حروب جديدة.. أو روح المسؤوليّة

انتهت «عاصفة الحزم» على اليمن، موقتاً على الأقلّ. بدأت الأنظار تترقّب الخطوة التالية في تصعيد الصراعات القائمة في المنطقة منذ أن قوّضت أحداث «الربيع العربيّ» أسس الاستقرار الداخليّ والجيوستراتيجي. وخلقت التحرّكات الدبلوماسيّة التي أدّت إلى وقف هذه العمليّة العسكريّة، الأولى من نوعها في تاريخ السعوديّة والخليج، مناخاً يبعث على التفاؤل في إمكانيّة إرساء أسس توازنٍ جيوستراتيجيّ جديد بين الفرقاء الأكثر بروزاً في صراعات المنطقة، أي إيران وتركيا والسعوديّة.. وإسرائيل. وربّما أنّ إدارة الرئيس أوباما، بعد الاتفاق الأوليّ حول الملفّ النوويّ الإيراني الذي جهدت لإنجازه، تسعى إلى ذلك، عبر دعوتها قادة دول الخليج إلى «خلوة» في منتجع «كامب دافيد» في منتصف آيّار، قبل الدخول في أجواء الانتخابات الأميركيّة القادمة.

كثيرٌ من المعطيات لا يشجّع على الاعتقاد بإمكانيّة تحقيق هذا التوازن ووقف الحروب العبثيّة والفوضى ومعاناة السكّان، وخاصّة إنهاء استغلال الفرقاء البارزين، وأولئك الأقلّ بروزاً، للتنظيمات المتطرّفة، مثل «داعش» و «القاعدة»، لتقويض دور الآخرين. مثل هذا الاستغلال لا يتطلّب سوى مال وأجهزة أمنيّة. والمال في المنطقة وفير لخلق الاضطرابات وليس للتنمية. وما يُخشى منه دخول بلدان جديدة كثيفة السكّان بدورها دوامة عدم الاستقرار والحروب الداخليّة العبثيّة، كي يتعقّد المشهد أكثر وأكثر وتخرج التنظيمات المتطرّفة وحدها… منتصرة في المنطقة.

إنّ جذور الاضطرابات القائمة في بلدان المنطقة هي في الأساس داخليّة. مجتمعات أضحى الشباب هم غالبيّة السكّان فيها، لا أفق لهم سوى استبدادٍ دام طويلاً، وقوى تسلّطيّة تتحكّم بمؤسسات ومقدّرات الدول معتمدةً على عصبيّات، ومؤسّسات دولة لم تتطوّر حقّاً منذ زمن الاستقلال كي تحتوي أزمات بهذا العمق. بالتالي انفرط العقد الاجتماعيّ القائم في كثيرٍ من هذه الدول، وظهرت عصبيّات محليّة لما قبل الدولة. وأخذت الاضطرابات تهدّد مقوّمات الدول بحدّ ذاتها، خاصّة أنّ الصراع الجيوستراتيجيّ جرّ الانتفاضات من ثورات من أجل حقوق وكرامة وحريّات إلى صراعات بين هويّات مذهبيّة ودينيّة وقوميّة. صراعات بين سنّة وشيعة، حتّى عندما لا يكون الحوثيوّن شيعة، ولا هُم جميعهم زيديّون. صراعات من جديد بين سنّة «صوفيّين» ووهابيّين يريدون تطبيق حدودٍ أخرجت من سياقها التاريخيّ. صراعات بين «نصيريين» و «تكفيريين»، بحسب التعابير المستخدمة. وصراعات بين عرب وكرد. وصراعات بين إسلام ومسيحيّة ويهودية.

وصراع الهويّات، الحقيقيّة أو المفترضة، لا حلّ له إلاّ عبر تقسيم الدول أو إرساء دول مساواة في المواطنة. وكلاهما يأخذان إلى مسارات صعبة، تهدّد بحكم الواقع القائم وجود ومقوّمات الدول الأخرى. ولا تشذّ حتّى الدول الأكثر بروزاً وقوّة، والمفترض أن يخلق توازنها الاستقرار، عن مواجهة مثل تلك التهديدات. وكذلك لم تعرف تونس، الأكثر تأهيلاً لإرساء عقدٍ اجتماعيّ حديث بعد «ثورتها»، سبيلاً لها نحو ترسيخ الاستقرار.

بالتالي، لا يُمكن أن يتطوّر وضع المنطقة إيجاباً نحو التوازن من دون وقف التحريض المذهبيّ المتبادل أوّلاً. أي أن تنتقل الدولة الإيرانيّة إلى ما بعد ولاية الفقيه، وأن تنتقل الدولة السعوديّة إلى ما بعد التزمّت الوهابيّ، وأن ينتقل الإسلام السياسيّ إلى إقرار أنّ «الدين لله والوطن للجميع». ولو تدريجيّاً. وإلاّ ستستمرّ الكوارث، ولن يبقَ من ثوابت في المنطقة سوى… يهوديّة دولة إسرائيل، التي تزعم كلٌّ من إيران وتركيا والسعوديّة أنّها نقيضتها الوجوديّة.

الاستقرار لن يعود إلى العراق وتحقيق الانتصار على «داعش» لن يتمّ دون ذلك. ولن تخرج سوريا من حربها العبثيّة، ولن تنهزم «داعش» و «النصرة» فيها. ولن تخرج اليمن وليبيا من الفوضى.

لقد انخرطت القوى الأكثر بروزاً جميعها، أي إيران وتركيا والسعوديّة وإسرائيل، بشكلٍ مباشر في صراعات ما بعد «الربيع العربيّ». وأبرزت قوّتها في وجه كلّ من روسيا والولايات المتحدة. ولم يبقَ لها سوى أن تتواجه في حروبٍ مباشرة، وإظهار التحالفات الضمنيّة بينها. فهل سيأخذ إبراز القوّة هذه إلى مرحلة ما يمثّل فيها بالتحديد روح المسؤوليّة تجاه المنطقة، وانطلاقاً حيال جميع أبنائها؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى