حرب الدولة والميليشيا

ـ 1 ـ

…مصر أعلنت الحرب في سيناء مجدداً. الحرب هذه المرة ضد ميليشيا من كيانات الأممية الإسلامية. كيف وصل الصراع إلى هذه النقطة. دولة أمام ميليشيا، وشعوب تتفرّج بكامل خوفها، وهي في ذلك موضوع الفرجة في استعراض بين الخرافة والواقع. نهايات السياسة وانهيارات الدول. نهاية العالم الآن إذن. والجنون في مداه الأقصى. الأمل ينحصر في إطار النجاة، أو عبور اللحظة. إلى أين؟ لا أحد يدري. لحظة اكتشاف قبل كل شيء. لماذا وصلت هذه المجتمعات التي كانت صاخبة بشعاراتها وبأحلامها في تغيير العالم. وبمشاريعها الخلاصية لإنقاذ البشرية، كيف ذهبت إلى جحيمها بهذه الخطوات المتسارعة؟ يرى الخائفون دائماً أن هذه «لعنة» الثورات العربية التي رعت هذا الانهيار وإن كانت مساهمتها فيه ليست بالقوة المفترضة.
الحرب هذه المرة ضد تنظيم يمرح باستعراضات قتلة في الفراغ الذي تركته الدولة (أمنياً واجتماعياً وإنسانياً) مستثيراً غضبها ودفاعها عن «هيبتها»… التي يلتهمها «داعش» بكل ما أوتي من غموض (في التمويل والمرجعيات الإقليمية والدولية) وشراسة الخارج من بيئته المحلية معبراً عن رثاثة وانحطاط تغطيهما النبالة…

ـ 2 ـ

لم يكن استعراض القتلة خاطفاً، سريعاً مرتبكاً. كان أقرب إلى عملية عسكرية. يتحرّك فيها القتلة بتمكّن ارتفع معه عدد الضحايا ليسجل رقماً جديداً. وهذه غالباً ليست إمكانات «أنصار بيت المقدس» إلا إذا انتقل التنظيم الصغير إلى حالة «الفرانشيز» أو حصل على توكيل من «داعش»… خاصة أنه قبل قليل من مذبحة سيناء الأخيرة وجّه «داعش» رسائل غريبة إلى مصر، ليس بينها دعوات باغتيال القيادات الأمنية، أو تلميحات عن وصول «داعش» إلى مصر أو تسرّبه من قبضة الأمن التي وصلت إلى المرحلة الفولاذية، وهذا إعلان أنهم بالقرب منا.

«داعش» روى حكاية أحمد الدري ضابط الترحيلات الذي كان مقرّباً من السلفيين وتحالف معهم في انتخابات 2012… وقبلها كان قريباً من ائتلافات شباب الثورة قي يناير 2011… عائلة الدري أعلنت في أيار (مايو) موته بالسرطان، لكن «داعش» قدّم قصته المصورة كمجاهد/ انتحاري.
«داعش» أرسل حكايته لتقول واضحة: «… نحن أنتم، أيها الإسلاميون الذين تعلنون وسطية واعتدالاً… نحن أنتم لكننا حصلنا على الفرصة… فرصة الصعود إلى المسرح، لأنه لا حياة في مجتمعات امتصتها الديكتاتوريات النبيلة والمافياوية. ومع قشرة التحديث يمكن صنع ممرات تسير فيها برعاية التركيبات القديمة. فقط ليحلم الجميع بما استطاع من تدمير تلك التركيبات المأساوية التي تسمي نفسها بلاداً وهي «لعبة» أو «مسرحاً» أو «ممراً يعبر فيه القتلة».
الحكاية التي أرسلها «داعش» إلى القاهرة، تقول بأن الذي كان بين «الفئة المعتدلة» من الإسلاميين، ذلك المهذب عندما كان في البوليس واستقال باحثاً عن موقع سياسي، ومكان تحت شمس «المجاهدين بالحسنى» أولئك الذين تسبقهم ضحكتهم…/ سيرتهم العطرة / خروجهم عن الصورة النمطية لأمثالهم… لم يكن بطل قصة «داعش» غيره من الضباط غلاظ القلب، ولذا أحبه السلفيون وأيّدوه في انتخابات مجلس الشعب، لكنه لم يكن مثلهم «مغلقاً جهماً متعصباً…» كان صديق «العلمانيين واليساريين والثوار»… صديقهم المقرّب لكنهم وجدوه بملابس صمّمها مفكّرو تنظيمات الإسلاميين في مرحلة ما بعد أفغانستان… وجدوه بعد أن اختفى تحت حكايات متناقضة عن موت مبكر بالسرطان ثم اكتشاف أنه انجذب إلى الطقس كله وحاز على كنية وقاد عملية انتحارية ونظر جيداً إلى المتفرجين في صورة… لم تنقلب فيها نظرته وهيئته إلى «شرير» سينمائي من النوع المبتذل… إنه من نوع يعيش بيننا / تكوّن بنفس الصديد الذي يجعل القتل مبرراً ما دامت هناك راية ترفرف فوق مسرح الجريمة.

لا يعدم القاتل من راية…

ولا من تبرير …قال أصدقاء له: «…لقد كسرت أحلامه…» وكأنه كان يحلم بدولة تحكمها السكاكين... وقالت عائلته «كان شهيداً… فقد مات من أجل الحرائر…» وكأنه ليس ضمن ميليشيات خرجت من كهوف البدائية لتعيد إنتاج فظائع التاريخ على شاشات الواقع ومعها ابتسامة نصر، ونظرة حانية كأنهم حققوا أحلام العائلات فيهم…

«داعش» هو الكيان الذي تشكّل من هذا الصديد المنتظر للخلافة / الباحث عن هويته في صناديق الهويات الداعمة للانتقام من الحياة…/ كيف تنتظر هذا العرض الدموي / كيف تتصوّر أن حياتك في الماضي؟

إنهم قتلة خارجون من فراغ «الدولة المستبدة» والتي تريد العودة بكل ما تحمله من فشل في التركيبة / وتغيير في الوجوه / هذه الدولة التي تدخل رهاناتها ضد «داعش» هي صانعة الهزة التي جعلت كل شيء من التحرّر إلى النهضة وحتى التحديث كوابيس الحياة في بلاد عاشت على الانتظار. لبنان عاش بانتظار أن تكون الطائفية رحيمة. وفلسطين أن تلتئم خريطتها. ومصر أن تخرج من مزاج الحرب اقتصادياً واجتماعياً. وليبيا والعراق وسوريا أن تصبح «دولاً… بلا مجانين في حكمها»… وهذه الانتظارات كانت الماصة الكونية التي امتصت عبرها هذه الأنظمة تلك البلاد ليبقى الانتظار وحده من دون بلاد ولا أنظمة قادرة على استثماره…

كان كل شيء مكروهاً يتضخم من الطائفية إلى الفساد وحتى إسرائيل… بينما المسارح تنصب لتصبح هذه الأرض متسعة لعروض القتلة من كل لون وموديل…

ـ 3 ـ

«داعش» لا تنهيه حرب أمنية فقط.

فهو مستودع قتلة. مورده الأول هو هشاشة النخب الحاكمة في الدولة، والدولة بحروبها لن توقف تيار انتظار الخلافة. المجتمع سينجح أسرع وهذه علامة هامة في هزيمة «النهضة» في تونس بالانتخابات. ففي هذه النتيجة تأكيد على أن هناك طريقاً لمواجهة الإرهاب غير الدم والقهر وابتلاع الدولة للمجال السياسي.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى