استقالة داود أوغلو: «العدالة والتنمية» يخسر المنظّر والمهندس

  

 قدّم رئيس الوزراء التركي الأسبق وزعيم حزب «العدالة والتنمية» السابق، أحمد داود أوغلو، استقالته من الحزب، كردّ على قرار اللجنة التنفيذية التي طلبت من لجنة التأديب طرده. وشنّ داود أوغلو هجوما عنيفاً على الرئيس رجب طيب إردوغان في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، باستثناء السياسة الخارجية التي كان هو «مهندسها» على أساس كتاب «العمق الاستراتيجي» الذي كتبه عندما كان أستاذاً في جامعة «مرمرة» في إسطنبول، قبل أن يأتي به عبد الله غول ويعيّنه مستشاراً له إثر تسلّم «العدالة والتنمية» السلطة نهاية 2002، حين كان غول رئيساً للوزراء. بقي داود أوغلو في منصبه بعدما أصبح إردوغان رئيساً للوزراء وغول وزيراً للخارجية، ليصبح داود أوغلو وزيراً للخارجية عام 2009، ثم رئيساً للوزراء في حزيران 2014، عندما أصبح إردوغان رئيساً للجمهورية.

اشتُهر داود أوغلو بمقولته «صفر مشاكل مع الجيران»، إلا أنه انتهج سياسات مغايرة لمقولته، إذ لم يبق لتركيا أي جار صديق في المنطقة، باستثناء قطر التي تقاسمت مع داود أوغلو فكره «الإخواني» بصفته المنظّر العقائدي لحزب «العدالة والتنمية» منذ تسلمه السلطة. حاول الغرب أن يروّجه في العالم العربي باعتباره «كيسنجر الشرق الأوسط»، وخصوصاً بعدما أقنع الرجلُ الغرب بـ«نجاح» التجربة «الديموقراطية العلمانية الإسلامية»، فسعيَا معاً إلى تسويقها للمنطقة العربية قبل ما يسمى «الربيع العربي» وخلاله. وهو ما يفسّر هرولة الإسلاميين العرب من «الإخوان» باتجاه تركيا بتوصيات من الغرب للاستفادة من تجربة «العدالة والتنمية»، ولا سيما بعد ما حقّقته من نجاحات مهمة على صعيد الخدمات والاقتصاد، من دون أن يبالي أحد بالجانب الديموقراطي لهذه التجربة التي جعلت من تركيا دولة استبدادية لم ترحم أحداً من معارضي إردوغان. الأخير أقنعه داود أوغلو بإمكانيات العودة إلى أحلام الخلافة والسلطنة العثمانية التي سقطت على أسوار دمشق. فقد قال إردوغان في 5 أيلول 2012 إنه سيصلي في جامعها الأموي ويقرأ الفاتحة على ضريح صلاح الدين، بعدما توقّع داود أوغلو في آب 2012 سقوط الرئيس بشار الأسد خلال أسابيع وأشهر قليلة.

كانت حقائق الواقع السياسي والجغرافي والتاريخي في المنطقة مخالفة لكل توقعات داود أوغلو الذي طُرد من حزبه ليعلن الحرب على إردوغان ويسعى إلى إسقاطه، حاله حال عبد الله غول الذي يقف وراء وزير الاقتصاد السابق علي باباجان، الذي سيعلن هو الآخر عن حزبه الجديد نهاية تشرين الثاني، بعد شهر من إشهار حزب داود أوغلو الذي سيعلن عنه بداية الشهر المقبل. وتوقعت استطلاعات الرأي لحزب داود أوغلو أن يحظى بتأييد 4 ــــ 5% مقابل 9 ــــ 10% لحزب علي باباجان، وهو الأوفر حظاً بسبب دعم المؤسسات المالية والاقتصادية له. كما أن دعم غول له سيساعده على الانفتاح على الميول السياسية كافة في الداخل، وبالتالي على العواصم العالمية التي لا يزال لغول علاقة معها. لا يعني كل ذلك أن إردوغان سيبقى مكتوف اليدين تجاه «أعدائه»، وخصوصاً أنه يملك إمكانيات الدولة من الجيش والأمن والمخابرات والقضاء، و95% من الإعلام الذي يشنّ حملات شنيعة ضد غول وداود أوغلو وباباجان الذين اتهمهم إردوغان بطعنه من الخلف، لكن من دون أن يقول لماذا تخلى عنه جميع رفاقه السابقين الذين أسسوا «العدالة والتنمية» معاً عام 2001.

في جميع الحالات، ومهما كانت نتائج المواجهات المحتملة بين إردوغان وكلّ من داود أوغلو وباباجان، فقد بات واضحاً أن المرحلة القريبة المقبلة لن تكون سهلة بالنسبة إلى الأول. وقد استبعدت جميع استطلاعات الرأي انتخابه من جديد في الانتخابات المقبلة، أياً كان تاريخها، مع استمرار الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة التي انعكست وستنعكس بشكل سلبي كبير على شعبية الرجل، بعدما زادت الديون الخارجية على 460 مليار دولار، والبطالة على 14%، والتضخم على 25%، والغلاء الحقيقي على 50%. يضاف إلى ذلك أن إردوغان يواجه مشاكل صعبة ومعقدة وخطيرة على صعيد السياسة الخارجية التي وصلت إلى طريق مسدود في العلاقة مع كلّ من روسيا غرب الفرات، والولايات المتحدة شرقه، حيث الكيان الكردي سيشكل خطراً استراتيجياً على تركيا، بإردوغان أو بدونه. يبدو واضحاً أن معطيات الساحة السورية بتطوراتها المحتملة قريباً ستفرض نفسها على إردوغان؛ أولاً، بسبب القمة الثلاثية في أنقرة يوم الاثنين، وثانياً، بسبب اللقاء المحتمل بين إردوغان وترامب في نيويورك، الأسبوع المقبل. وهو ما سيحدد مستقبل السياسات التركية في سوريا ومن خلالها في المنطقة التي تورّطت فيها أنقرة إلى حدّ كبير بمقولات «المنظّر والمهندس» (داود أوغلو)، والتي أُعجب بها زعيمه إردوغان الذي اعتقد أن «الربيع العربي» سيجعل منه سلطاناً وخليفة عثمانياً جديداً.

أُفشل هذا المشروع الإقليمي، فسقطت مشاريعه في الداخل، بما في ذلك «أسلمة» الدولة والأمة التركية التي لم يعجبها هذا المسار، فصوّتت للمعارضة في الانتخابات البلدية نهاية آذار، ثم صوّتت مرة أخرى لأكرم إمام أوغلو في إسطنبول بنسبة 55%، وهو ما سيعني النهاية الحتمية لكل مشاريع إردوغان بعد الآن.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى