دور «لبنان الكبير»: بداياته ونهاياته

 

لو لم تقرّر بريطانيا العظمى إقامة مستعمرة استيطانية صهيونية على أرض فلسطين، إبان الحرب العالمية الأولى، لما وُجد «لبنان الكبير» عام 1920. دور «لبنان الكبير» الأساسي تمحور، آنذاك، حول كيان مسيحي يُفترض به أن يلعب دور «منطقة عازلة» بين دولة «يهودية»، ودول إسلامية مجاورة. وأكثر ما صبا إليه المستعمران الغربيان إلغاء أيّ فكرة لبناء دول وطنية / قومية من رؤوس سكّان المنطقة، والحفاظ على المبدأ الديني / الطائفي كهوية لها الأولوية المطلقة على كلّ ما عداها. ساعد تاريخ السلطنة العثمانية الملي في تعبيد الطريق أمام الاستعمار البريطاني الذي لجأ إلى استقدام عائلة آل شريف الحسيني من الجزيرة العربية، وتنصيب أبنائها على دول الهلال الخصيب باسم الهوية الدينية ومركز العائلة الديني، شرط تنازلها عن فلسطين، أي أنّه لم يتم تعيين رؤساء عراقيين، أو سوريين، أو أردنيين، لقيادة بلادهم، بل استُقدمت عائلة من خارج المحيط «السوراقي» وهي مدجّنة بالكامل، ومنصاعة للإرادة البريطانية كونها لا تمثل شعباً، بل مجرّد رمز ديني.

في موازاة ذلك، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، تعلّق العرب المسيحيون بالهوية العربية وأعادوا إحياء اللغة العربية، بعدما كانت العثمانية اللغة الرسمية، وباشروا في ما بعد بتحديد معالم القومية العربية، وكانوا على رأس الأحزاب القومية التي تتبنّى التراث العربي، فوجد الغرب أنّ هذه التيارات القومية / الوطنية تمثّل تهديداً لوجوده الاستعماري، وبدأ بمحاربتها عبر تقسيم السكان في لبنان إلى مسلم ومسيحي.

منذ إنشاء لبنان – المنطقة العازلة – بدأ تركيب أيديولوجيا خاصّة بهذا الكيان المسيحي لفصله عن محيطه، فإذا به فينيقي الأصل، غربي الهوى، يتكلّم أبناؤه المسيحيون اللغة الفرنسية في منازلهم ومع أبنائهم، ويفاخرون في عدم تمكّنهم من اللغة العربية التي يأنفونها ويعتبرونها أدنى مستوى، كما تُظهر أسماؤهم تعلّقهم بالحضارة الغربية، فهُم بيار وريمون وبول وجانيت وكوليت… وساهمت مدارس الإرساليات في ترسيخ هذا المفهوم ومعاقبة كل من يلفظ كلمة باللغة العربية، فتلاشى التيار العربي الذي كان سائداً بين المسيحيين حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وعمل الغرب على وأد هذه الفكرة، ودعم التيار الذي يؤدلج إلى أنّ العربي هو مسلم بالضرورة، وبُتر تاريخ الحضارة العربية من جذوره الوثنية والمسيحية، وحتى الإلحادية، فلا هوية للعربي إلّا الإسلام، ووقعت الدول العربية في فخ إلغاء نفسها وأصولها تماماً كما خطّط لها المستعمر الغربي. وها هي أعداد كبيرة من رجال الدين والحركات الإسلامية تنفي صفة العربي عن ما هو خارج دينها، وتحرّض على قتله، أي قتل الهوية الوطنية / القومية. وهذا تماماً ما حصل في خضم الحرب الأهلية عام 1975.

عمل الغرب الاستعماري، خلال الفترة الممتدة بين عامَي 1920 و1975، على دعم لبنان الكبير المسيحي والمنطقة العازلة التي هي بمثابة مساحة جغرافية تمتص ارتدادات المواجهة الإسلامية – اليهودية. ليس هذا فقط، بل أيضاً تحويل لبنان إلى منطقة ترانزيت وسوق عكاظ يتم عبر مصارفه الأجنبية تسييل النفط إلى دولارات، وتدجين أبناء النخب العربية عبر جامعاته الغربية، فيصبح المسلم متقبّلاً للغرب ومنقاداً له.

دور المدارس والجامعات الأجنبية

واكبت الإرساليات الأجنبية الهجمة الاستعمارية الغربية على المنطقة، وعملت على إثارة النزاعات الدينية المتطرّفة عبر التبشير الديني في المدارس، والتفرقة بين الطلاب المسيحيين والطلاب المسلمين كي لا تتبلور الأفكار والطروحات القومية التي تقود إلى اندماج المجتمع، وتهدّد الوجود الاستعماري، فالوعي الوطني / القومي سيخلق وحدة بين جميع المكوّنات والفئات في ما يختص بالتمسك بالأرض واعتبارها مُلكاً لجميع المواطنين بمعزل عن دينهم.

كانت النتيجة أنّ الفئة الأكثر تعلّماً وتمرّساً في اللغات هي الفئة المسيحية التي انخرطت بكثافة في هذه الإرساليات، خصوصاً أنّ بعض هذه الإرساليات عمدت إلى التعليم المجاني لاستقطاب الطلّاب، كما أُنشئت جامعتان تبشيريتان أجنبيتان: الكلية السورية البروتستانية (الجامعة الأميركية في بيروت)، والجامعة اليسوعية التي أمّها الموارنة.

بالرغم من أنّ غاية هذه المدارس هي التبشير، إلّا أنّ نوعية المواد والبرامج التعليمية كانت متفوّقة، ولا تزال، على كل المدارس العامة في دول المشرق العربي، ولهذا السبب تقاطر إليها المسلمون في ما بعد، كما المسيحيون. هنا يبرز التناقض الأكبر: هذه مدارس وجامعات غرضها استمالة الطلاب لدولها الغربية، لكنّها في الوقت ذاته توفّر مستوى علمياً متفوّقاً، وفكراً يرتكز على المنطق والنقاش وهو ما ليس متوفّراً في المدارس العامّة، وبدلاً من أخذ الفكر العلمي وتبنّيه للتطوّر والتقدّم، نشأ تيار يرفض هذه المدارس الأجنبية، لكنّه في الوقت ذاته يشمل برفضه المنطق والعلم والعقل على أساس أنّه نتاج غربي!

الدور الاقتصادي

إنّ تركيبة الوفاق الوطني ما بين السنّة والموارنة، عام 1943، هي أيضاً صنيعة الغرب، وخصوصاً البريطانيين الذين كانوا يهدفون ليس فقط إلى إقامة منطقة عازلة تفصل بين المسلمين واليهود، بل أن يلعب لبنان دوراً اقتصادياً كمنطقة ترانزيت بين دول الخليج التي لا تزال في بداية تطوّرها العمراني، فكان المرفأ والمطار والمصرف والجامعة، وكلّها في خدمة دول الخليج الثرية نفطاً، والمتخلّفة تنموياً.

وجد الغرب الاستعماري في لبنان واحة لتواجد استخباراته ولتدريب جواسيسه وتعليمهم اللغة العربية (مركز شملان مثلاً)، من دون أية عوائق أيديولوجية كون المارونية السياسية قد شدّدت في تعاملاتها الدولية على ترسيخ الهدنة بينها وبين إسرائيل، كما عملت بعض النخب على الادّعاء بأنّ هذه الأخيرة ستأتي إلى نجدة لبنان في حال تعرّض لمضايقات سورية، وتأكيداً على حياده، رفض لبنان إلصاق أي هوية عربية به.

إنّ دور «لبنان الكبير»، المنطقة العازلة، والمهادِن لإسرائيل كما أراده سايكس وبيكو، عام 1920، انتهى مع بداية الحرب الأهلية عام 1975. حتى ذلك الوقت، كان الاعتقاد السائد بأنّ الأمور ستبقى على حالها في لبنان، وأنّ مآل القضية الفلسطينية هي التصفية، وأنّ الأردن سيكون الوطن البديل لهم. لكنّ دحر الكفاح الفلسطيني المسلّح في الأردن عام 1970 في ما عرف بـ»أيلول الأسود»، وانتقال «منظمة التحرير» الفلسطينية مع مقاتليها إلى لبنان غيّرا دور هذا البلد، فلم يعد منطقة عازلة ومحايدة ومهادنة، بل أرض مواجهة وتحدٍّ، ما أدّى إلى انهيار دور لبنان المصرف – المرفأ – المطار – الجامعة، واختفاء أبناء وبنات النخب العربية الذين كانوا يؤمّون الجامعات والمدارس، واضمحلال الطبقة الوسطى المسيحية بعدما سارع شبّانها وشابّاتها إلى مغادرة لبنان بشكل نهائي.

قضت الحرب الأهلية على الدور الذي لعبه الكيان المسيحي كمنطقة عازلة، وتدخّلت الولايات المتحدة الأميركية من أجل مواصلة الهيمنة عليه، لكن هذه المرة عبر السُّنّة فكان الاتفاق الأميركي – السعودي – السوري، وإنتاج دستور جديد (اتفاق الطائف) ينزع الكثير من صلاحيات المسيحيين ويعادلهم بالمسلمين. ومنذ عام 1990 وحتى عام 2005، أصبحت السعودية، عبر رئيس الوزراء رفيق الحريري، هي التي تقود البلاد بدعم أميركي واضح، لكنّ دور لبنان المسهّل للاندماج مع الغرب انتقل إلى الإمارات وعلى رأسها دبي، وافتتحت أهم الجامعات الأميركية فروعاً لها في دول الخليج لتأمين الكادرات التي ستعمل لاحقاً في بلدها.

ركّز رفيق الحريري سياساته على الدور السياحي للبنان، وعمل على تأمين كلّ المقوّمات المطلوبة من أجل هذه الغاية، وكان مؤمناً بأنّ الصراع العربي – الإسرائيلي قاب قوسين أن ينتهي بفضل السيطرة الأميركية على العالم إثر سقوط الاتحاد السوفياتي، وقبول الدول العربية المعنية بالمشاركة في مؤتمر مدريد، كما واعتراف «منظمة التحرير» الفلسطينية بإسرائيل في أوسلو. اعتقد الحريري بأنّ الهيمنة الأميركية نهائية، وبنى سياساته على هذا الأساس، خصوصاً أنّ أهم مفكري العصر أدلَجوا للانتصار المطلق للولايات المتحدة الأميركية و»نهاية التاريخ».

لم يدم استقرار الوضع في لبنان أكثر من عقد من الزمن، ففي عام 2006، حاولت الولايات المتحدة الأميركية قلب الطاولة لمصلحة إسرائيل، لكنّها فشلت في كسر محور المقاومة، كما فشلت من قبل في العراق (2003)، ومن بعد في سوريا (2011)، ومع تبوّؤ ترامب للرئاسة تغيّر التكتيك الأميركي باتجاه إقامة جبهة مكوّنة من دول الخليج العربي وإسرائيل في مواجهة محور المقاومة الممتد من إيران إلى لبنان، ما قضى على دور لبنان السياحي والمالي الذي كان ينشده الحريري. إنّ إقامة بعض الدول الخليجية علاقات طبيعية مع إسرائيل، أدى إلى النتائج التالية:

أولاً، نهاية دور «لبنان الكبير» كما خُطّط له عام 1920، فلم تعد الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إليه، فحتى لو عاد لبنان واصطف مع دول الخليج كالبحرين والإمارات، كما يأمل العديد من المتمسّكين بدوره القديم، فإنّه لن يعود إلى وضعه السابق المميّز والفاصل بين «مسلمين» و»يهود».

ثانياً، إنّ الضغوطات والعقوبات التي مارسها ترامب على لبنان تهدف إلى تركيعه وانصياعه لإسرائيل، أسوة ببعض الدول الخليجية، إلّا أنّ الثمن الذي سيدفعه لبنان، بعكس تلك الدول، يمسّ سيادته، وأرضه، وماءه، ونفطه. فلإسرائيل أطماع في الأرض اللبنانية صرّحت بها علناً منذ إنشائها عام 1948؛ فهي تريد ضم الأراضي اللبنانية للاستيلاء على الماء، ومع الانحباس الحراري أصبح هذا المطلب قضية حياة أو موت لها. كذلك الأمر بالنسبة إلى النفط والغاز والحدود البرية والمائية، المتداخلة مع فلسطين المحتلّة، ولولا وجود مقاومة شعبية لاستولت إسرائيل على الغاز وبدأت بإرساله إلى أوروبا.

ثالثاً، بما أنّ بعض دول الخليج أخذت دور لبنان الكبير وفاقته ترحيباً بالمستوطنين الإسرائيليين، لم تعد ثمة حاجة لمرفأ بيروت، ومن الأرجح الاستعاضة عنه بمرفأ حيفا السليب. كذلك، لم يعد من حاجة إلى تطبيع العلاقات بين الغرب والجزيرة العربية، فالجامعات الغربية افتُتحت فيها، وأصبح أهل الجزيرة متعلّمين وملمّين باللغات الأجنبية، أما أولاد الأثرياء فما عادوا يأنفون من متابعة دراساتهم في الدول الغربية، كما انتفت الحاجة إلى توظيف أموالهم في لبنان.

رابعاً، حتى المهارات اللبنانية والمتخصّصة في الحقول شتّى أصبحت متواجدة في دول الخليج لثرائها، وإمكانية العيش برفاهية في أرجائها، ولا رغبة لها بالعودة إلى لبنان، بل أصبحت تنتقل من الخليج إلى الغرب للإقامة الدائمة، وقد ترى في القريب العاجل منافسة شديدة لطردها من قبل الكفاءات «الإسرائيلية».

يقودنا ذلك إلى الاستنتاج بأنّ تمسّك السلطة التقليدية بالدور الذي لعبه «لبنان الكبير» في العقود الماضية، لن يقود إلّا إلى مزيد من الانهيار، لأنّ هذا الدور انتهى، ودوره اليوم بالنسبة إلى الغرب هو منع وصول أيّ دولة من الجبهة الشرقية إلى شواطئ البحر المتوسط، لأنّ ذلك يهدّد مصالحها. هو، إذن، ساحة صراع قد يمتدّ لسنوات طويلة بين قوى متعدّدة الأقطاب، وفي خضمّ هذه المواجهة الشرسة سيقع على كاهل لبنان استنباط قيادات جديدة، واعية، تستطيع استشراف المستقبل لتبنّي خططها على هذا الأساس.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى