«القاعدة الخلفية للثوار الجزائريين».. ما لا تعرفه عن الدعم الليبي للثورة الجزائرية

 

أثار الموقف الرسمي الجزائري القاضي برفض أيّ تدخلٍ عسكريٍ أجنبيٍ في ليبيا، والعمل من أجل بلورة حلٍ ليبيٍ للأزمة المتواصلة منذ الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر  القذافي سنة 2011 الكثير من الجدل، خصوصًا بعد أن بدأت الأزمة الليبية في أخذ منحى الصراع الدولي بعد إعلان تركيا عن إرسال جزءٍ من قواتها لدعم حكومة الوفاق، في وقتٍ تقف كلٌ من مصر، والإمارات، وروسيا، وبعض الدول العظمى وراء الجنرال خليفة حفتر الذي يقود حربًا منذ أبريل (نيسان) الماضي للسيطرة على العاصمة الليبية طرابلس.

وأمام هذه التطورات تتمسك الجزائر بموقفها الرافض لأي تدخلٍ عسكري أجنبيٍ في ليبيا، ويأتي هذا الموقف ليعكس حجم العلاقات التي تربط البلدين، كون ليبيا كانت من أكثر الدول المساندة والداعمة لكفاح الجزائريين ضد المستعمر الفرنسي إبان الثورة التحريرية الجزائرية منتصف القرن الماضي، فقد كانت طرابلس القاعدة الخلفية للثوار الجزائريين، ومركزًا للاجتماعات المصيرية التي حددّت شكل وصورة الدولة الجزائرية بعد الاستقلال.

«الحركة السنوسية» الليبية.. نضالٌ ضد الاستعمار الفرنسي والإيطالي

في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تحرق فيه الأرض الجزائرية شبرًا شبرًا، ضاربةً عرض الحائط بكلّ ما يمت للإنسانية وحقوق الإنسان بصلة، وكانت تشارف على إنهاء احتلال الجزائر؛ ظهرت في ليبيا حركة صوفية على يد الشيخ محمد بن علي السنوسي الذي أثر الهجرة من الجزائر والاستقرار ببرقة الليبية لينشر دعوته في إطار ما يعرف بـ«الحركة السنوسية» التي جعلت الجهاد ضد المحتل الفرنسي والإيطالي شعارًا لها.

استطاعت الحركة السنوسية التأثير في المقاومات الشعبية الجزائرية التي اندلعت لمقاومة الاحتلال الفرنسي، من خلال ثورة الشيخ الشريف محمد بن عبد الله في الفترة ما بين سنتي 1842 و1895. وهي الثورة التي شهدتها الصحراء الجزائرية واستطاعت وقف المد الاستعماري الفرنسي باتجاه الصحراء لنصف قرنٍ، ناسفة بذلك الأسطورة الفرنسية التي كانت تتحدث عن قدرة الجيش الفرنسي باحتلال كامل الجزائر في ظرف أسابيع معدودة.

وبالعودة إلى الحركة السنوسية ودعمها الكبير لجهاد الجزائريين ضد فرنسا؛ يذكر محمد بن عثمان الحشائشي في كتابه «رحلة الحشائشي الى ليبيا» أنّ مؤسس الحركة السنوسية في ليبيا الشيخ ابن السنوسي ندب أحد تلامذته وهو محمد بن الصادق كي يوصل الدعم المالي إلى الأمير عبد القادر الجزائري الذي كان يخوض ثورته بالغرب الجزائري.

وأعدّ كتيبة من المقاتلين الليبيين والعرب وأرسلهم إلى الجزائر لمساندة الثورات المندلعة في الربع الأخير من القرن العشرين. وهي الممارسات التي جعلت فرنسا توجه الإتهام إلى شيخ الحركة السنوسية بالتسبب في اندلاع ثورتي الشريف بن عبد الله في الصحراء الجزائرية وثورة محمد بن تكوك بمنطقة الظهرة سنة 1881.

وبحسب المؤرخ الجزائري محمد العربي الزبيري في كتابه «مقاومة الجنوب  للاحتلال الفرنسي»؛ شنّت الحركة السنوسية في ليبيا – نصرةً للمقاومة الشعبية الجزائرية – عدّة هجمات ضد الاحتلال الفرنسي؛ انطلاقًا من الأراضي الليبية، والتشادية، والنيجيرية، التي كانت تنشط بها الحركة، وكان لها الدور الهام أيضًا في اندلاع ثورة الهقار ضد المستعمر الفرنسي التي قادتها قبائل الطوارق والشعانبة، إضافة إلى الحركة السنوسية الليبية.

ويصف المؤرخ عبد الله مقلاتي في كتابه «ليبيا والثورة الجزائرية» بدايات التضامن الليبي الجزائري عقب الاحتلال الفرنسي للجزائر فيقول: «لم يكن حال الليبيين أحسن من حالة جيرانهم الجزائريين، حين وصل الجيش الفرنسي إلى أقصى الحدود الجنوبية الشرقية الجزائرية المتاخمة للحدود الليبية سنة 1886، وهو الأمر الذي شعر من خلاله الليبيون بالخطر وجعلهم يعلنون الجهاد الشعبي ضدّ فرنسا».

بدأ الدعم الليبي للكفاح الجزائري بحسب المقلاتي منذ انطلاق الحملة الفرنسية على الجزائر في  14 يونيو (حزيران) 1830. حين سارع يوسف باشا القرماني إلى محاولة التصدي للأسطول رفقة باي تونس، غير أنهما فشلا في ذلك، كما كان للحركة السنوسية – كما ذكرنا سابقًا – دورٌ كبير في دعم المقاومات الشعبية الجزائرية الليبية المشتركة؛ إذ دخلت في معارك شرسة ضدّ فرنسا أهمها معركة حصار مدينة جانت (أقصى الجنوب الشرقي الجزائري)، والتي انتصرت فيها المقاومة الشعبية وتمكنت من الوصول إلى مدينة عين صالح في أقصى الجنوب الجزائري.

ولم يتوقف التضامن الشعبي بين البلدين في اتجاه الدعم الليبي لكفاح الجزائريين فقط، فيذكر الباحث محمد ودوع  في دراسته المنشورة على مجلة «الدراسات التاريخية» تحت عنوان «دور الجزائريين في دعم الجهاد الليبي»  أنّه «بعد سقوط ليبيا تحت رزح الاستعمار الإيطالي سنة 1911، تأكد الجزائريون أن حياة الليبيين في ظلّ الاحتلال الإيطالي لن تكون أحسن من عيشهم تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، وهو الأمر الذي دفع بالآلاف من الجزائريين للجوء إلى ليبيا من أجل مساعدتهم في الجهاد ضد الاحتلال الإيطالي» .

ومن بين المعارك التي ساهم فيها الجزائريون في الدفاع عن الأراضي الليبية «معركة القرضابية» التي قادها الشيخ الجزائري مصطفى عوني التفراوي، وهي المعركة التي عرفت هزيمة كاسحة للطليان، كما وقف الجزائريون مع ثورة عمر  المختار من خلال حشد الدعم المالي والعسكري لها.

«القاعدة الخلفية للثوار».. كيف انتفض الليبيون لدعم الثورة الجزائرية؟

لم يشذ الملك الليبي الراحل محمد إدريس السنوسي عن القاعدة التي انتهجها الليبيون في دعمهم كفاح الشعب الجزائري، فبعد الاستقلال عن إيطاليا وقوات الحلفاء في 24 ديسمبر (كانون الأوّل) عام 1951، وعلى الرغم الضغط الفرنسي على الدول التي كانت تبدي مواقف متعاطفة مع الجزائريين وثورتهم؛ لم يتراجع الملك الليبي إدريس السنوسي عن إعلان دعمه للجزائريين.

فقد ذكر مصطفى بن حليم في شهادته على الدعم الليبي للثورة الجزائرية من خلال كتابه «صفحات مطوية من تاريخ ليبيا السياسي»، تفاصيل موافقة الملك الليبي على طلب الرئيس جمال عبد الناصر السماح بأن تكون الأراضي الليبية منطلقًا لتهريب السلاح إلى الثوار الجزائريين، وهو الطلب الذي شهد موافقة من الملك الليبي شريطة أن لا تتعرض ليبيا إلى حربٍ من طرف فرنسا.

كذلك سعت ليبيا من خلال حضورها «مؤتمر باندونغ لمناهضة الاستعمار» سنة 1955، إلى إعطاء الثورة الجزائرية بُعدًا عالميًا. وعلى الجانب المحلي سعت الحكومة الليبية إلى تعزيز دعمها الشعبي من خلال السماح للجان الشعبية بجمع التبرعات لفائدة الثورة الجزائرية. وأشار أحمد بن بلّة في  مذكراته إلى أنّ الثورة التحريرية التي انطلقت بسلاحٍ قليلٍ كان أغلبه من ليبيا، بعد أن وصلت حوالي 450 بندقية إيطالية من غدامس إلى بسكرة عشية اندلاع الثورة التحريرية.

وفي  تحليله للموقف الليبي الإيجابي من الثورة الجزائرية يرى الكاتب محمد ودوع في كتابه «الدعم» أنّ السلطات الليبية كانت ترى في الثورة الجزائرية فرصةً لفك العزلة التي كانت تعيشها طرابلس، وكذا تصفية لحساباتها مع الاستعمار الفرنسي الذي كان لا يزال مستعمرًا لمنطقة فزان بالجنوب الليبي.

وأمام هذا التهديد الذي شكلته الجبهة الليبية من خلال تحولها إلى قاعدة خلفية للثوار الجزائرية، عملت المخابرات الفرنسية  على اغتيال أحمد بن بلّة – القيادي في جبهة التحرير، وأوّل رئيس للجزائر – والذي كان يشغل منصب ممثل الثورة الجزائرية في ليبيا ومنسقًا معها بخصوص الدعم المقدم للثوار، في محاولةٍ منها لضرب الجهود الليبية لدعم الثورة الجزائرية، غير أنّ المحاولة باءت في الفشل بعد أن نجحت قوات الأمن الليبي في إنهائها على الحدود التونسية.

ويذكر مصطفى بن حليم الذي كان يشغل منصب رئيس وزراء ليبيا في خمسينات القرن الماضي أنّ الملك الليبي إدريس السنوسي قام باستقبال وفدٍ من جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ووعدها بتقديم الدعم المالي والسماح بتهريب الأسلحة انطلاقًا من الحدود الليبية الغربية، والتزم الوفد الجزائري أيضًا بالعمل على تحقيق مطالب الثورة الجزائرية.

وبإعلان الجزائريين عن تأسيس الحكومة المؤقتة في القاهرة يوم 19 سبتمبر (أيلول) 1958، سارعت الحكومة الليبية إلى الاعتراف بها بعد خمس دقائق فقط من إعلان تشكيلها، وقد اعتبرت الحكومة الليبية تأسيس الحكومة الجزائرية خطوة أساسية نحو الاستقلال، مناشدةً دول العالم بالاعتراف بالحكومة الجزائرية.

وأمام هذا الدعم والإحتفاء الليبي الرسمي بالقضية الجزائرية، تحوّلت طرابلس إلى مقرٍ جديدٍ للحكومة الجزائرية المشكلة في المنفى، فيذكر يوسف بن خذة أنّ نقل النشاط السياسي لجبهة التحرير من القاهرة، وتونس، إلى طرابلس يعود إلى الأجواء التي وفرتها القيادة الليبية للثوار الجزائريين، والتي سمحت لهم بالنضال.

ولم يختلف الموقف الرسمي عن الموقف الشعبي الليبي الذي كان يؤمن بحق  الجزائريين في تقرير مصيرهم، واحتفالًا بالذكرى السادسة لاندلاع الثورة الجزائريية أقام أهل طرابلس مؤتمرًا شعبيًا لنصرة الجزائر، كان من بين قراراته إعلان المقاطعة الشعبية لفرنسا وقطع العلاقات معها، وهي الخطوة التي جعلت العلاقات بين فرنسا، وليبيا، في أسوأ حالاتها.

في الوقت الذي كانت تسير فيه الجزائر إلى الإستقلال النهائي عن فرنسا، كان لابد من إجراء اجتماعٍ بين قادة الثورة التحريرية للاتفاق على شكل الحكم ومستقبل الجزائر المستقلة، فكان أن اتفقت جبهة التحرير على عقدٍ مؤتمرٍ لها في الفترة الممتدة بين 27 مايو (أيار) إلى الرابع من يونيو 1962، والذي عرف تاريخيًا بمؤتمر طرابلس.

مؤتمر طرابلس 1962

حضر المؤتمر قيادات الثورة السياسية والعسكرية كأعضاء الحكومة المؤقتة وعلى رأسهم ابن يوسف بن خدة والقيادة العامة للأركان، وعلى رأسهم العقيد هواري بومدين، وقادة الولايات التاريخية، وبعض المسؤولين الذين أفرج عنهم بعد توقيع «اتفاقية إيفيان»، وخلال هذا المؤتمر تم تحديد المعالم الكبرى للدولة الجزائرية في نظامها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، وختم بوثيقةٍ تاريخية عرفت باسم وثيقة طرابلس أنهت الصراع على السلطة بالجزائر باعتماد الحزب الواحد، وانتهاج النهج الاشتراكي.

ساسةبوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى