مئوية ثورة 1919: لماذا صعدت.. وكيف انكسرت؟

 

بعد مئة سنة على اندلاع الثورة الشعبية المصرية عام 1919فإن أعزّ ما يتبقّى في الذاكرة العامة هو حجم التضحيات التي بُذلت والدماء التي أُريقت والأماني التي حلّقت وقدرة المصريين على صنع الثورات واحدة إثر أخرى كلّما بدا أنّ اليأس قد خيم.

سقط في حلبة الثورة نحو 800 شهيد وأصيب نحو 600 جريح. كان حجم التضحيات مقاساً على تعداد السكّان وقتها، كاشفاً عمق التجربة وصلابة شعبها في طلب الاستقلال والدستور. ثورة 1919 هي بنت ما بعد الحرب العالمية الأولى وما أطلقته نتائجها من إقرار لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. هذه حقيقة أولى. الثورات لا تنشأ في فراغ تاريخ أو خارج حسابات زمنها، كما أنها استطراد في زمن جديد لجوهر ما طالبت به الثورة العرابية المجهَضة بالاحتلال العسكري البريطاني لمصر عام (1882) ولحركة مصطفى كامل التي عملت على إحياء الوطنية المصرية بعد سنوات طويلة من الترهيب والتخويف الذي أعقب هزيمة العرابيين. هذه حقيقة ثانية إنكارها تجهيلٌ بوحدة ثورات مصر.

بعد ثورة (1919) تأسس نظام حكم شبه ليبرالي، مقتله في طبيعته، حيث سيطرت عليه ثلاثة قصور: قصر الدوبارة حيث السفارة البريطانية مركز السلطة الفعلية، وقصر عابدين حيث سلطة الملك، وقصر لاظوغلي حيث مقرّ الحكومة.

بموجب تصريح 28 شباط/ فبراير (1922)، الذي أعلنته بريطانيا من طرف واحد، حصلت مصر على استقلال صوَري في التفاف كامل على جوهره وجرى التلاعب بدستور (1923)، أفضل ما أنجزته الثورة، وحرمان «الوفد»، حزب الأغلبية الشعبية بلا منازع، من حقّه في الحكم باستثناء مرات معدودة، لكن آثارها في حركة المجتمع والاقتصاد والثقافة والفنون والتعليم جعلت مصر أكثر ثقة بنفسها ومستقبلها. بدأت مصر تنتفض من جديد.

في عام (١٩٣٥) خرجت مظاهرات حاشدة تحتجّ على تصريح بريطاني بأن مصر لا يصلح لها دستور (1923) ولا حتى دستور (1930)، في هذه التظاهرات تواصل عطاء الدم المصري. وفي عام (١٩٤٦) خرجت مظاهرات حاشدة أخرى، من أجل مطلب الاستقلال، أفضت إلى شهداء جدد من بينهم 23 شهيداً في «ميدان الإسماعيلية»، وهو ذاته الميدان المعروف الآن باسم «التحرير»، وأصيب في هذه الموقعة ١٢١ جريحاً. بعد أيام في الإسكندرية سقط ٢٨ شهيداً و ٣٤٢ جريحاً.

بروح نقد ثورة (1919) في أربعينيات القرن الماضي بزغت روح جديدة وتيارات فكرية جديدة، مهدت الطريق لـ٢٣ يوليو، التي حاربت وحوربت، أنجزت وانتكست. المشكلة الحقيقية في مصر أن تاريخها الحديث لم يسِر من مرحلة إلى أخرى، ومن تطور إلى آخر، بطريقة طبيعية، كل ولاداته «عمليات قيصرية»، وكل هزائمه «عمليات إجهاض». عندما تخفق ثورة في تحقيق أهدافها بأخطاء ارتكبتها، أو بالعمل المسلّح الخارجي ضدها، فإن من يصعدون بعدها ينتقدون قادتها وينسبون إليهم أسباب الإخفاق. هذه طبائع ثورات، لكنها في الحالة المصرية استحالت إلى تصفية حسابات تجاوزت كل منطق. تجاهلت ثورة (١٩١٩) أحمد عرابي، ولم تر نفسها امتداداً وتطويراً في ظروف مختلفة دولياً وإقليمياً لثورته التي جسّدتها المؤسسة العسكرية المصرية الوليدة. لم يردّ اعتبار «ثورة عرابي» بصورة كاملة إلا بعد قيام ثورة (١٩٥٢). قيل إن «ثورة يوليو» قد فعلت ذلك، لأنها أيضاً ثورة عسكرية! كان ذلك إهداراً بالتعسف لقيمة الثورة العرابية وحقها في ردّ الاعتبار. لم تكن الثورة العرابية عملاً مثالياً، شأن أية ثورة أخرى، لكنها مثّلت في زمانها احتجاجاً على التمييز ضد المصريين. بذات القدر تبدت مساجلات استهلكت زمناً طويلاً حول ثورة (١٩١٩).

تلخّصت وجهة نظر «الحزب الوطني»، الذي أسسه مصطفى كامل، في حملات وانتقادات، بعضها صحيح وموثق لسعد زغلول، غير أن منهج النقد الذي اتّبعه كتّابه ومؤرّخوه افتقد إلى حقيقة كادت تضيع في زحام التنافس السياسي، وهي أنه أعطى ثورة (1919) رمزيتها الملهمة وتجسيدها الحي، رغم ما هو منسوب إليه من صلات وثيقة سابقة مع سلطات الاحتلال البريطاني، وأن الثورة فاجأته.

عندما جاءت «لجنة ملنر» لتقصّي آراء المصريين في الاستقلال كانت إجابة الفلاحين في الحقول واحدة: «اسألوا سعد باشا». في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ مصر، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى تجسدت إرادة الاستقلال حول ذلك الرجل الستيني. لا يليق بأي منطق تاريخي أن يُقال إن سعد زغلول سرق الثورة من «الحزب الوطني» حزب مصطفى كامل وخليفته محمد فريد. «ثورة يوليو» تعرّضت لاتهام من نفس النوع بأنها سرقت الثورة من الشيوعيين، أو من الإخوان المسلمين، وهو كلام مرسل لا يسنده دليل وتعوزه الأسباب الحقيقية لصعود تيارات وقيادات بعينها وإخفاق أخرى. ثم إنه لا يمكن إنكار حجم شعبية سعد زغلول وارتفاعه إلى مستوى الحدث التاريخي في سياق مفاهيم العصر فأغلب الانتقادات تنصب على مرحلة ما قبل الثورة لا ما بعدها. اختلاف العصور والأجيال شيء، ونفي أي صلات شيء آخر. كان حادث 4 فبراير (١٩٤٢)، قبل عشر سنوات من إطاحة النظام الملكي، هو اليوم المؤسس لكل ما جرى حتى ٢٣ يوليو. في ذلك اليوم وجّه السفير البريطاني السير مايلز لامبسون إنذاراً إلى الملك الشاب فاروق، الذي دأب على وصفه بـ «الولد»، وكان الوصف شائعاً على لسانه وسجّله تكراراً في مذكّراته. كان فاروق وقتها في الثانية والعشرين من عمره. يقول نص الإنذار: «إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة من مساء اليوم أن مصطفى النحاس دُعي إلى تأليف الوزارة فإن الملك فاروق يتحمّل تبعات ما يحدث». كان النص، الذي أملاه السفير البريطاني على رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين، مهيناً بأي معنى سياسي وكاشفاً لوهم «الاستقلال الصوري». بحقائق القوة المجرّدة لم يكن هناك محلّ لادّعاء استقلال، أو سيادة، أو احترام لـ«مليك البلاد». وكان مصطفى النحاس ضحية للتناقض بين ما رآه حقاً أصيلاً لـ «الوفد» باعتباره حزب الأغلبية الشعبية أياً كانت الملابسات والظروف وبين ما اعتقد فيه طيف واسع من المصريين من أنه تقبّلها على «أسنة الحراب البريطانية».

الحادث بدلالاته وردّات فعله سحب من «الحق» شرعيته السياسية والأخلاقية على نحو أثّر بقسوة على سمعة حزب الأغلبية الشعبية وأذن بغروب ثورة وصعود أخرى في (23) يوليو (1952)..

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى