تحليلات سياسية

رؤية بريجنسكي للمستقبل العربي

عوني فرسخ

كان بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، في إدارة الرئيس كارتر، أول من دعا لتفكيك النظام الإقليمي العربي وطمس عروبته، وإعادة تشكيله على أسس عرقية وطائفية . ففي كتابه “بين جيلين”، الصادر أواسط سبعينات القرن الماضي، كتب يقول: “الشرق الاوسط مثلا مكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة يجمعها إطار إقليمي . فسكان مصر ومناطق شرق البحر المتوسط غير عرب، أما داخل سوريا فهم عرب . وعلى ذلك فسوف يكون هناك “شرق أوسط” مكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة على أساس مبدأ الدولة – الأمة، تتحول إلى كانتونات طائفية وعرقية يجمعها إطار إقليمي (كونفيدرالي) . . ويضيف قائلاً: “وهذا سيسمح للكانتون “الإسرائيلي” أن يعيش في المنطقة بعد أن تصفى فكرة القومية” .
ومؤخراً كتب في العدد الأخير من مجلة “فورين بوليسي” مستعرضاً تداعيات تراجع أمريكياً على حلفائها في العالم . وفي تناوله للتداعيات على الوطن العربي يرى أن المنطقة معرضة لتقويض استقرارها السياسي، وأن جميع دولها معرضة لدرجات متفاوتة من الضغوط الشعبوية الداخلية، والقلاقل  الاجتماعية، وصعود الأصولية الدينية . ويذهب إلى أن عدم التوصل في الصراع العربي – الصهيوني لحل الدولتين سيزيد العداء ل”إسرائيل” . وهو يتوقع حدوث فورات تتحول لمواجهات عسكرية بين ايران و”إسرائيل” تدفع ثمنها الكيانات الاضعف، خاصة لبنان وفلسطين، فضلاً عن أنها ستؤدي لتصاعد الأصولية الإسلامية والتطرف وأزمة طاقة عالمية، وتعرض حلفاء أمريكا في الخليج للخطر .
ولا شك أن دور أمريكا تراجع عالمياً، وهذا ما يقر به بريجنسكي، غير أن تدخلها في أدق شؤون الوطن العربي لم يتراجع، ولا انحسر تآمرها على وحدة أقطاره وانتمائها القومي، بل زاد وتضاعف خطرهما . ذلك لأن أداتها الاستراتيجية في الاقليم العربي هي اليوم أشد حاجة والحاحاً لدعم الادارة والأجهزة الأمريكية، بعد أن أفقدتها المقاومة قوة ردعها، ما تعانيه من قلق بفعل الربيع العربي الذي وضع الشعوب العربية على عتبة الانعتاق من أسار الركود الذي ران عليها طوال العقود الأربعة التالية للردة الساداتية وافتقاد مصر دورها القومي المرجح استعادتها له بعد سقوط مبارك، “كنز “إسرائيل “الاستراتيجي” .
والسؤال المحوري: ما العمل في مواجهة المخاطر التي تحدث عنها بريجنسكي، ونذر تفتيت وحدة التراب الوطني والنسيج المجتمعي لأكثر من قطر عربي، وتداعيات خطاب غلاة الاصوليين الاسلاميين والمسيحيين و”صقور” الأقليات في مشرق الوطن العربي ومغربه؟ وفي الإجابة أرى أن كل من يهمه أمن واستقرار وتقدم ورخاء مواطني أقطار جامعة الدول العربية مطالبون بالعمل على المحاور التالية:
* الأول، تعميم وتعميق الشعور بالانتماء للعروبة، أخذا بالحسبان أن العروبة لا تعود لانتساب سلالي وإنما لانتماء حضاري لثقافة عربية اسلامية أسهم في نسج خيوطها مبدعون متعددو الأديان والمذاهب والطوائف، يعود غالبيتهم في أصولهم لمنطقة الوطن العربي، وغير قليل ممن توافدوا عليه في صدر الإسلام حين كان مركز الحضارة الأول عالميا . بحيث شكلت الثقافة العربية الإسلامية توليفة تفاعل مبدع بين تراث الشعوب التي عمرت الوطن العربي منذ فجر التاريخ، وما أضفاه الإسلام من قيم انسانية وتعاليم روحية، وما ترجم من تراث فارس والهند واليونان . ثم إن الدعوة للالتزام بالعروبة إنما هي الاستجابة التي يستدعيها تحدي استهداف النظام الاقليمي العربي وهويته المتمثل بالاستراتيجية الأمريكية لإقامة “الشرق الاوسط الجديد/الكبير”، المراد له أن يدور في الفلك الأمريكي بقيادة “إسرائيل”، كي يتواصل واقع التجزئة والتخلف والتبعية الذي تعيشه الشعوب العربية.
* الثاني: العمل الجاد والصادق لتعميق الشعور بالوحدة الوطنية في كل قطر عربي، وذلك بتفعيل وتطوير ما  هو مشترك بين مواطنيه، وتأصيل مفهوم المواطنة القائم على تأكيد مساواة جميع شركاء المسيرة والمصير في الحقوق والواجبات، وتعميق ثقافة الحوار واحترام حق الآخر بالاختلاف باعتبار ذلك أول شروط التقدم على طريق الديمقراطية التي تنشدها الشعوب العربية . فضلا عن أهمية ذلك في إثراء الثقافة الوطنية وتعزيز وحدة النسيج الاجتماعي الوطني، وبلورة مرجعية وطنية جامعة . أخذا بالحسبان تميز الواقع في معظم الأقطار العربية بالتداخل السكاني وسعة وعمق  التفاعلات الاجتماعية فيما بين أبناء وبنات مختلف الجماعات الوطنية . والثابت في تجارب سائر الامم والشعوب أن الالتزام بالوحدة الوطنية أول شروط توفر مناخات التقدم والازدهار في مختلف نواحي الحياة، فيما استشراء الفتن الطائفية والعرقية لا يسلم من آثارها السلبية احد، خاصة الراقصين على طبول دعوات التعصب العرقي والطائفي .
* الثالث: التوجه الجاد والواعي نحو التكامل القومي العربي، باعتبار الوحدة العربية غدت ضرورة تاريخية لمواجهة افتقاد الأقطار العربية للمنعة تجاه الضغوط والمداخلات الخارجية، وافتقار غالبيتها لمقومات مواكبة التقدم العلمي والمعرفي متسارع الخطى عالميا، وتزايد المواطنين وتعاظم احتياجاتهم بما يفوق تطور امكانات غالبية الاقطار العربية . فضلا عن تميز الوطن العربي بامتلاكه مقومات الوحدة إذ هو على درجة  عالية من التجانس والاندماج على محاور السلالة التاريخية واللغة والثقافة والقيم وأنماط السلوك، ولدرجة كبيرة على محور الدين والمذهب، وبرغم ذلك لما تزل الشعوب العربية أسيرة واقع التجزئة والقصور عن توظيف إمكانات وطنها الكبير المادية وقدراته البشرية بما يؤدي إلى تطوير قدراته الانتاجية وبحيث يبقى مستورداً أساسياً للسلع والخدمات ومهجراً للعقول . ناهيك عن كون الأزمة الاقتصادية لعبت دوراً أساسياً في تفجر ثورتي تونس ومصر . فضلاً عن خطورة العجز المالي الذي تعانيه غالبية الأقطار العربية والقطاع الأوسع من النخب الفكرية والسياسية، وما يدفع إليه من لجوء لطلب “الدعم” الخارجي، رغم ما ينطوي عليه من مساس خطر باستقلال الإرادة والثوابت الوطنية .
وعليه فالاستجابة الفاعلة للتحدي الذي يجسده مخطط التفتيت العرقي والطائفي المعتمد أمريكياً، تستدعي عملاً جاداً وصادقاً على محاور تعميم وتعميق الوعي بأهمية الالتزام بالعروبة الجامعة، والوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي، والتكامل القومي . ولا خلاف أن استجابة من هذا المستوى غير ميسورة في الواقع الراهن، غير أن التحدي الخطر الذي يمثله مخطط التفتيت سوف يستفز المخزون الحضاري لأمة عرفت تاريخياً بقدرتها الفذة على النهوض من الكبوات ودحر الغزاة . وفي تطور قدرات وأداء قوى المقاومة، كما في الربيع العربي ما يدعو للتفاؤل بالمستقبل العربي.

صحيفة الخليج الإماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى