السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [8]

 

لا يزال الحديثُ هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة، والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». قد تنتهي هذه السلسة النقديّة قبل انتهاء أجزاء مسلسل «الهيبة»، وقد تستمرّ بعد انتهاء «الهيبة». يصرّ الجميّل في كتابه، وبتكرار، على الجزم بأنّ شفيق الوزّان كان شريكاً في القرار الرئاسي في عهده. والوزان نفسه حسمَ الموضوع عندما نفى أن يكون شريكاً أو حتى أن يكون مطّلعاً على قرار الجميّل – على الأقل هذا ما قاله لي، كما أسلفتُ في الحلقة الأولى. لكنّ الوزّان لم يستقلْ من منصبه وتنعّمَ بالمنصب وتنعّم أيضاً بوسائل الإقناع التي كان الحكم يغدقها عليه. وينشر الجميّل ما يقول إنّه «محضر اجتماع» جَمَع الجميل وشفيق الوزان مع قائد الجيش. لكنّ المحضر المنشور (ص. 194) لا يتضمّن أيّ نقاش أو حديث، بل فرماناً من الجميّل بضرورة تدخّل الجيش في الجبل – في حرب ضدّ قسم من الشعب اللبناني. أي أنّ الرئيس «المقاوِم»، كان يقاوم شعبَه. لهذه الدرجة تمّ تبخيس كلمة مقاومة في لبنان، حتى أنّ ميليشيات إسرائيل باتت تحتكر المصطلح أكثر من الذين تعاقبوا على مرّ العقود على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. إنّ هذا «المحضر» عن الاجتماع المزعوم لا يبدو أكثر من محاولة مصطنعة، ومزيّفة، لربط قرار تدخّل الجيش بموافقة رئيس الحكومة.

ونشرَ الجميّل في متن الكتاب، صورة لنصّ رسالة أرسلها إليه رونالد ريغان، في أيلول / سبتمبر من عام 1983. تُدرك كم أنّ حكم الجميّل كان معلّقاً برابط صرّة مع الإدارة الأميركيّة. وبمجرّد أن زال الاحتلال العسكري الأميركي عن لبنان، سقط حكم الجميّل. هل يترك ذلك شكّاً بشأن طبيعة حكم النظام الكتائبي؟ وفي الرسالة يُطمئِن الرئيس الأميركي الجميّل أنّ القوّات الأميركيّة باقية في لبنان ــ كان ذلك قبل أقلّ من سنة من انسحابها جارّةً أذيال الخيبة (وليس هناك في لبنان إدراك بعد بشأن أبعاد طرد قوّات «حلف شمال الأطلسي» من لبنان). ريغان لم يُطلق وصف انسحاب على… انسحاب القوات الأميركيّة، بل وصفها في حينه بـ»إعادة انتشار»، أي أنّ القوّات الأميركيّة في لبنان ما زالت في حالة إعادة انتشار، لأنّ انسحابها الرسمي من لبنان لم يُعلن بعد، ربما بسبب ما يُسمّى بـ»حفظ ماء الوجه». إنّ إعادة انتشار القوات الأميركيّة من لبنان لم تكن إلّا اعترافاً شبه رسمي بفشل المهمّة العسكريّة الاحتلاليّة لأميركا وحلفائها. وترد في الرسالة إشادة وتعويل على الجيش اللبناني: ويكاد النصّ يكون نسخة طبق الأصل عن التصريحات الأميركيّة الحاليّة عن الجيش اللبناني بقيادة جوزيف عون (تمدّ الحكومة الأميركيّة قائد الجيش بكمّامات وصناديق غذاء لتوزيعها في لبنان، إذ إنّ أميركا تحاول أن تصنع زعامة جديدة في لبنان). والنص الذي نشره الجميّل يحمل تسطيراً على الجملة التي تقول: «أشعرُ بأعمق الإعجاب بشجاعتكم التي تواجهون بها التهديدات التي تستهدف حكومتكم». يبدو أنّ الجميّل من شدّة فرحه بالرسالة خطّ سطراً تحتها، ولهذا تظهر في الصورة في الكتاب. لنقُلْ إنّ التسطير هو تعبير عفوي عن فرحة الرئيس اللبناني بثناءٍ من راعيه الخارجي. ويقول ريغان في كلام نسمعه اليوم عن قائد الجيش الحالي (الذي يُعلن أسبوعيّاً عن كامل جهوزيّته – لكن تعريف الجهوزيّة عنده لا يعني صدّ عدوان إسرائيل أو تحرير الأرض، بل هو يعني مطاردة شوالات البطاطا على الحدود الشرقيّة): «نحن أعجبنا كثيراً بأداء رجال القوات اللبنانيّة المسلّحة الشجعان، والذين أظهروا بوضوح، في الأيّام الماضية، النواة لأداة فعّالة لتوسيع السلطة الحكوميّة والأمنيّة في سائر أرضكم المضطربة». أي أنّ هناك كلام كليشيهات تمنحه الحكومة الأميركيّة لأيّ حكومة أو ميليشيا تابعة لها في العالم – لا يختلف هذا الكلام عن ثناء الحكومة الأميركية للجيش العراقي المُرتهن لها. والذي صدّق شديد إعجاب الحكومة الأميركيّة بجيش إبراهيم طنّوس الفئوي الانعزالي، الذي انهزم في مواجهة ميليشيات لبنانيّة، يمكن له (أو لها) أن يصدِّق الإشادات الأميركيّة الحاليّة بالجيش اللبناني، على أنّه الحامي الوحيد للبنان. الجيش الذي يعجز عن منع الحكومة الإسرائيلية من خطف راعٍ، أو دجاجة حسين الشرتوني، لا يمكن له أن يكون حامياً للوطن بوجه عدوان إسرائيل. أي أنّ الحكومة الأميركيّة تريد من لبنان أن يكون ضعيفاً وعرضة لاستهداف إسرائيلي – كما في الماضي – لأنّ ذلك هو مطلب إسرائيلي، وإن كرّرته بعض الأبواق في لبنان.

ويظهر في الكتاب توكيد جديد على ما يعرفه كلّ الشعب اللبناني: الدرجة التي كان فيها عبد الحليم خدّام ضالعاً في الحرب الأهليّة ومسارها، وبأبشع صورة وبالنيابة عن حافظ الأسد. كان يكتب بخطّ يده مشاريع حلّ للأزمة اللبنانية، وكل حلوله كانت تؤدّي إلى مزيد من التعقيد وتفاقُم للأزمة. وانشقاق خدّام عن النظام السوري والتحاقه بالمحور الخليجي، بالإضافة إلى ابتياعه – حرفيّاً – من قبل رفيق الحريري، كلّ ذلك يجب أن يسلّط المزيد من الضوء على دور خدّام في الأزمة اللبنانيّة. لكنّ التحاق خدّام بصف النظام السعودي ضمَن له تغطية إيجابيّة في حياته ومماته من قبل فريق 14 آذار وإعلامه ومن قبل إعلام النفط والغاز. إنّ خدّام كان مسؤولاً – ومسؤوليّته هي مسؤوليّة النظام السوري – عن تعويم وخلق أسوأ نماذج للزعامات اللبنانيّة وعن قمع أصوات حرّة في لبنان (مثل قمع اليسار المتطرّف في سنوات سيطرة النظام السوري، خصوصاً في عامَي 1976 و1977). كيف يمكن أن يكون لخدّام هذا الدور الهائل في كلّ مسار الحرب الأهليّة، وليس هناك من كتاب واحد عنه وعن دوره في الصراع اللبناني بالعربية؟ الجواب أنّ سطوته كانت هائلة، إلى درجة أنّهم كانوا يخافون أن يكتبوا عن دوره، وكلّ ما كان يسمح به هو مقالات تستظهر ما كان يقوله – أو يمليه بالحرف – على الإعلاميّين: مثل مقالات سركيس نعّوم التي أطلقته في «النهار». وقد كتب الأكاديمي عضيد داويشا، عن «سوريا والأزمة اللبنانيّة» بعد حرب السنَتَيْن، وكانت الرواية مبنيّة على شهادة خدّام. وينشر الجميّل نصّاً بخط خدّام يقترح فيه «حلولاً» للأزمة اللبنانيّة. ومحاولة دعاة النظام السعودي إلى التنصّل من خدّام غير مقنعة، لأنّه كان منفِّذاً لإرادة حافظ الأسد، وهو مثلاً رعى احتضان مجرم الحرب، إيلي حبيقة، بالنيابة عن مشيئة الأسد. وقد عامل خدّام اللبنانيّين الذين كان يلتقي بهم بفظاظة وشراسة، وكان يشتم جورج حاوي وغيره من قادة الحركة الوطنيّة، وكانوا يرضخون له. وكان أثرياء لبنانيّون يحملون له الغالي والنفيس في طلب رضاه وطمَعاً بالمناصب في لبنان.

ويظهر في الكتاب مدى التنسيق الذي كان جارياً بين النظام السعودي وبين النظام السوري في عام 1983، وقد أرسل الملك فهد رسالة خطّية (بخط الأمير بندر) يطلب فيها من الجميّل رسمياً قبول مشروعٍ سوري للحلّ (ص. 203). ويُمعن الجميّل في عناده وإصراره على أنّ أيّ معارضة لـ»الكتائب» وحكم «الكتائب» في لبنان من قبل لبنانيين، سواء أكانوا مسلمين أم دروزاً أم مسيحيّين أم يساراً، لا يمكن أن تكون نابعة من أسباب حقيقيّة خاصّة بلبنان. هو، مثل أبيه من قبله، يردّ الأمر إلى مؤامرة خارجيّة. فـ»المسلمون» (بحسب وصف الطائفي بيار الجميل) لم يكونوا يعارضون «الكتائب» لأسباب تتعلّق بهم أو لاختلافهم مع عقيدة «الكتائب»، بل لأنّ «منظّمة التحرير» كانت تحتجزهم رهائن. لكنّ الصراع اللبناني استعرَ وازداد وحشيّة بعد خروج «منظّمة التحرير». أي أنّ «منظمة التحرير» – وهذا معروف لمَن كان قريباً من المقاومة الفلسطينيّة – كانت دائماً تحاول التخفيف من الصراع الأهلي في لبنان وكان أبو صالح في «فتح»، مثلاً، يستغلّ سفر ياسر عرفات كي يستخدم مدفعية المقاومة الفلسطينيّة في مؤازرة الحركة الوطنيّة. وكان الراحل كلوفيس مقصود يروي لنا حكاية ذلك الاجتماع الذي حضره، بالإضافة إلى عرفات، كمال جنبلاط وقادة المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة، وتناول طلب جنبلاط للسلاح. وكان عرفات قد صادر باخرة سلاح أتت لمصلحة الحركة الوطنيّة. وكان يقتّر في دعمه العسكري للحركة الوطنيّة. وكان بيار الجميّل يتهم منظمة التحرير باحتجاز المسلمين رهينة، ثم يتهم المنظمة بتنفيذ مؤامرة سوفياتيّة ضد «العالم الحرّ»، الذي ضمّ في الحرب الباردة كلّ القوى الفاشية والنازية على طراز «الكتائب». ألم يكن للمسلمين (حتى لا نتحدّث عن المسيحيين والملاحدة) أسبابهم لرفض «الكتائب»؟ هل كان المسلمون بعد مجزرة «السبت الأسود» (هل كانت مجزرة قتل على الهويّة ضد مسلمين هي أيضاً من «مقاومة» «الكتائب» ضدّ مشروع التوطين؟) بحاجة إلى سبب أو إلى ضغط من منظمة التحرير كي يكنّوا عداءً فظيعاً ضد «الكتائب»؟ ألم تكن ممارسات حزب «الكتائب» وصفّه ضدّ الشعب اللبناني (حتى لا نتطرّق إلى الشعب الفلسطيني لأنّ الحزب يقول إنّه ارتكب المجازر ضدّه في سياق مقاومة التوطين) سبباً كافياً لمعارضة الحزب في الحكم وخارجه؟

لا، يقول الجميّل إنّ النظام السوري هو الذي كان يوعز إلى عناصر الجيش بالانشقاق. صحيح. إنّ النظام السوري ودولة الاحتلال كانا يريدان بناء أجنحة موالية لهما في داخل الجيش اللبناني، لكن كانت هناك حالة نقمة حقيقيّة (طائفيّة ووطنيّة) ضدّ الجيش اللبناني ودوره الطائفي والفئوي. إنّ انشقاقات «جيش لبنان العربي» واللواء السادس في 6 شباط / فبراير، كانت بدافع وطني داخلي محض، وليس مؤامرة خارجيّة (في المقابل، كان تشكيل «طلائع جيش لبنان العربي» في البقاع بإيعاز مباشر من النظام السوري كما أنّ العدوّ شكّل له فرعاً للجيش اللبناني في جنوب لبنان المحتلّ، وكانت قيادة الجيش الفئوي تنسّق بانتظام مع جيش سعد حدّاد وأنطوان لحد). يرفض الجميّل وصحبه في القوى الانعزاليّة الاعتراف بالواقع على حقيقته. هم يحتاجون إلى إيهام النفس بأنّ المُحرّك خارجي محض. وهذه لا تختلف عن مقولة إنّ اللبنانيّين الذين بذلوا العرق والدم للدفاع عن أرضهم في الجنوب إنما فعلوا ذلك بإيعاز من النظام الإيراني. ويضيف الجميّل في هذا المجال ثناءً على قائد الجيش (الفئوي الانعزالي)، إبراهيم طنّوس، والذي تحدّث أحمد الخطيب (في مذكراته غير المنشورة بعد) عن دوره في الحرب الأهليّة في صف القوى الانعزاليّة (كان ضبّاط الجيش الكبار في سنوات الحرب وما قبلها، إما يُحسبون على شمعون أو على بيار الجميّل أو في حالات أخرى على سليمان فرنجيّة). وفي الكتاب لا يعترف الجميّل بلبنانيّة خصومه. كلّ الميليشيات في المقلب الآخر من العاصمة كانت في وصفه «ميليشيات موالية لدمشق» (ص. 207). لكن ألم تصطدم هذه الميليشيات الموالية لدمشق بـ… دمشق في عام 1976، عندما استنجدتم بها خانعين، وتدخّلت آنذاك عسكريّاً لإنقاذكم من هزيمة مُذلّة كان يمكن أن توفّر علينا سنوات إضافيّة من الحرب (هذا من دون المبالغة في تقدميّة النظام الذي كان سيُقام – يكفي أنّ عرفات وكمال جنبلاط كانا في القيادة). ثم، ألم تكونوا أنتم موالين لواشنطن وتل أبيب (وحتى دمشق في مرحلة الحرب الأولى؟) ويحاول الجميّل أن يصوّر نبيه برّي على أنّه كان متعاطفاً معه، أو أنه كان – كالعادة في التحليل الكتائبي – مُكرَهاً في مواقفه بسبب «الأيادي الخارجيّة»، وهي إيران في هذه الحالة. لكنّ برّي كان قائد المعارضة ضدّ حكم الجميّل ولم يكن ذلك إلا تعبيراً عن حالة نقمة شعبيّة عارمة، خصوصاً بعد فترة القمع والقصف الوحشي التي عانت منها الضاحية، وبعد توقيع اتفاقيّة 17 أيّار. يستطيع الجميّل أن يقرأ شهادة برّي ضدّه في كتاب نبيل هيثم، «أسكن هذا الكتاب».

كلام الجميّل عن أهل الضاحية كلام عنصري يتوافق مع العقيدة اليمينية العنصريّة للجميّل. يحتجّ زعيم الحزب الذي سطا على كل مقدّرات الدولة بالقوّة المسلّحة وبدعم من جيش عدوّ، ويعترض لأنّ هناك من بنى كوخاً له في الضاحية من دون «رخصة بناء» (ص. 207). هل حصل حزب «الكتائب» على رخصة عندما استولى على كلّ مستودعات الجيش اللبناني، وهل حصل على رخصة عندما شيّد بشير الجميّل مبنى خاصّاً لاستضافة محطة الـ»موساد» في بيروت الشرقيّة (وقد روى ذلك مستشار بشير الجميل، جورج فريحة في كتابه «مع بشير»). ويقول إنّه من الطبيعي أن تثير «هذه البيئة اهتمام الثوريّين والمتطرّفين والهامشيّين» (لاحظوا أنّ وصف البيئة في لبنان محصور دائماً بالشيعة، فيُقال بيئة حزب الله وبيئة الضاحية ولا يُقال مثلاً بيئة «الكتائب» أو بيئة «المستقبل» ويعود سبب ذلك إلى نظرة الاحتقار الطبَقي الدوني التي عانى منها شيعة لبنان في تاريخهم المعاصر، خصوصاً في «الزمن الجميل»). لكن ماذا يعني الجميّل بالهامشيّين؟ هل هذا وصف «كودي» للفقراء والمعذّبين؟ لكنّ الجميّل يزهو بأنّه أولى الضاحية في عهده عناية خاصّة. ما دليله؟ دليله أنّه قام ذات ليلة بزيارة عدد من مستشاريه وكان الاستقبال حاراً. نتعجّب كيف أنّ أهل الضاحية قادوا الانتفاضة ضدّ حكم الجميّل الذي زارهم ذات ليلة ليلاء. ألَم تكفِ الزيارة لتهدئة خواطرهم؟ ماذا يريدون أكثر من ذلك؟ زيارة نهاريّة للجميّل؟

ويعترف الجميّل بأنّ حالة خوف اعترت الضاحية، آنذاك، لكنّه ينسبها إلى «تجاوزات إثر مجازر صبرا وشاتيلا» (ص. 208). لكنه لا يُقرّ بأنّ الذي ارتكب التجاوزات في بيروت الغربيّة ومحيطها لم يكن إلّا الجيش الفئوي والميليشيات الانعزاليّة المتحالفة معها. لكن الجميّل انشغل يومها: إذ أنّه يقول للقارئ الغربي (الوهمي) إنّه وجد نفسه «بسرعة كبيرة في مواجهة المدّ الأصولي الإيراني». ها قد أقنع الجميّل نفسه (وأقنع الرجل الأبيض) بأنّ الثورة ضدّ نظامه في الجبل وبيروت والضاحية والشمال، لم تكن إلّا بسبب المدّ الأصولي الإيراني الذي جنّد دروزاً وشيعة وسنّة ومسيحيّين لتنفيذ مآربه.

ويقول الجميّل عن المدّ الأصولي الإيراني إنّه صاحب وصف «الإمبراطوريّة المُحجَّبة». ألم أقل لكم إنّ الجميّل يتوجّه بكتابه إلى الغرب – لا بل إلى اليمين الإسلاموفوبي في الغرب؟ يعترف الجميّل بهوسه العدائي بالحجاب هنا، ويحشره في حديثه عن انتفاضة شعبيّة ضدّ حكمه الظالم. وبالفعل، فقد عبّر عن هذه الأفكار الإسلاموفوبيّة من قبل في كتاب له بالفرنسيّة، بعنوان «الرهان الكبير». ويقول إنّ الإيرانيّين فرضوا سلطانهم على منطقة الضاحية الجنوبيّة والبقاع، تماماً كما كان أبوه يقول إنّ «منظّمة التحرير» فرضت سلطانها على كلّ المنطقة الغربيّة والمناطق ذات الأكثريّة الإسلاميّة. لا يقبل أمثال هؤلاء أن يكون للمختلف عنهم في الطائفة والعقيدة عقل مستقل وإرادة ذاتيّة. هؤلاء دائماً مسيّرون من دون وعي ذاتي، ولهذا فإنّ حزب «الكتائب» يزعم بأنّ حتى الذين يناصبونهم العداء هم في الواقع حلفاء لهم في سرّهم. أي أنّ اللبناني الذي عانى التعذيب والقتل على يد «الكتائب» هو في سرّه متعاطف مع «الكتائب» لولا سطوة «اليد الخارجيّة» (واليد الخارجيّة تتغيّر هويّتها، ينسى البعض كم صرّح بيار الجميّل، الجد، ضدّ «اليسار الدولي». كانت تصريحاته اليوميّة في أول سنة الحرب – وقبلها – تركّز على خطر «اليسار الدولي». وكان ذلك قبل اختراع مقولة إنّ الحزب لم يحارب ويرتكب المجازر إلّا لمنع التوطين). وينقل الجميّل عن كتابه الصادر في عام 1989 ما تحدّث به للغرب عن «إساءة» الحرس الثوري «للتقاليد اللبنانيّة» (ص. 168). لكن ما هي التقاليد اللبنانيّة التي يتحدّث عنها الجميّل؟ التبّولة والكبّة، أم هي المجازر الطائفيّة، أم العتابا والميجانا (طبعاً، معظم ما نظنّ أنّه تقاليد لبنانيّة هو ليس لبنانيّاً صرفاً بل هو مشتركٌ بين شعوب المشرق العربي). ويزعم الجميّل، على طريقة اليمين الغربي الإسلاموفوبي، بأنّ ارتداء التشادور هو مفروض بالقوة. أي أنّه ليس للمرأة المسلمة حرّية ارتداء الملبس (وفرض لباس على المرأة نادر في الدول الإسلاميّة باستثناء إيران والسعوديّة – والأخيرة حليفة الجميّل ودول الغرب). وحزنَ الجميّل على نسيان ربطة العنق عند الرجال، لأنّ ربطة العنق وربطة الفراشة (البابيّون) هما من صلب التقاليد اللبنانيّة التي يتحدّث عنها الجميّل هنا.

وأسف الجميّل لمنع الكحول «كليّاً». وأضاف أنّ «القادم الإيراني» أثّر في طرق التدريس وحتى في أسلوب الوعظ. والجميّل ضليع في شؤون الوعظ الديني الشيعي وهو، من خلال تجواله بين الحوزات، لاحظ فارقاً بعد قدوم «الإيراني». لكنّ الجميّل بعدما استفاض في الحديث عن الإكراه والقسر والفرض يعترف بأنّ الأهالي تضامنوا في ثورتهم ضدّه مع أعدائه «طوعاً أو كرها». لكن كيف حدث الإكراه؟ الحرس الثوري الإيراني لم يكن موجوداً في بيروت الغربية والضاحية أو الجبل حيث انطلقت الثورة ضدّ حكم الجميّل الظالم. ومصطلحات الجميّل تترك القارئ (الغربي، طبعاً) بانطباع أن أعداء الجميّل هم جيوش معادية (يقول عنهم إنّهم «القوتان المعاديتان») فيما هم أهالي البلد الذي نُصِّبَ على رئاسته – بقوّة غزو أجنبي. ويضيف الجميّل أنّ قوى فلسطينيّة كانت تحاول «استعادة» مخيمَي صبرا وشاتيلا، أي أنّه يعترف بأنّ قوّاته الطائفيّة كانت تحتلّ المخيّمات، وبأمر مباشر من العدوّ الإسرائيلي.

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى