تطبيقات النموذج الجنوب أفريقي على فلسطين (فواز طرابلسي)

 

فواز طرابلسي

تعالج هذه المقالة النقاش الدائر حول استخدامات النموذج الجنوب أفريقي لتفسير القضية الفلسطينية وتخيّل الحلول التطبيقية الملائمة لها.
ينطلق معظم التطبيقات الفلسطينية من رفض حلّ الدولتين للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والحجج الرئيسية متنوعة، أبرزها أن اختبار المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية يفضي إلى نتيجة بارزة أن لا رغبة لدى السلطات الإسرائيلية في الانسحاب من الضفة الغربية والقبول بقيام دولة فلسطينية إلى جوار دولة اسرائيل. وعلى افتراض القبول، فإن إسرائيل تحتل المساحة الأكبر من فلسطين التاريخية، والرقعة المتبقية منها لا توفر الحد الأدنى من متطلبات السيادة والبقاء لقيام الدولة العتيدة. كما أن تسوية الدولتين ستفرّط بحقّين من الحقوق التاريخية غير القابلة للتصرف من حقوق الشعب الفلسطيني، إذ ستعترف باحتلال إسرائيل لأراضي الـ48، وتتخلى عن حق العودة.
أول ما يستحق الملاحظة هو أن هذه الأدبيات تنتمي إلى مناخ الاتفاقيات الثنائية العربية ـ الاسرائيلية التي أنتجت فاصلاً بين مسارين: مسار الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي من جهة، والصراع العربي ـ الإسرائيلي من جهة ثانية. وقد اتسع التباعد بين المسارين منذ اتفاق أوسلو: فأحدهما معنيّ باستعادة الأراضي المحتلة في حرب 1967، والثاني معنيّ بقيام الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. وهكذا يتحول الصراع العربي ـ الإسرائيلي إلى مسار يؤدي فيه «العرب» دور الداعم للمطالبة الفلسطينية بالدولة العتيدة، وتتبادل أنظمتهم الأدوار بين متهالك على التطبيع الاقتصادي والسياسي والديبلوماسي والثقافي، وبين مَن يتنطح لأدوار الوساطة في المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية.
لا شك لديّ في أن هذا التمحور الذاتي يشكل ردة الفعل المفهومة، وإن تكن غير مبررة، على هزائم ونكسات وخيبات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وعلى منطق الاتفاقات المنفردة، فضلاً عن المعاناة الطويلة للشعب الفلسطيني في بلاد اللجوء في ظل التمييز والقمع، بل المجازر أيضاً. وترافق هذا الاتجاه عشية اندلاع الثورات مع وهن بيِّن أصاب التعبئة الشعبية بشأن فلسطين، والتي بلغت أدنى درجاتها لدى الجماهير العربية التي جرى تسريحها من الصراع مشلّعة بين انتظار نصر إلهي حاسم هذه المرة يقضي على إسرائيل بالضربة العسكرية القاضية، والتعبير عن الغضب والتفجّع ضد الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة في لبنان أو غزة. يكفي دليلاً على عملية التسريح هذه، المقارنةُ بين بضع عشرات أو مئات من المتظاهرين المصريين في ميدان التحرير تأييداً لغزة يطوّقهم ألوف من عناصر الأمن المركزي، قياساً بمئات الألوف من المصريين الذين اجتاحوا «الميدان» ذاته وقد انفجرت ثورتهم لإسقاط النظام القائم، ومن أجل العمل والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
ومع أنه يجب الاعتراف بأن التعاطف الدولي مع قضية فلسطين يتنامى بقدر تضاؤل الاحتشاد الشعبي العربي حول فلسطين، إلا إن المفارقة الفاغرة في هذا التقاطع بين الانسحاب العربي والتمحور الذاتي الفلسطيني، أنه تزامن مع ممارسات اليمين الإسرائيلي الحاكم القائمة على الاستهتار الكامل بأي تسوية، وعلى التوسع الاستيطاني والاحتلال العملي للقسم الأكبر من فلسطين التاريخية، والتهويد السكاني والديموغرافي للبؤر العربية المتبقية في الأراضي المحتلة في سنة 1948. أمّا الوجه الإقليمي لتلك السياسيات فهو نشاط لا مثيل له في مضمار الصراع العربي ـ الإسرائيلي ذاته من حيث تعزيز مقوّمات التفوق العسكري النوعي، النظامي منه والنووي، بما ينطوي عليه من مساعي الهيمنة، لا على المحيط العربي فحسب، بل على منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
كثيرة هي نقاط التشابه بين الصهيونية ونظام التمييز العنصري السابق في جنوب أفريقيا، وكثيرة هي الوشائج التي حاكها النظامان بينهما، بما في ذلك محاولة تزويد إسرائيل أفريقيا الجنوبية بالسلاح النووي، في عهد شمعون بيريز. ومن أبرز السمات المشتركة بين النظامين انتماؤهما المشترك إلى فصيلة في العالم الكولونيالي هي أنظمة الاستيطان والإجلاء السكاني والتطهير العرقي. وجدير بالذكر أن حكم الأقلية البيضاء أجلى، داخل الحدود العمومية للدولة، نحو 3,5 ملايين أفريقي وملوّن بين سنوات 1961 و1983، وأعاد توطينهم في عشرة معازل (بانتوستانات). ومع ذلك، فلا بد، لأغراض الدقة والفاعلية النموذجية، من التمييز بين طبيعة الاستعمار الاستيطاني الإجلائي للأقلية البيضاء في الجنوب الأفريقي، والاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. فالأول اقتصادي في المقام الأول، منجذب إلى الثروات المعدنية الاستثنائية للبلد، وقد أشادت شركاته الرأسمالية نظام التمييز العنصري واحتكار الأقلية البيضاء للسلطة، تمكيناً للاستئثار والاستغلال الاقتصاديين، عن طريق مزيج من حرمان الأكثرية السكانية من الحقوق السياسية والمدنية، وعزلها في المعازل المذكورة أعلاه. ولم ينطوِ حلم الأقلية البيضاء، بالنسبة إلى أكثرية المستوطنين الأوروبيين، على هدف بناء وطن قومي، أو فرض هوية أوروبية معينة على الأرض والبلد. وفي المقابل، ارتبط المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني لفلسطين بتوطين أكثرية ديموغرافية يهودية وافدة بهدف قومي محدد هو تهويد فلسطين، الأرض والبلد، أكثر منه استغلال ثرواتها.
من هنا تبدو لي أن تطبيقات النموذج الجنوب أفريقي فلسطينياً تنطوي على سيناريو مشتهى مسرحه كامل فلسطين التاريخية، فيتحول فيها النضال الفلسطيني نضالاً في اتجاه من اتجاهين: بناء دولة ثنائية القومية بين فلسطينيين ويهود، أو النضال من أجل حقوق الإنسان والمساواة السياسية والقانونية في ظل نظام التمييز العنصري الإسرائيلي.
الغريب في هذا التطبيق أنه يتجاهل المكوّن الأصلي لمشروع بناء دولة يهودية في فلسطين، أي دولة ذات أكثرية سكانية يهودية حاسمة (دولة يهودية مثلما إنكلترا هي إنكليزية، على ما قيل)، الأمر الذي لا يسمح بتصوّر الكيفية التي سيتم بها تكوّن الدولة الواحدة، علماً أن امتناع السلطات الإسرائيلية من ضم أراضي الضفة الغربية وغزة، بعد احتلالها في سنة 1967، وتسميتها «الأراضي»، ورفض الاعتراف بأنها محتلة أصلاً، لا ينطوي فقط على التنصّل من تبعات الاحتلال ومسؤولياته ـ من وجوب التنمية والتعويض عن الخسائر والأضرار واشتراط عدم المساس بالموارد والثروات، بحسب اتفاقيات جنيف ـ وإنما يجهر أيضاً وخصوصاً برفض ضم ملايين من الفلسطينيين إلى إسرائيل كي لا تُمَس الطبيعة الديموغرافية والقومية الخالصة للدولة العبرية ولهويتها الصافية.
وإلا فما معنى مطالبة نتنياهو بالاعتراف الفلسطيني والعربي بما يسمّيه «يهودية» دولة إسرائيل؟ وما معنى الحملات الحثيثة التي يخوضها اليمين الإسرائيلي، العلماني والديني، لتهويد البؤرتين المتبقيتين من أراضي فلسطين 48 اللتين لا تزالان تحويان أكثرية سكانية عربية: النقب والجليل الأعلى؟ وأي معنى للعمل على تغيير الهوية السكانية للقدس ورفض البحث في موقعها في أي تسوية لا تعترف بكونها عاصمة دولة اسرائيل؟ (…)
السؤال الذي تثيره هذه المحاججة يتعلق بمسألة حق العودة. إذا كان التخلي عن مطلب الدولتين مرتبطاً بالإصرار على حق العودة، فهل يحق لنا الافتراض أن قيام «الدولة الواحدة» سيؤمن تطبيق ذلك الحق؟ كيف لنا أن نتصوّر والحالة هذه أن إسرائيل وقد احتلت وضمّت كامل فلسطين التاريخية، ترتضي لا «ثنائية القومية» فحسب، بل أن تكون أكثرية سكان فلسطين التاريخية عربية وقد تجمّع فيها سكان الضفة الغربية والشتات وفلسطينيو أراضي 48؟
ألا يجعل «حل الدولة الواحدة» هذا أقرب إلى الهندسة الذهنية من أي هدف نضالي، وخصوصاً أنه يتم بمعزل عن أي تصوّر لأنواع الضغوط التي يتعين على «المجتمع الدولي» ممارستها على إسرائيل، فضلاً عن «الراعي الدولي»، أو عن نوع الانقلابات في موازين القوى القادرة على «إقناع» الصهيونية ودولة إسرائيل بممارسة الانتحار؟ والأدهى أن البعض قد يشرح لك أن طرح شعار «الدولة الواحدة» إنّما يجيء من قبيل التهديد إذا ما فشلت المفاوضات لحل الدولتين. والتهديد هنا يحوّل الأمر إلى ما يشبه المهزلة الحزينة إذا ما أُخذ في الاعتبار موقع المهدِّد ومصادر قدراته التهديدية.
لقد تضافرت عوامل إضافية لتقويض نظام التمييز العنصري، وفي مقدمها الانتفاضات الشعبية والإضرابات والاعتصامات العمّالية والكفاح الشعبي المسلّح الذي قاده «المؤتمر الوطني الأفريقي» (بقيادة «الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا») على امتداد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. وتحت وطأة هذه الضغوط والنضالات الفعلية، المرتكزة على حركة نقابية وعمّالية قادرة على شلّ الاقتصاد بأكمله، تلاقت المصالح الاقتصادية لكبريات الشركات الرأسمالية المتعدية للقوميات على قرار فكّ الارتباط بين الاستغلال الاقتصادي الرأسمالي المكثّف ونظام التمييز العنصري الذي حضن ذلك الاستغلال وحماه زمناً طويلاً. وهكذا تولّد لدى الأقلية البيضاء تيار سياسي اختار التضحية بالاستئثار السياسي على أمل الحفاظ على مواقع السيطرة الاقتصادية بيد البيض. ورحّبت أكثرية الأقلية البيضاء بمثل هذا الخيار لأن بديله هو الاقتداء بأشباههم من المستوطنين الأوروبيين في الجزائر الذين لجأوا إلى سياسة الأرض المحروقة ضد الاستقلال الجزائري، واضطروا إلى مغادرة البلد بعدما نالت الجزائر استقلالها.
لم يكن لنظام التمييز العنصري للأقلية البيضاء أن ينهار لولا التغيّرات الجذرية التي طرأت على «دول الطوق» المجاورة وعلى أنظمتها، وقد كانت دولة الأقلية البيضاء تسيطر عليها أو تؤمن حيادها من خلال المساعدات المالية أو التهديد العسكري، فضلاً عن وجود قوات جنوب أفريقية على أراضي البعض منها. لقد انقلب ميزان القوى في دول الطوق هذه عبر عملية مديدة أبرز ما فيها انتصار حركة التحرر الوطني في ناميبيا وأنغولا والموزمبيق وتحرر تلك البلاد من الاستعمار البرتغالي، ونيل الاستقلال، وانتهاء الحرب الأهلية في أنغولا (1975 ـ 2002) بانتصار «الحركة الشعبية لتحرير أنغولا» على «الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا» (UNITA)، وهو انتصار لم يكن ليتحقق لولا الدعم العسكري الكثيف من كوبا الذي سمح بالتغلب على التدخل العسكري لنظام الأقلية البيضاء الجنوب الأفريقي لمصلحة (UNITA).
يتضمن النشاط الفلسطيني الدعاوي والعملي استلهام عدد من تطبيقات النموذج الجنوب أفريقي في مخاطبة «المجتمع الدولي» والتأثير فيه من حيث ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، واعتماد المقاطعة الثقافية والتعليمية للمؤسسات الإسرائيلية، وفرض العقوبات الاقتصادية وغيرها. بل إن تصوّر التسوية التاريخية بشأن فلسطين يستلهم نموذج «لجان الحقيقة والمصالحة» الجنوب أفريقية إطاراً لانتزاع الاعتذار الإسرائيلي الرسمي عن الخطأ التاريخي المرتكب بحق الشعب الفلسطيني.
لست أنوي التخفيف من قيمة وفاعلية هذه النشاطات ووطأتها على الدولة الصهيونية، لكن يصعب التصور أن حملات «المناصرة» الفلسطينية وضغوط «المجتمع الدولي» كفيلة بانقلابات في موازين القوى بين الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل بما يسمح بتحقيق، لا الدولة المستقلة، وإنما الدولة الواحدة الثنائية القومية!
والمفارقة في أمر هذا التطبيقات أنها تهمل الشروط والعوامل المطلوب توافرها لدى «دول الطوق» العربية من أجل المساهمة في تفكيك نظام الاستيطان الصهيوني وتقويضه في فلسطين.. كل فلسطين.
والغريب أن أبلغ الدروس من التجربة الجنوب أفريقية هي هنا. والأغرب أن مهمة استخلاصها عبر عملية مراجعة نقدية وتخيّل وإنتاج معرفي عربية مشتركة لم تقم بعد. فلعل هذه السطور تكون بمثابة الدعوة إليها والتحريض عليها.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى