توازن اللا ثقة في الشمال السوري

يزداد المشهد الميداني في الشمال السوري تعقيدا في ظل توازن مبني على اللاثقة بين الأطراف الفاعلة على الأرض داخل الحدود وخارجها خلقته شبكة تحالفات تكتيكية، يشكل الكرد قاسمها المشترك سواء بتشكيلاتهم العسكرية المباشرة كـ «وحدات حماية الشعب» أو التابعة كـ «قوات سوريا الديموقراطية»، وسط تسابق الخصمَين الروسي والأميركي لكسب ولائهم وفق قاعدة الدعم والدعم المضاد.

يركز الخطاب «الرسمي» الكردي اليوم على ضرورة تضافر الجهود من أجل مواجهة العدو الأخطر في المنطقة وعلى العالم، أي «داعش»، واضعاً إياه مع داعمه التركي في خندق واحد، مع بث رسائل تطمين الى الأطراف المعنية كافة، على اختلاف اهتماماتها، عبر الإشادة بالعلاقات الوطيدة مع الحليف الأميركي والداعم الروسي، وسعي مستمر للتنسيق مع الحكومة السورية في مواجهة «الاحتلال». وهو خطاب سياسي يختلف في جوهره عن الأدبيات الكردية المرتكزة على مبدأ «لا أصدقاء للكرد سوى الجبال»، يفرضه واقع معقد سريع التبدل خاضع لمصالح القوى الفاعلة.

قراءة في كرونولوجيا الأحداث

بالعودة قليلاً إلى الوراء، يمكن للقارئ أن يلاحظ مدى تطابق الخطاب الكردي اليوم مع الرؤية الروسية في الأمس القريب قبل تعديلها غداة حملة الاعتذار التركي الأولى، حينما دأبت الدبلوماسية الروسية آنذاك على التركيز دولياً على كشف الدعم التركي للجماعات المتطرفة وعلى رأسها «داعش» وصفقات النفط المتبادلة بين الطرفين، والمواضيع المتعلقة بحرية التعبير وحقوق الانسان، بالتزامن مع تسريبات تحدثت عن رضى روسي في حينه عن آلية جديدة يتفق عليها الطرفان الحكومي السوري والكردي من أشكال الإدارة الذاتية «نكاية بالأتراك» ربما.

هذا التوجه الروسي قابله الأكراد يومها بالارتياح وبمطالبة موسكو بلعب دور أكبر في تقريب وجهات النظر مع الحكومة السورية، مقابل تراجع في كم المعلومات المسربة حول التعاون الكردي – الأميركي المتوّج بمعركتي عين العرب (كوباني) والشدادة والقواعد الجوية الاميركية في أقصى شمال شرق البلاد.

في المقابل، ظل موقف الحكومة السورية الرسمي ثابتا، مؤكدا على وحدة الأراضي السورية ضمن تساوي حقوق مكونات المجتمع السوري كافة، لكن من دون تسجيل تدخل يخلّ بالستاتيكو الكردي، مصدر القلق الدائم لتركيا والمؤشر لفشل سياسة «العدالة والتنمية» الخارجية، خاصة المتعلقة بالملف السوري. علما أن أردوغان أجبر على تقديم جملة من التراجعات والتنازلات بدأت بإقالة رفيق دربه ومخطط السياسة الخارجية التركية رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو واستبداله ببن علي يلدريم الذي باشر عمله ببث رسائل إيجابية «للأعداء»، وعلى رأسهم الجارة سوريا، إضافة إلى طي ملف غزة والاعتذار لروسيا.

وقد تزامنت خطوات أنقرة مع دخول وسيط بين الحكومتين السورية والتركية يحاول حجز مكان له في الحيز السياسي التركي بعد سنوات من الملاحقات والتهميش، هو حزب «الوطن» التركي، الذي أعلن على لسان رئيسه، المعتقل سابقاً، عن ايمانه بضرورة تقارب البلدين من أجل حماية أمن ووحدة تركيا، كاشفاً عن قيام وفود من أعضاء حزبه بتزويد الخارجية التركية بتفاصيل لقاءاتهم مع الرئيس الأسد والمسؤولين السوريين في دمشق «من دون وجود تكليف رسمي من قبل الحكومة التركية» بلعب هذا الدور، بحسب قول رئيس الحزب.

سعي الوسيط التركي، وهو ذاته وسيط إعادة العلاقات الروسية – التركية، هدف بالدرجة الأولى إلى إيجاد أرضية تفاهم مشتركة بين الحكومة السورية وحلفائها من جهة، والحكومة التركية في الجهة المقابلة، على عدد من القضايا، يتصدرها الملف الكردي أعدو حزب الوطن ذي التوجهات القومية المتطرفة والمعادية للغرب والأكراد على حد سواء.

شكّل اعتذار أردوغان نقطة تحول في السياسة الروسية تجاه «الصديق» التركي «غير الموثوق به»، لتتصدر صور الرئيسين جنبا إلى جنب المشهد السياسي مترافقة مع اتفاقيات اقتصادية ضخمة ووعود بتطوير العلاقات، مع اختفاء الاتهامات الروسية لتركية بدعم «داعش» وتراجع في حركة السياسيين الأكراد من وإلى موسكو.

ومع دخول الإدارة الاميركية الحالية مرحلة تصريف الأعمال، بدأت الحملة التركية «لمحاربة الإرهاب» ضمن ما سمي بعملية «درع الفرات»، اعتمدت على توزيع الضربات العسكرية بشكل متساو ضد عدو الحليف الأميركي والغربي المتثمل بـ «داعش» وحليف الاميركيين الأكراد. ثم اجتازت القوات التركية جرابلس وسط تصريحات روسية وأميركية خجولة، وتزامنت العملية مع حملة عسكرية داخلية في تركيا على مناطق كردية، تبعتها حملة اعتقالات سياسية للنواب ورؤساء البلديات المنتخبين.

استعرت الحرب في الشمال السوري منذرة بصدام وشيك مباشر بين القوات التركية والجيش السوري وحلفائه، ما دفع الحكومة السورية إلى رسم خط أحمر واضح بقصف قوات درع الفرات المتقدمة نحو جبهة الباب. رافق ذلك تصريح نُسب إلى «قائد العمليات الميدانية لقوات الحلفاء في سوريا ينذر بالتعامل بحزم مع أي تقدم للقوات التركية تجاه حلب»، تلته مطالبة نائب وزير الخارجة السوري تركيا «بسحب قواتها من الأراضي السورية فوراً»، غداة اعلان أنقرة عن مقتل 3 من جنودها بغارة للطيران السوري على الأراضي السورية.

عندها، عدّل الأكراد أشرعتهم لتتناسب واتجاه الرياح في المنطقة، فتراجعت حدة الأحاديث المطالبة بالإدارة الذاتية وجاء الإعلان عن تأسيس المقاومة السورية كمظلة جامعة للأطراف السورية كافة، على أرضية مناهضة السياسات التركية تجاه سوريا و «الاحتلال التركي للأراضي السورية في الشمال». تبع ذلك اطلاق عملية «غضب الفرات» لإحياء الذاكرة الدولية بالدور الكردي الفعال في محاربة الإرهاب «الداعشي» وانتزاع الشرعية السياسية والحصانة الأمنية لها في وجه العدوان التركي.

الخلاصة

لا شك أن المشهد السياسي في الشمال لم يكتمل بعد وسط تقاطعات رؤى بين الأعداء، واختلافات بين الحلفاء. ففي حين تتقاطع تصريحات كل من الحكومتين السورية والتركية لجهة ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ورفض أي تقسيم فدرالي، إلا أن ما يفرقهما حالياً أكثر نتيجة الالحاح التركي على أسلمة المنظومة السورية بشكل يسهل التحكم بها والسيطرة عليها في اطار حلم تركي بزعامة «العالم السني».

وإن كان الاكراد والأتراك يتفقان على جملة من الأفكار من بينها العداء للفكر القومي العربي وبطبيعة الحال لحزب «البعث» ورفض الشكل الحالي للمنظومة السورية، إلا أن الهاجس التركي من الوجود الكردي المجتمع داخل الحدود وخارجها يلغي إمكانية أي نوع من أنواع التقارب.

وبرغم تلاقي مواقف الحكومة السورية مع الكرد في رفض السياسات التركية تجاه سوريا، إلا أن المواقف الكردية في بداية الأحداث والمطالبة بالحكم الذاتي والاعلان عن «روجافا» وبرلمان غرب كردستان والتحالف مع الأميركي، وصولاً إلى الاستفزازات الكردية للحكومة السورية في الحسكة حيث الظروف الميدانية لمصلحة الكرد أكثر منها في عفرين، كل ذلك يجعل من الصعب انتظار أي تغير في المشهد الحالي.

أما بالنسبة للروس فالواضح أن التقارب مع تركيا من خلال الاتفاقات السياسية والاقتصادية والهادف إلى تحييدها عن لعب دور رأس الحربة لمصلحة «الناتو» ضدها وتقليص تأثيرها على الحركات الإسلامية المتطرفة في القوقاز، المجال الحيوي للأمن القومي الروسي، لا يسير في جو من الثقة للعدو التاريخي، بحسب ما تؤكده الأرقام التركية للعائدات التجارية مع روسيا، والتي سجلت نمواً بنسبة أقل من 10 في المئة عن مرحلة العقوبات الروسية.

والوضع ذاته يمكن إسقاطه على إيران الراغبة بتسلّم الحكومة التركية «الصديقة» زعامة العالم الإسلامي السني، للاعتقاد السائد سابقا وخاصة في أذهان الإصلاحيين ببعد إدارة «العدالة والتنمية» عن المواقف المتطرفة، وسهولة الاتفاق مع «الإخوان»، لتكشف الأزمة الأخيرة مع الحكومة المركزية العراقية عن استعداد عال لدى أنقرة لاستثمار الدين سياسياً ضد أي طرف كان.

كل ذلك يأتي في ظل غياب تأثير فعال للدور الأميركي، بانتظار اعتلاء رجل الأعمال الجدلي كرسي البيت الأبيض، ما يعزز من الواقع المؤسس على توازن هش في الشمال السوري، بين قوى وأدوات مختلفة مبنية على قاعدة اللاثقة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى