد»؟ كيف حصلت على المعلومات؟ ويقول إنّه حذّر حزب «الكتائب» من مغبّة التورّط في حرب إسرائيليّة، لكن ليس هناك من دليل على ذلك إلا في ما يصفه بـ»مدوّنات خاصّة في سجلّ اليوميّات» (ص. 67). لكنّ مصداقيّة أمين متدنّية جدّاً في هذا الكتاب.

هو مثلاً بالرغم من دلائل كثيرة وقراءة، يزعم أنّ علاقته مع بشير الجميّل كان ملؤها التفاهم والحب والوئام. هذا غير صحيح البتّة. لقد سألتُ قبل أيّام واحداً من المستشارين القريبين من بشير الجميّل (وهو يعرف أمين أيضاً جيّداً) وأكّد لي أنّ ذلك باطل، باطل. العلاقة بين الشقيقَين كانت سيّئة للغاية، وكانت تشوبها أشهر من الانقطاع والقطيعة، وكان بيار الجميّل يعمل دوماً على جمع ومصالحة الشقيقَيْن. في الكتاب، يجرؤ أمين على الزعم بأنّ اللقاء الأسبوعي بينهم (بيار وأمين وبشير) كان كافياً لتلافي أي إشكالات. لا، لم تكن العلاقة سيّئة للغاية، بل كان أمين غير مرتاح البتّة من الصعود المفاجئ لشقيقه وسيطرته على الجهاز الحربي للحزب بالرغم من ظهورٍ استعراضي لأمين في مجزرة تلّ الزعتر وغيرها من المواقع الحربيّة في زمن الحرب. وكان بشير يسخر من أمين ويذكر أفراد شلّة بشير ذلك ـــ وإن كانَ أمين لا يعلم ذلك فإنّه علمَ بذلك للتوّ من هذه الصفحةـــ وكان بشير لا يثق بهؤلاء الكتائبيّين الذين كانوا قريبين من أمين، فيما حرص أمين بعد اغتيال شقيقه على اجتذاب مستشاري بشير، وذلك لتلافي حصول تمرّد ضدّه (هو مثلاً قرّب جورج فريحة وعبدالله أبو حبيب وزاهي بستاني وغيرهم). وبشير الجميّل شكّل حالة تمرّد، ليس فقط ضدّ أمين وما مثّل في الحزب، بل حتى ضدّ أبيه. أذكر مرّة عندما اتصل والدي (كان ذلك قبل اجتياح 1982) ببيار الجميّل للمساعدة في تحرير مخطوف مسلم في بيروت الشرقيّة، كان جواب بيار أنّ بشير «بطّل يسمع منّي» أو «لم يعد يردّ عليّ». أذكر ذلك وكنت جالساً بقرب والدي أثناء المكالمة. وهناك حادثة كيف أنّ بيار الجميّل كان يستقلّ السيارة ويتوجّه إلى مقرّ القوات للاحتجاج على سلوك معيّن من بشير، وكان الأخير يختبئ ويرسل من يقول لوالده إنّه غير متواجد (روى ذلك كريم بقرادوني وغيره). وكان لكلٍّ من بشير وأمين جماعته المستقلّة، لا بل المعادية لجماعة الآخر، وكان لأمين وضع تنظيمي – عسكري خاص في منطقة المتن الشمالي، التي أرادها جزيرة في منأى عن نفوذ بشير وكان ذلك مصدر إزعاج لبشير. طبعاً، كان للولاء العائلي القبلي دور في تمنّع بشير عن اقتحام المتن الشمالي وإخضاعه بالقوّة لسيطرته ونفوذه ولم يرِد أن يتسبّب في إغضاب والده. وكان بشير (قبل بعد تنصيبه رئيساً) يريد أن يدفع بمستشاريه الخلّص للانخراط في حزب «الكتائب» لأنّه لم يكن يعتبر أنّ قادته كانوا خاضعين له بما فيه الكفاية.

لا، ويقول أمين إنّ بشير بات يشاركه الرأي في مسألة التحذير من الانخراط في حرب إسرائيليّة ضدّ «منظمة التحرير». كيف شاركك الرأي يا أمين وهو كان يعتمد في وجوده على جيش العدوّ الذي موّل حملته الانتخابيّة (بالمشاركة مع ميشال المرّ)؟ ويقول أمين (الذي كان وجهه يعكس حالة حداد في يوم تنصيب بشير) إنّ بشير طلب منه المساعدة على الانفتاح على الفريق الآخر. لكن ما حاجة بشير إلى ذلك وهو الذي كان يتواصل سرّاً مع المخابرات السوريّة كما أنّ النظام السعودي كان يدعمه ويطلب من وكيله في لبنان، صائب سلام، مساعدته لجعله مقبولاً من المسلمين؟ والسعي الحثيث من صائب سلام لجعل بشير مقبولاً عند المسلمين هو الذي أنهى زعامة صائب سلام في بيروت. (بلغ خبث الدور السعودي أنّ سعود الفيصل طلب من بشير الجميّل ــ الذي كان مسؤولاً عن مجازر وعمليّات قتل ضدّ الفلسطينيّين في لبنان والذي كان يعد بتحويل المخيّمات إما إلى حدائق للحيونات أو ملاعب تنس، كما أخبر مجلّة «تايم» في حينه ــ أن يتعهّد بحماية المخيّمات الفلسطينيّة (ص. 68). هذه كأن تأتمن الذئبَ على القطيع. ويردِّد أمين الرواية المعهودة كيف أنّ بشير تحوّل إلى «رجل دولة» بعد تنصيبه رئيساً من قبل قوات الاحتلال. يا رجل: لم يمضِ على تنصيبه في الرئاسة إلّا أيّام عندما اغتيل. كيف تلمس تحوّله؟ هل في أنّه بات يرتدي بزّة وربطة عنق وتخلّى عن لباس الميدان (الإسرائيلي)؟ رجل دولة في غضون أيّام؟ رجل الدولة عادة لقب يكتسبه من يقود بلاده في معركة أو من يغيّر الوضع السياسي والاقتصادي في بلاده ويخلق حالة جديدة. صحيح أنّ المصطلح يفتقر إلى العلميّة وهو عادة لقب تسبغه دول الغرب على أدواتها في الدول النامية (حتى السنيورة الذي كان من أكثر رؤساء الوزراء طائفيّة ومذهبيّة في تاريخ لبنان، والوحيد الذي جلب المفتي ليصلّي معه في السراي، وذلك في محاولة لاستثارة العصبيّات المذهبيّة، وهو الرجل الذي قاد معركة غربيّة ضدّ مقاومة إسرائيل في لبنان، وكان دوره في حرب تموّز يتركّز على تقويض رصيد حركة مقاومة إسرائيل في لبنان). ويذكر أمين أنّ كامل الأسعد كان من المتحمّسين «لانتخاب» بشير، لكنّه ينسى أن يذكر أنّ الأسعد نفسه كان تعهّد في تصريح مبكّر لجريدة «النهار»، في الأيّام الأولى للاجتياح، أنّه لا يمكن دستوريّاً إجراء انتخابات في ظلّ الاجتياح الإسرائيلي، لكنّه بعد اجتماع إقناعي وجيز مع ميشال المرّ غيّرَ رأيه هكذ فجأة. لا يُعوَّل على فتاوى أو آراء من تعرّض لإقناع ميشال المرّ في ذلك الصيف الطويل. ويجرؤ أمين الجميّل على القول إنّ «المقاومة اللبنانيّة» نجحت في إيصال «رمزها إلى رئاسة الجمهوريّة» (ص. 69).

أيّة مقاومة هي هذه التي تكون مرتهنة بالكامل لجيش الاحتلال الأجنبي الذي غزا لبنان. هناك تسميات عديدة يمكن إطلاقها على «القوات اللبنانيّة»، مثل القوات الكويزلينغيّة أو أداة الاحتلال أو صنيعة العدوّ الإسرائيلي، لكنّ كلمة مقاومة تليق بالقوات بقدر ما تليق صفة ثائر برفيق الحريري، وبقدر ما تليق صفة المقاومة برئاسة أمين الجميّل المشؤومة.

ويرد الحديث في الكتاب عن اجتماع نهاريا الذي أصبح في الذهن الانعزالي أسطورة من بطولات القائد. في الحقيقة، ليس هناك ما يشنّع سيرة بشير الجميّل أكثر من هذا اللقاء. هناك سرد تفصيلي له مع محاضر في كتاب جورج فريحة «مع بشير» (وكان فريحة أقرب إلى بشير من أخيه بكثير) وهو بحد ذاته يشرح طبيعة العلاقة بين السيّد والتابع. هذا رئيس جمهوريّة لبنان – طبعاً، هو كذلك فقط بحسب السردية الانعزاليّة لأنّه في عرف الكثير من اللبنانيّين لم يمكن إلا أداة نصّبها العدوّ في قصر بعبدا وبتسهيل أميركي وسعودي، ورعاية من إلياس سركيس، أضعف رئيس في تاريخ الجمهوريّة اللبنانيّة إلى أن صعد ميشال سليمان (مع جوازاته المزوّرة) إلى قصر بعبدا برعاية من فريق 8 آذار، قبل أن يتمرّد ضدّه – وهو يتعرّض للمهانة والذلّ والإذلال والتقريع من رئيس وزراء العدوّ الذي استدعاه كما كان بشير يستدعي مساعديه. في لقاء – أو استدعاء – بشير مع بيغن من العزّة والكرامة ما كان لجلوس سعد الحريري على كرسيٍّ في الرياض وتلقّي الصفع والركل والضرب والإهانات.

ويرد في الكتاب ذكرٌ للعلاقة التي كان الجميّل يحافظ عليها مع قادة في «منظمة التحرير الفلسطينيّة». وهذا الفصل من تاريخ «منظمة التحرير»، ومن قيادة عرفات تحديداً، يسلّط الضوء على فشل وتقصير وغباء القيادة الفلسطينيّة التي كانت مستعدّة لأن تقفز على جثث شهداء مجازر الكتائبيّين من أجل الحصول على مكاسب صغيرة (في حمأة حصار بيروت، زار أمين الجميّل المنطقة الغربيّة واجتمع إلى قادة المقاومة الفلسطينيّة ولم يطلب منه عرفات إلّا تهريب جورجينا رزق إلى بيروت الشرقيّة – كان يمكن لعرفات جعل الحصول على ضمانات دوليّة مكتوبة في شأن المخيمات الفلسطينيّة لكنّه وجد في مسألة تهريب جورجينا رزق أولويّة الأولويّات ــ). وهناك مراسلات خطّية بين أبو أياد وبين أمين الجميّل (وهناك صور من هذه المراسلات ممّا يؤكّد صحّتها. هذه الصفحة في العلاقة تساعد على فهم الكارثة التي كانت قيادة «منظّمة التحرير» و«الحركة الوطنيّة» مسؤولة عنها). هذه قيادات فشلت في معركة تشكيل مقاومة فاعلة ضد إسرائيل، وفشلت أيضاً في الحصول على مكاسب من النضال الدبلوماسي والتذاكي الذي كان ياسر عرفات مزهوّاً به طوال السنوات، إلى أن انتهى محاصراً في مبنى المقاطعة. وهذا الرابط السري الذي حافظ عليه قادة «منظمة التحرير» و«الحركة الوطنيّة» مع القيادات الانعزاليّة، كان خيانة لكلّ تضحيات مقاتلي ومناضلي الحركتَيْن، ويُعدّ انقلاباً على شعارات وخطَب طنطَنَ بها هؤلاء القادة. يناشد أبو أياد أمين الجميّل في رسالة في عزّ حصار بيروت (الذي شاركت فيه القوات الانعزاليّة) ويدعوه إلى عدم المشاركة في «المأساة» كي «لا يُسجّل على آل الجميّل أنهم ساهموا في ضرب القضيّة وذبحها» ( ص. 71). ألم يكن أبو أياد على علم بتاريخ آل الجميّل (عائلة بيار وصحبه كي لا نشمل كلّ عائلة الجميّل) في الحرب الأهليّة ومنذ عام 1958؟ إنّ دعوة أبو أياد، الجميّل لتحييد نفسه لا تختلف عن ذهنيّة قيادة عرفات التي آمنت بتحييد الحكومة الأميركيّة. لم تنهزم «منظّمة التحرير» (والحركة الوطنيّة) في صيف 1982، بل هما انتهجتا سياسات ومواقف جعلت من الهزيمة أمراً حتميّاً.

ويرتكب الجميّل شناعته الأكبر في محاولته البائسة في تلطيخ سمعة حبيب الشرتوني. يصرّ على أنّ الشرتوني جازَفَ بحياته واخترق حواجز الأمن الكتائبيّة مقابل مبلغ من المال (ص. 72). لا، يا أمين. هناك في هذا العالم مَن لا يرتهن للمال ومن لا ينفذ عمليّاتٍ طمعاً بالنفيس ولا ينحني من أجل القليل أو الكثير من الثروة. هناك يا أمين من لم يجُل على سفارات العرب والغرب في لبنان طمَعاً بمال أو نفوذ. الشرتوني انتمى إلى «الحزب السوري القومي الاجتماعي» الذي – اختلفتَ معه أم اتفقتَ – يمثِّل واحداً من الأحزاب العقائديّة التي تتطلّب من عناصرها ولاءً وقناعة، وليس إغراءً بالمال على طريقة بعض أحزاب الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة (مثل «الصاعقة» والحزب التقدمي الاشتراكي و«فتح» – والدكاكين الفاسدة التي أنشأها عرفات في طول لبنان وعرضه وبأسماء مختلفة، وكانت النافذة التي تسرّب العدوّ منها) التي فتحت المجال أمام عناصرها لارتكاب السرقات والشناعات واستغلال الناس – وحدها الأحزاب الشيوعيّة على اختلافها، والحزب القومي، شذّت عن هذا المسلك المشين وإن وصل بعض الفاسدين والمنتفعين إلى صفوفها. لكنّ الجميّل وقع على هذه الخبريّة ووجدها ملائمة لتغيير حبيب الشرتوني الذي يحظى بتأييد كبير من الشعب اللبناني: ينسى الجميّل أن يذكر، كما ينسى جماعة 14 آذار، أنّ تصنيف بشير الجميّل ليس محلّ إجماع بين الشعب اللبناني، مهما قال عنه في الماضي صائب سلام ومهما تقول أبواق النظام السعودي والإماراتي والقطري في لبنان هذه الأيّام. حبيب الشرتوني مجرم عند الانعزاليّين، وهو بطل بنظر مؤيّدي مقاومة إسرائيل في لبنان (العلمانيّون منهم والدينيّون). ومثل الكثير من مضمون كتاب الجميّل ليس هناك من مصدر لهذه المعلومة، لكن هذا كتاب يوثّق فيه الكاتب ما يرد فيه بالاستشهاد بـ»مدوّنات خاصّة في سجلّ اليوميّات». أي أنّ الجميّل يطلب من القارئ أن يثق به «على العمياني». ثمّ، إذا كان هذا الدافع، فلماذا لم يذكره عهد الجميّل ولماذا لم تذكره مواقع «القوّات» وقادتها إلى الآن؟ هكذا فقط يكتشف الجميّل معلومات جديدة ويذهلنا بها كأنّ كتابه مجموعة من وثائق السبق الصحافي الذي استحصل عليه أمين من «مدوّنات خاصة في سجلّ يوميّاته». الجميّل لا يكتفي بهذا المعلومة، بل يتّهم «القوات اللبنانيّة» بالضلوع، بصورة أو بأخرى، تقصيراً أو تواطؤاً مع الشرتوني. أي أنّ الجميل يريدك أن تقتنع بأنّ الشرتوني وضع المتفجّرة ضدّ صنيعة إسرائيل في لبنان، لأنّه طمع بالمال وذلك بالتواطؤ مع «القوّات اللبنانيّة». أجزم أنّ تحليلات جنبلاط أو فارس سعيد البورازانيّة في العلاقات الدوليّة أقلّ جنوناً وتفلّتاً من تحليل الجميّل هنا.

ويقول الجميّل إنّ بشير تغيّر وإنّه بات في آخر أيامه يحظى بعطف المسلمين. ما دليل أمين هنا؟ إنّ صائب سلام (وكيل الأمير سلطان بن العزيز في بيروت والذي كان كمال جنبلاط يصفه بمناسبة وغير مناسبة بـ«العميل السعودي») أحبَّ بشير واستبشر به خيراً (ص. 75)؟ نذكّر أمين بأنّ هناك في المنطقة الغربية من بيروت من اغتبط لمقتل بشير وأنّ الشرتوني يحظى عند كثيرين في لبنان بشعبيّة تفوق شعبيّة أمين نفسه في المتن. وعندما قصدَ البيروتي، فاروق شهاب الدين (وكان مفتاحاً انتخابيّاً لصائب سلام في البسطة) بكفيا للتهنئة بتنصيب بشير، لم يلبث أن تعرّض للاغتيال بعد عودته لأنّ بشير الجميل كان يمثّل نقيض المزاج الشعبي في الكثير من المناطق اللبنانيّة (لا أُنكر هنا أنّه كان هناك مزاج شعبي مسلم، في مناطق مختلفة من لبنان، تقبّلَ بشير الجميل في صيف 1982، وذلك بسبب حالة العداء العنصري التي كانت تسود ضدّ الشعب الفلسطيني آنذاك، والتي كانت مسؤولة عن حالة الترحيب – عند البعض كما أنه كان هناك هذا البعض في بيروت الغربية كما روى مرة زياد الرحباني في مقابلة قديمة مع تلفزيون لبنان – بجيش العدوّ في جنوب لبنان).

ويناقض الجميل نفسه عرضاً (ص. 75): بعدما كان يحاول إقناعنا بأنّه لم يكن هناك بين بشير وأمين إلّا التفاهم والوئام والحبّ والتفاهم، فإنّه في مقطع يعترف بالخلافات ويقول إنّه منذ انتخابات الرئاسة (أي تنصيب بشير من قبل جيش العدوّ) «ولّى زمن الاختلافات السياسيّة وحان وقت التضامن». أي اختلافات سياسيّة، يا أمين؟ ألم تقل لنا في كلّ ما سبق إنّه لم يكن بينك ببين شقيقك إلّا كلّ تفاهم وودّ وتحاب؟

ويجد الجميّل في ذكره لمجزرة صبرا وشاتيلا ضرورة لاعتناق دعاية العدوّ، إذ يتحدّث بسهولة عن «فدائيّي صبرا وشاتيلا» (ص. 76) وأنّ الاتفاق تناول «إجلاءهم عن لبنان». أي أنّ الجميل يفعل ما لم يفعله جيش العدوّ: جيش العدوّ تنصّل من المسؤوليّة وألقى باللائمة على عصابات يمينيّة كان هو قد درّبها على جرائم الحرب، لكنّه لم يجد الوقاحة في تبرير الجريمة نفسها. هذه فعَلها الجميّل بالنيابة عن العدوّ إذ يقول إنّ «منظمة التحرير» أخلّت بالتزاماتها عندما لم تجلِ «فدائيّي صبرا وشاتيلا» عن مخيميْ صبرا وشاتيلا. الجميّل يسوّغ هنا للعدوّ وأدواته جريمة الحرب. لكنّه يستدرك فيقول إنّ قادة حرب العدوّ، شارون ورفول إيتان (ينادي قائد أركان جيش العدو باسم الدلع له) لم يريدوا «التورّط مباشرة في عمليات تنظيف الأحياء الداخليّة والتجمّعات السكنيّة الفلسطينيّة والتي توقع الكثير من الضحايا المدنيّين والعسكريّين، وتنال بالتالي من سمعة إسرائيل ومعنويات جيشها» (الصفحة نفسها). كاتب هذه الكلمات كان رئيساً لجمهوريّة لبنان ويُطلق في الكتاب وصف «المقاوِم» على نفسه، وهو لقب لم يطلقه عليه أحدٌ من قبل، ولا حتى الانعزاليّون أنفسهم.

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى