تأثير العقوبات الأمريكية على إيران بعد فشل رهانات وسياسات ترامب.. وخيارات طهران للإلتفاف عليها تكمن في تركيا والعراق

 

جاء انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية، قبل عامٍ من الآن، من الاتفاقية النووية الموقعة بين إيران والغرب سنة 2015 كمحاولةٍ من الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للتأثير على طهران سياسياً في محاولة للحدِّ من تأثير سياساتها في الشرق الأوسط وفرملة عجلة بسط النفوذ الإيرانية الممتدة من سورية إلى لبنان مروراً بفلسطين وانتهاءً باليمن. وليس سرّاً أن الإدراة الأمريكية تسعى من وراء انسحابها من الإتفاقية إلى ضرب عصفورين بحجرٍ واحدة. فمن جهة، تهدئة مخاوف إسرائيل من طموحات إيران النووية، ومن جهةٍ ثانية، طمأنة حلفاء واشنطن الخليجيين وعلى رأسهم السعودية بإرسال إشارات العداء لطهران، مقابل حصول الولايات المتحدة على صفقات تسليح بمئات المليارات.

وإذا لم يأتِ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي بالنتائج المرجوة والتي كان على رأسها جعل يد طهران مغلولة عن التدخل الإقليمي، فإن إدارة ترامب قد رأت أن معركة كسر العظم مع طهران يجب أن تُنقل من نطاق السياسة إلى ملعب الاقتصاد الأشد وطأةً وإيلاماً. ولم يكن اختيار قطاع النفط الإيراني ليكون المستهدف الأول من العقوبات اعتباطياً، فبلغة الأرقام كانت إيران قبل تطبيق العقوبات الأمريكية تحتل المرتبة الثالثة في ترتيب الدول المنتجة للنفط الخام في منظمة “أوبك”، فضلاً عن مساهمة البترول في الموازنة العامة للبلاد بحوالي 40 بالمئة، أي بقيمة 52،7 مليار دولار سنوياً.

ورغم أن الرئيس الأمريكي قد استثنى، نهاية السنة الماضية، ثماني دول من حظر استيراد النفاط الإيراني، إلّا أنه تراجع عن ذلك الإعفاء لتجد بعض تلك الدول نفسها في مواجهةٍ مع الإدارة الأمريكية. وإذا كانت بعض تلك البلدان لا ترغب في الوقوف في وجه ترامب، حتى وإن منحها حق استيراد النفط الإيراني كاليونان وإيطاليا وتايوان، فإن دول أخرى قد مضت متحدّيةً الحظر الأمريكي. ولكل دولة أسبابها ومقومات صمودها أمام الإدارة الأمريكية. فتركيا مثلاً اعترضت على العقوبات وقررت مواصلة شراء النفط الإيراني والأمر ذاته ينطبق على الصين. هذه الأخيرة قد تجد في الحرب التجارية التي تشنها واشنطن على صادراتها مبرراً، ليس فقط لمواصلة شراء النفط الإيراني، بل للرد على الولايات المتحدة من خلال زيادة كميات النفط الإيراني المستورد.

ويبقى هذا السيناريو مطروحاً وإن كان مستبعداً في الوقت الراهن بسبب سعي بكين لتعزيز استثمارات مؤسساتها النفطية في السوق الأمريكية، لذلك فهي تحاول طمأنة الأمريكيين من خلال تراجع حصتها من البترول الإيراني بنسبة الربع بعد إقرار العقوبات الأمريكية.

وتراهن أسواق الخام على تدخل منظمة “أوبك” للحفاظ على توازن الأسعار. ولم تتأخر بعض البلدان كالسعودية والإمارات في التأكيد على استعدادها لتعويض أي نقص في العرض قد ينجم عن غياب النفط الإيراني. ميدانياً، وحسب احصائيات منظمة “أوبك”، فقد تراجع إنتاج النفط الإيراني، شهر مارس الماضي، ليصل إلى مستوى 2.69 مليون برميل يومياً، بعد ما كان عند مستوى 2.74 مليون برميل شهر فبراير 2019. وتقول بيانات صندوق النقد الدولي أن الناتج المحلي الإيراني قد انكمش بنسبة 3,9 في المئة سنة 2018.

وأمام هذا الواقع الجديد تبدو خيارات طهران محدودة سواءً للصمود في وجه العقوبات أم للتحايل عليها بُغية مواصلة تصدير النفط والاستفادة من عائداته، وقد كشفت إيران عن بعض خياراتها لمواجهة ذلك، وإن كان بعضها يدخل في إطار الحرب والنفسية، كالتلويح بغلق مضيق هرمز الذي يمرُّ عبره حوالي ثلث النفط المنقول بحراً من دول الخليج والعراق وإيران والموجه إلى الأسواق العالمية، وهو ما يعني أنه معبر حيوي، بل وعصب تجارة الطاقة العالمية وقد لا يخرج إغلاقه كخيارٍ للرد على العقوبات الأمريكية عن نطاق التهديد.

رغم أن طهران، إذا ما قررت فعلاً غلق المضيق، فإنها لن تفعل ذلك مباشرةً بقواتها البحرية، بل قد تلجأ إلى حلفائها في المنطقة واذرعها التي تمولها كجماعة الحوثيين مثلاً أو عن طريق إثارة القلاقل هنا وهناك حتى لدى الخصوم أو بتحوير الرأي العام الدولي نحو انسحابها من بعض بنود الاتفاق النووي برفع نسبة التخصيب كما هددت بذلك. وإضافةً إلى اتخاذ طهران لحزمة إجراءاتٍ داخلية من شأنها التخفيف من حدّةِ وقع العقوبات على الداخل الإيراني، فإنها أيضاً تسعى للإلتفاف على العقوبات عن طريق بعض البدائل التي قد تساهم ولو بنسبٍ متفاوتة في التخفيف من وطأة العقوبات.

وفي ذات السياق، تعوِّل إيران كثيراً على تركيا، التي لا زالت تستورد النفط الإيراني بواسطة تطبيق آليات دفع بديلة لتفادي العقوبات، فالبلدان تجمعهما 600 كيلومتر من الحدود المشتركة بها ثلاث بوابات جمركية رسمية، فضلاً عن وجود اتفاقية تجارة تفضيلية موقعة سنة 2014 يتم بموجبها تخفيض نسبة الضرائب المفروضة على ما مجموعه 265 منتجاً، وتبادلٍ تجاري ما انفك يزداد حجمه عاماً بعد عام ليرتفع خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي بنحو 14%، متجاوزاً الثمانية مليارات دولار. وتُعدّ كل تلك المقومات أرضيةً مناسبة للتحايل عبر محاولة تصدير النفط الإيراني عن طريق المعابر البرّية نحو تركيا ومنها إلى بلدان ثالثة، فعلاقات واشنطن بأنقرة تمرّ بأسوأ فتراتها بسبب قرار الأخيرة شراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسي أس – 400 رغم معارضة الولايات المتحدة. ويمكن لتركيا وإيران إيجاد طرق التحايل المناسبة لتصدير النفط الإيراني عبر تركيا.

العراق هو الآخر، قد يكون البوابة التي يمكن لإيران من خلالها الالتفاف على العقوبات الأمريكية والحفاظ على تدفق النفط الإيراني. فقد أكد الجمعة القنصل الإيراني العام لدى إقليم كردستان العراق، مرتضى عابدي، أن الإقليم لن يلتزم بالحظر الاميركي المفروض على طهران. ويُعدّ الإقليم رقماً صعباً في معادلة العلاقات التجارية العراقية الإيرانية، إذ تتم عبره نحو 40% من المبادلات التجارية بين إيران والعراق، كما يمتلك الإقليم 7 منافذ حدودية مع إيران. ولا توجد أية ضمانات على أن الدولة العراق نفسه سيلتزم كليةً بالحظر الاقتصادي المفروض على إيران، بالنظر إلى التغلغل الإيراني في كل مفاصل الدولة العراقية عبر حلفاء طهران السياسيين أو مختلف الأذرع العسكرية التي تمولها إيران، وهي مستعدة للضرب نيابة عنها كما كشفت عن ذلك الأسبوع الماضي تقارير غربية، مؤكدةً وجود مخاوف جدية من انتقام قد تنفذه فصائل عراقية موالية لطهران، ما دفع بالتحالف الدولي إلى رفع نسبة التأهب بين صفوف قواته بالعراق. وقد اعتاد الإيرانيون على التعامل مع العقوبات الأمريكية والغربية على اقتصادهم، فالولايات المتحدة لا تستطيع عملياً الدخول في عداءٍ مع جميع الدول التي تنتهك قرار العقوبات الأميركي.

وأما سياسة العقوبات فقد فشلت بين عامي 2012 و2015 في إجبار طهران على تغيير نهجها، وهو ما يعني أنها قد تفشل أيضاً هذه المرة، والدليل أنها لم تحدّ من تمدد النفوذ الإيراني عبر وكلاء طهران الذين أضحوا قادرين على ضرب أهداف حيوية داخل العمق السعودي مثلاً، حيث استعرض الحوثيون قدرتهم، الأسبوع الماضي، من خلال طائراتهم المسيرة التي قصفت مصافي النفط السعودية بكل سهولةٍ ويُسر. والأمر يرجع إلى سببين رئيسيين لعل أولهما: هو أن إيران رغم أنها دولة نفطية لكن اقتصادها متحرر بشكل كبير من التبعية لقطاع الطاقة، حيث يفوق إجمالي الصادرات الإيرانية خارج المحروقات 110 مليارات دولار متنوعاً بين المواد الكيميائية والمعادن والمنتجات الصناعية والزراعية الأخرى.

ولا تزال تركيا حالياً تستورد النفط الإيراني، بينما كانت الهند قد زادت وارداتها من نفط إيران قبل دخول العقوبات حيز التنفيذ، أما بكين وإن خفّضت وارداتها من النفط الإيراني لكنها لا تزال تستورده ولا يلوح في الأفق أي قرار صيني بالتخلي عن بترول إيران. وتشكّل واردات هذه البلدان الثلاثة مجتمعة من النفط الإيراني ما يصل إلى نسبة 70 في المائة، وهو ما يعني أن هدف واشنطن من العقوبات المتمثل في تصفير تصدير النفط الإيراني لا يزال هدفاً بعيد المنال.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى