المؤذنون في القاهرة المملوكية

لم تقتصر وظيفة المؤذن على إعلام الناس بوقت الصلاة ولكنه قام بمهمات أخرى؛ منها التسبيح في الليل. كانت البداية في مصر أيام مسلمة بن مخلد عندما سمع نواقيس في الليل فشكا إلى شرحبيل، عريف المؤذنين، فأمر بزيادة التسبيح ليلاً ثم أمر الوالي أحمد بن طولون بتخصيص حجرة في المسجد يقيم بها اثنا عشر رجلاً من المكبرين وكل ليلة يسبحون ويحمدون الله ويقرأون القرآن ويتوسلون وينشدون قصائد زهدية ثم يؤذنون وقت الصلاة. واستمر ذلك حتى عصر المماليك فأحدثوا التذكير والتسبيح في نهار الجمعة، ثم أمر القاضي تقي الدين السبكي المؤذنين بزيادة «استغفر الله» ثلاث مرات، و «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام»، بعد صلاتي الصبح والمغرب، وكذلك «اللهم أجرنا من النار» سبع مرات، و «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»، ثلاثاً.

وحددت بعض وثائق الوقف مهمات أخرى للمؤذنين، فقد جرت العادة أن يقوموا بالتبليغ خلف الإمام ويقرأون بعد الصلاة سورة الإخلاص والمعوذتين والحزب المعتاد والأذكار السلطانية ويصلون على النبي ويختمون والتأمين على الدعاء ويهللون ويكبرون قبل صلاة العيد وبعده، وكذلك قبل صلاة الجمعة وبعدها. كما كان على المؤذن أن يخرج في لقاء الشخصيات المهمة كالخليفة أو السلطان أو القاضي مع الجند والأعيان والقراء والوزير، وفي أحيان أخرى كان المؤذن يدعو للسلطان عند توليه الحكم. ولعب المؤذن دور «المسحراتي» في رمضان، فعند وقت السحر ينادي بالسحور أولاً، ثم يشرب الماء، ثم ينادي قرب الأذان، وعندها يطفئ الفانوس، وهذا يعني امتناع الناس عن الطعام والشراب.

كان قاضي قضاة الشافعية يختار المؤذن ويمتحنه المحتسب، وأحياناً كان صاحب الوقف يختار المؤذن بنفسه، في حين أعطى السلطان الناصر محمد بن قلاوون الحق لشيخ الخانقاه في اختيار المؤذن من بين أتباعه. ومن خلال كتب السير والتراجم، وجدنا أن هذه الوظيفة تكاد تكون وراثية في أسرة واحدة. فقد تولى أبو مسلم سالم بن عامر المرادي وأسرته وظيفة المؤذن في جامع عمرو بن العاص. وفي الحرم النبوي تولى أغلب أفراد أسرة الكارزوني الأذان ورئاسته لفترة طويلة، وكذلك عائلة ياقوت المكي وعائلة الريس. ويبدو أن راتب المؤذن لم يكن يكفيه فكان يجمع بين وظائف، منها نيابة القضاء.

وهناك من جمع بين الأذان وأمر الزمام والسقاية في الحرم، أو يكون مؤذناً ومؤدباً للأطفال، أو يعطي الإجازة في رواية الحديث الشريف، أو يُدرس الفقه. وأحياناً كان المؤذن يقوم بوظيفة الميقاتي، فقد نصَّت وثيقة وقف للأمير قاني باي الرماح أن يكون أحد المؤذنين ملماً بعلم الميقات، أو يجمع بين الأذان ومشيخة القراءة. وفي شهر رمضان كان الوضع كريماً للغاية فقد اختار السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون 48 مؤذناً للمسجد والجامع والسبيل والمدرسة في القاهرة وأجزل لهم العطاء، من رواتب وغذاء. أما عن موضع أداء الأذان، فلم يكن للمسجد في أول الأمر مئذنة أو محراب أو منبر، ولكن حدث ذلك تباعاً مع تطور العمارة والبناء، بخاصة في عصر الدولة الأموية.

ولم تكن المقصورة قاصرة على صلاة الوالي أو الخليفة، بل كان المؤذن يؤدي منها عمله. وهناك دكة المؤذنين التي أمر ببنائها المعتصم العباسي، بسبب اتساع المسجد والصحن، ولذا تعذر وصول صوت الإمام إلى جموع المصلين، فسميت بدكة المُبلغ، أو دكة المؤذن، حيث وُضِعت في وسط المسجد. ويصعد عليها المؤذن عند بدء دخول وقت الصلاة للأذان ثم يجلس مؤذنون آخرون في الدكة، فإذا حان وقت الصلاة يؤدون الأذان مرة أخرى، بالتالي فالدكة داخل المسجد كانت تقوم مقام المئذنة خارجه. وعلى الدكة أيضاً كان المؤذنون بعد صلاة ركعتي السنة ينشدون: «اللهم صل وسلم وبارك على أنبل العرب والعجم وإمام مكة والمدينة الذي فضله العنكبوت ونسج على الغار نسيجه وانفلق القمر أمامه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه». ثم يردد الباقون بصوت عالٍ بعض التسابيح والحمد لله ويصلون على النبي.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى