أسئلة تشغل أميركا.. ماذا بعد اقتحام الكونغرس؟

 

من الضروري النظر إلى حادثة تحدي السلطة في السياق العام للأزمة المتجذرة في المجتمع الأميركي، والانقسامات المتتالية أفقياً وعمودياً، وحقيقة ما يجري من صراعات داخل مراكز القوى النافذة.

تحوّل السادس من كانون الثاني/يناير إلى يوم مشهود استنفد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب خياره الأخير عبر غزو مناصريه لمبنى الكابيتول وتمرّدهم لإبطال نتائج الانتخابات الرئاسية، مستنداً إلى جدار متماسك من الدعم الشعبي (74 مليون ناخب) وإلى بعض قيادات الحزب الجمهوري التي راهنت حتى اللحظة الأخيرة على إمكانية الطعن في نتائج عدد من الولايات الخمسين، طمعاً في أن تتَّجه المناورة إلى التشكيك في بعض اللوائح، وربما قلب النتائج المعروفة.

الرئيس ترامب تحدَّث أمام عشرات الآلاف من مناصريه، ومن ثم خاطب الحشود الغاضبة بصيغة الأمر للتوجّه إلى الكونغرس “لدعم الأعضاء الشجعان والتنديد بالجبناء”. ما إن بلغت مسيرة المحتجين المبنى المركزي، مقرّ الكونغرس، حتى فرضت طوقاً بشرياً عليه، تكلَّل باقتحامات “غير مسلحة” لأروقته ومكاتب أعضائه. كما ردّد المقتحمون هتاف “المشنقة لبينس”، لأنه لم يوافق على تعطيل جلسة الكونغرس للمصادقة على انتخاب بايدن.

تعددت التوصيفات لطبيعة المشاركين، وتراوحت التقييمات الرسمية لفعلتهم بين متعاطف ومندّد، وجرى اتهام ترامب بترتيب “غزوة” تؤدي إلى انقلاب على السلطة في وضح النهار. وزير الدفاع بالوكالة، كريستوفر ميللر، أصدر بياناً في 8 كانون الثاني/يناير الجاري، وصف فيه الحادثة بـ”احتجاجات تحت سقف المادة الأولى” من التعديلات الدستورية التي تضمن حق التظاهر السلمي.

دانت معظم وسائل الإعلام الحادثة بتوصيفات متوازية: عصيان مدني، ومحاولة انقلاب، واقتحام لمقر السلطة، وفتنة وتحريض على العصيان، وإرهاب داخلي، وأجمعت على تحميل الرئيس ترامب كامل المسؤولية، مطلقةً العنان لدعوات إقالته وعزله للمرة الثانية وتقديمه للمحاكمة.

رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي اتهمته بـ”التحريض على تمرد مسلّح ضد أميركا”، وشاركها الموقف السيناتور شومر؛ زعيم الأغلبية الجديدة الديموقراطية في مجلس الشيوخ.

أما السيناتور الجمهوري المتشدد ماركو روبيو، فقد اعتبر أنّ ما جرى “نموذج عالم ثالثي من الفوضى المناوئة لأميركا”. الرئيس المنتخب جو بايدن وصف المحتجّين بـ”الرعاع”، ورأى أن فعلتهم ينبغي أن يُطلق عليها “إرهاب داخلي”.

من الضروري النظر إلى حادثة تحدي السلطة في السياق العام للأزمة المتجذرة في المجتمع الأميركي، والانقسامات المتتالية أفقياً وعمودياً، وحقيقة ما يجري من صراعات داخل مراكز القوى النافذة في النظام السياسي برمته، والتي اتخذت قرارها منذ زمن بضرورة مغادرة دونالد ترامب المشهد السياسي.

وتجدّدت تهديدات قيادات الحزب الديموقراطي بمقاضاة الرئيس ترامب ومحاكمته وإقصائه قبل انتهاء ولايته، وارتأت رئيسة مجلس النواب أنَّ الزمن سانح لتفعيل المادة 25 من التعديلات الدستورية، بطلبها من نائب الرئيس مايك بنس البدء بتلك الإجراءات. التأييد اللافت للرئيس ترامب جاء من مستشاره السابق للأمن القومي، جون بولتون، قائلاً في تغريدته إنّ المطالبة بعزله فعل أحمق.

تميَّز توقيت “الاحتجاج” باتساع هوة الفوارق الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة وتدنٍ مستمر للأجور، ما أفقد “الطبقة الوسطى” مصادر قوتها ومواطن نفوذها أمام زيادات فلكية في ثروات الأفراد الأشد ثراءً في المجتمع، وخصوصاً خلال أزمة انتشار كورونا، إذ إن معظم الوافدين للاحتجاج هم من الشرائح الدنيا والمهمّشة بين جمهور “البيض” الذين يستندون إلى غرائز وخلفيات عنصرية في تناول التحديات المتعددة.

مجيء ترامب غذّى حالة الانقسام وأخرجها إلى السطح، بل تجذَّرت في عهده، لكنه ليس مسؤولاً عنها إلا في مستوى استثماره الأزمة الراهنة لحشد مناصريه ضد الجناح الأقوى والمتحكّم بالنظام السياسي.

الحشود التي لبَّت دعوته للقدوم إلى واشنطن لم تكن قليلة العدد أو هامشية الانتماء، وإن أراد البعض تهميشها بمفردات دونية تدلّ على قصورها في التحصيل العلمي والتأثير الاقتصادي، وهم الذين وصفتهم وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بأنهم “جموع رثّة”، بيد أن قاعدة التمويل التقليدية الفاحشة الثراء لدى الحزب الجمهوري استمرّت في تأييد الاحتجاج بشكل عام.

في ما يخص إرهاصات الحزب الجمهوري وتعدّد توجهات قادته وما رسخه من اصطفاف قوي خلف الرئيس ترامب، تنبغي الإشارة إلى ما رسى عليه الأمر من تكتلات خلال حملة الانتخابات الرئاسية، أبرزها التيار الشعبوي العريض المؤيد للرئيس ترامب، يقابله تيار القوى التقليدية بزعامة نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني، الذي يُعِد كريمته لين، عضو مجلس النواب، لتبوؤ مناصب رفيعة، مستثمراً نفوذه الواسع لدى المراكز المؤثرة والثرية في الحزب. كما أن قاعدة التمويل السخي في الحزب تميل لصالح تيار تشيني بشكل صارخ، وخصوصاً عقب تحميل الرئيس ترامب مسؤولية خسارة الحزب مجلسي الكونغرس والبيت الأبيض.

تنادى علماء الاجتماع والخبراء الاقتصاديون للفت نظر المؤسَّسة الحاكمة إلى مخاطر السياسات الاقتصادية “النيوليبرالية” التي همَّشت القواعد الإنتاجية وعمالها بشكل أساسي، وكثّفت مصادر الدخل في أيدي أفراد، وبأنَّ مراكز القوى المسيطرة تسير باتجاه نظام سلطوي عماده الأجهزة الأمنية والرقابة وتقييد الحريات.

أحد أبرز أولئك أستاذ التاريخ الأميركي في إحدى الجامعات غرب ولاية واشنطن، دانيال تشارد، الذي قال: “إخفاق سياسيينا في معالجة مباشرة للعنصرية وتفاوت الفرص الاقتصادية، من ضمنها الفشل في إنجاز مهام عقد الستينيات (من القرن المنصرم)، أسّس الظروف لاندلاع ما نشهده الآن”. (في كتابه الحديث “حرب نيكسون الداخلية: أف بي آي، المقاتلين اليساريين، وأصول مكافحة الإرهاب”، 2021).

على الرغم من كثافة النصائح للقوى السياسية بمعالجة الأزمات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة عبر سياسات تنموية ومشاريع بنى تحتية طويلة الأجل، فإنها لم تذعن لضرورة تدخل الدولة في عجلة الاقتصاد كما ينبغي، لإنقاذ ما تعانيه العديد من المدن الكبرى والمتوسطة من هشاشة بناها التحتية التي تتداعى عند كل محطة تحدٍ، سواء كانت طبيعية أو بفعل الإنسان، وخصوصاً في مناطق استخراج الفحم الحجري أو اندلاع الحرائق.

أما تداعيات الاحتجاج/الغزوة، فستشغل مفاصل القرار السياسي لردح من الزمن، ليس في البعد المحلي فحسب، بل على المستويات الاستراتيجية والخارجية أيضاً، تغذّيها جملة الأزمات المتراكمة التي تنتظر حلولاً لا تلوح في الأفق القريب أو المتوسط.

أشار إلى تلك المسألة بشكل صارخ رئيس مجلس العلاقات الخارجيّة، ريتشارد هاس، الذي سخر من المستقبل الأميركي قائلاً: “الانتقال السلمي للسلطة، والاستثنائية الأميركية، وإيماننا بأننا نموذج مدينة مضيئة قائمة على تلة، كثير علينا” (صحيفة “واشنطن بوست”، 7 كانون الثاني/يناير 2021). اعتبر بعض المحلّلين أنَّ الحادثة تشكّل “نهاية الاستثنائيّة” الأميركيّة في العالم، وتحدث عن سقوط نموذجها الذي شغلت العالم به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

على الصعيد الداخلي الصرف، شكَّلت آليّة تعاطي الأجهزة الأمنية ذخيرة إعلاميّة لا تزال أصداؤها تتردد على ألسنة المسؤولين والعامة على السواء، لناحيتين: الأولى هي حجم التسهيلات التي تلقاها المحتجون لدخول بوابات الكونغرس من دون مقاومة تذكر، والأخرى تتعلق بالتصريحات الأولية حول عدم نية السلطات الرسمية مقاضاة المحتجين، وتراجعت لاحقاً بعض الشيء، معلنة اعتقالها العناصر الذين ظهروا في الصور المتداولة من داخل المبنى، وهم ينعمون بالجلوس على مقاعد المسؤولين الوفيرة.

بعض المراقبين اعتبر المسألة أخطر من مجرد “تواطؤ” أو تقديم تسهيلات ممنوعة على أي فريق ينوي الاحتجاج، بل يجري إبعاد عناصره عن تلك المباني بقسوة. ويضيف أولئك أن ما جرى تم الإعداد له منذ بضعة أشهر، بشهادة “وزارة الأمن الداخلي” في وقت لاحق، بأنها كانت على علم بالتحضيرات لجموع المحتجين، وراقبت بعضهم عن كثب، وحذرت من أن الأسلحة ستكون حاضرة في المشهد وينبغي مواجهتها (تقرير رسمي منشور على “تويتر”، 9 كانون الثاني/يناير الجاري).

أما بشأن توفر مبرّر “للاضطرابات المدنية”، فقد نصَّت عليها كحق للشعب وثيقة “إعلان الاستقلال”، وجاء فيها: “تنشأ الحكومات عبر عقد بين الرجال، وتستمد سلطاتها العادلة من موافقة رعاياها المحكومين. وكلَّما أصبح أي شكل من أشكال الحكم مدمراً لهذه الغايات، فإن من حق الشعب أن يغيّرها أو يلغيها”.

لا ريب في أنَّ مؤيدي الرئيس ترامب استندوا إلى تلك الوثيقة لبدء مسيرتهم. وسجّلت حادثة “غزو” مشابهة في شهر أيار/مايو 2011، حين تدافع آلاف المحتجين (الليبراليين) إلى مقر حكومة ولاية ويسكونسن ودخلوها بالقوة، احتجاجاً على مشروع قرار من شأنه تقييد حرية العمال في التنظيم والتفاوض الجماعي مع أرباب العمل.

اللافت أيضاً في المشهد السياسي أنّ الإعلان المسبق للسلطات عن عدم نيتها ملاحقة المحتجين، وخصوصاً أولئك الذين ارتكبوا أعمالاً تخريبية، لها سابقة مماثلة في التاريخ السياسي الأميركي. عقب انتهاء الحرب الأهلية، أصدر الرئيس آندرو جونسون (1865-1869) قرار عفو عن “معظم” قيادات التكتل الجنوبي وسمح لهم الاحتفاظ بأراضيهم كترضية للطرف الخاسر. في الشق المقابل، اضطرّ معظم السكان آنذاك، ولا سيما “السود بعد تحريرهم”، إلى العمل في مزارع القطن تحت ظروف بالغة القسوة.

تنبغي الإشارة عند هذه المحطة إلى أنَّ الرئيس الأميركي يوليسيس غرانت استصدر قراراً من الكونغرس يمنحه الصلاحية لملاحقة ومقاضاة عناصر “كو كلاكس كلان” العنصرية في العام 1871، لكن الحملة لم تلبث أن تلكّأت وأدت إلى انتعاش المجموعة المصنّفة “إرهابية”، والتي تستنسخ تجربتها العنصرية من بعض الميليشيات اليمينية المسلحة في الولايات المتحدة.

من بين الأمثلة الصارخة على “تواطؤ” العناصر الأمنية مع المحتجين، إعلان شرطة مدينة سياتل في ولاية واشنطن في أقصى الغرب الأميركي، توقيفها ضابطين من شرطتها لمشاركتهم المحتجين في “اقتحام مبنى الكابيتول” والتقاط صور “سيلفي” معهم. وتجري عدد من أجهزة الشرطة في مدن متعدّدة تحقيقاتها للتيقن من مشاركة أيّ من عناصرها في مسيرة المحتجين، وربما أبعد من ذلك.

فقد ترامب توازنه النسبي بعد فشل المناورة، وأضحى أضعف مما كان عليه، ولا يزال ينكر أنَّ قيادات الحزب الجمهوري استشعرت خطورته على مستقبل الحزب برمّته. كما عبّرت شرائح عديدة من قاعدته الشعبيّة عن شعورها بأنّه يشكّل خطراً على مستقبل الحزب، وبدأت بالتخلّي عنه والنظر في تكتّل جديد، إما تحت سقف الحزب التقليدي أو ربما خارجه، بتضافر تلك التوجّهات مع “انشقاقات” وتكتّلات أيضاً داخل الحزب الديموقراطيّ. أما مستقبل “حزب ثالث”، فالظروف الراهنة ليست مهيأة لذلك، وخصوصاً في ظلّ أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية.

بعض النخب الفكريّة الأميركيّة تسترشد بمقولة للرئيس الأسبق جون كنيدي، للدلالة على مخاطر توجّهات الحزبين في إقصاء تيارات غاضبة ومؤثرة. نصيحة كنيدي جاءت على النحو التالي: “أولئك الذين يسهمون في استحالة الثورة السلمية يسرّعون في حتمية الثورة العنيفة”.

تصميم قيادات الحزب الديموقراطي على إجراءات عزل ترامب للمرة الثانية لا يتمتع بتأييد قوي من الرئيس المنتخب، فبايدن يرغب في التركيز على تمكين طاقمه من الحكم في أجواء سياسية أقل توتراً، لكن زخم الصدمة لدى أعضاء الكونغرس وغضبهم لتعرّض حياتهم للخطر يدفع مجلس النواب على الأقل إلى تفعيل إجراءات العزل، ولو لم تكن الفترة الزمنية المتبقية لترامب كافية لتحقيق المرتجى في مجلس الشيوخ.

ويبدو أنَّ هناك مسعى للضّغط على ترامب للاستقالة وتسليم الرئاسة لنائبه بنس أو التلويح باستمرار ملاحقته حتى بعد تنصيب بايدن، ويراهن دعاة العزل على تعاطف وتأييد بعض الأوساط في الحزب الجمهوري، لرغبتهم في التخلّص منه وإزاحته عن المشهد السياسي، لأنَّ ذلك يفقده الحق في السعي للترشح مرة أخرى أو تمكين قبضته على مفاصل الحزب الجمهوري، كما فعل طيلة السنوات الأربع المنصرمة.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى