سلالة «ويكيليكس»: يا للعار!

فقدت «ويكيليكس» عنصر الإثارة. لم يعد مفاجئاً ما تكتشفه وما يتسرّب من وثائق. فداحة المضمون وأفعال القرصنة واتفاقات العار وشراء الذمم وإثارة الحروب، لا تحقن القارئ بجرعة استفظاع أو استنكار أو إدانة… «الجمهور» العالمي، يعيش في أكثريته حقبة انعدام الإحساس ومعرفته المسبقة. لقد كسر نظام الفساد الدولي والإقليمي والمحلي سلّم القيم، واستبدل الأخلاق النظيفة، بتنظيف السياسة من الأخلاق.

ليس مثيراً معرفة أن أميركا تتنصت على أصدقائها كما تتنصت على خصومها وأعدائها، واكتشاف ذلك وتداوله على الملأ الأوروبي. شيراك وساركوزي وهولاند ثرثروا كثيراً على هواتفهم، وأسرّوا كلاماً كثيراً يبقى طيّ الكتمان، لكن أميركا كانت تتنصت عليهم. نظام التنصت والمراقبة غير محدود. ادوارد سنودن لم يأت بجديد عندما أكد أن وسائط التواصل الاجتماعي «الجماهيرية»، ليست محايدة، فهي مبرمجة لتكون قادرة على تسجيل مراكز التحليل والأمن الاستراتيجي والاقتصادي ومراقبتها وتزويدها، بكل ما يُتداول، ولو كان من صنف الأسرار الخطيرة.

لم يعد مثيراً معرفة تجنيد عملاء ومرتزقة من «الأعداء» و «الأصدقاء»، ولا عاد مفاجئاً معرفة أن دولة عظمى أو دنيا، زرعت رجالاً لها في هرم سلطة دولة، حليفة أو عدوة، أو في إداراتها الأمنية والمالية وحتى العسكرية. وهذه الأفعال، ليست حكراً على دولة. ففرنسا تتنصّت وتزرع رجالاتها، كما تفعل أنغيلا ميركل.

فما الجديد الذي تأتي به «ويكيليكس»، إذا كان العالم على هذه الشاكلة، وإذا كانت «الخيانات المتبادلة» هي النمط السلوكي السائد بين الدول؟ معسول الكلام الديبلوماسي يخفي دائماً حقائق مريعة وفضائح مشينة وسياسات إجرامية وعولمة تتفنن في أساليب السلب والاستلاب.

ومع ذلك، تظل «ويكيليكس» جرس الإنذار وجرس التذكير. قيمة الوثائق المتداولة أنها تفصح عن الخاص في العام، عن المرتكِب وليس عن الارتكاب، عن الفاسد وليس عن الفساد، عن المتآمر الحقيقي وليس عن المؤامرة، عن المرتشي والشحاذ والمرتكب، وليس عن عالم الفساد… «ويكيليكس» تنزل الكلام من طوباوية الاتهام، إلى تأسيس مضبطة اتهام بالفاعل أو المرتكِب. بهذا المعنى، تعيد إلى القيم حضورها، ولو بشكل عابر، نظراً لجسامة وثقل التغافل والإهمال والتبسيط واللامسؤولية.

أن تعرف أن المرتكِب هو هذا أو ذاك، يفترض فيك أن تتخذ موقفاً. هذا الموقف ليس مطلوباً من التابع أو القانع بأن ما كُتب قد كُتب، وأن الحساب لم يحُن أوانه وقد لا يحين أبداً، وأن «الباطل ليس زهوقا». كل المعنى يكمن في الموقف من المعرفة. التنكر لها عادة مربحة ورخيصة، أما الالتزام بها، فمكلف وباهظ التعب.

تشكل الحياة السياسية في لبنان نموذجاً للتردي والتخلف. ما كشفته وثائق «ويكيليكس» عن سياسييه وقادة السياسة فيه، معروف من زمان. ليس بحاجة إلى من يدلّ اللبنانيين عليه. وصفه وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة بما يلي: «الفساد يسير متباهياً». الفساد ليس عورة. هو فضيلة سياسية فذة. من ليس فاسداً لا يرقى إلى سدة ما أو إلى موقع، سُلّم الفساد وهو الأسهل للترقي في النظام السياسي. مَن ليس فاسداً، طريقه صعب وشاق، وأحياناً، ميؤوس منه. يوصل الإنسان إلى راحة الضمير ويكبّده مشقة اللاوصول.

من زمان، والحياة السياسية مرهونة بالسفارات. سُمّي الكثير من ساسة لبنان، قبل استقلاله وبعده، بأولاد القناصل. من زمان، وسفراء الدول يعجبون من سرعة اللبنانيين إلى عرض نفوسهم لخدمة الأجنبي. من عادة البعثات الديبلوماسية أن تجهد في كشف من توظفه لخدمة سياساتها. طلبات الانتساب إلى هذه السفارة أو تلك، لا تتوقف عن الازدياد. يتباهى اللبنانيون، المختصون بالسياسات الرخيصة، ولو كانوا قادة، برضى السفير والسفارة، أو بعض موظفيها.

تمثل السعودية محجة لا بد منها لعدد من التنظيمات والمؤسسات والقيادات السياسية والحزبية. وهي بالمناسبة، كريمة جداً مع من يواليها. غضوب جداً، لمن يعصي أو يعارض أو يناوئ أو يعادي أو ينتقد سياساتها.

ما كشفته «ويكيليكس» حتى الآن، وقد يكون الآتي أعظم، معروف من اللبنانيين. التدفقات المالية غزيرة. قيل إن الانتخابات الأخيرة في لبنان، كلفت المملكة السعودية ملياري دولار. ما قبل الانتخابات وما بعدها، أفدح من ذلك بالأرقام. ومعلوم أن ليس لدى السعودية شيء تصدره إلى لبنان. نظامها الملكي غير قابل للتصدير. حياتها السياسية لا يمكن تقليدها. تشكل نموذجاً لذاتها. لا يستطيع اللبناني أن يقلّد السعودية، لا ديناً ولا عقيدة ولا تقليداً ولا ثقافة ولا فناً ولا فلسفة ولا… من دون أن يعني ذلك، أن الإنسان السعودي غير كفء إبداعياً، إذا أتيح له حظ من حرية التعبير والتأليف والتفكير والبحث والتنقيب والإنتاج. لا ينقص الإنسان السعودي الطاقة على الإبداع، لكن نظامه لا ييسّر له ذلك… إذاً، ليس لدى اللبناني حاجة في استيراد أمر من السعودية (لا أقصد السلع) ولا في قدرة السعودية أن تصدر نموذجها الخاص بها.

ماذا تريد السعودية من لبنان؟

تريد أشياء كثيرة، في السياسة وتحديداً في الخيارات الخارجية. وتريد أكثر، حماية نفسها ونظامها وسياساتها، من أي انتقاد. وهي في ذلك، لا تبدو مذهبية أو طائفية. فالمحظيون من كل الطوائف والمذاهب، واللائحة تبدأ من رؤساء أحزاب إلى طالبي رئاسة إلى طامحي ثروة، إلى مروّجي عداء. وأبرز الأعداء، المقاومة اللبنانية. وبسبب فائض المال الذي تنفقه في لبنان، وبسبب تلبيتها لطلبات القاصدين سخاءها، تتمتع بنفوذ كبير، تعبّر عنه مدائح السياسيين والقادة، والتزامهم الحرفي بخياراتها الإقليمية والداخلية.

كل هذا ليس جديداً. الجديد هو هذا الجرس الذي تقرعه الوثائق. جرس يقول لنا: هذا ما أنتم عليه. على الأقل، بين اللبنانيين مَن يتبرع بالقول: «يا عيب الشوم» علينا.

غداً، إذا حصلت «ويكيليكس» على ملفات من دول أخرى، لها علاقة بلبنان، سيكتمل نصاب الفساد، وعلى الأقل، سيتبرّع بعض اللبنانيين بالقول: «يا للعار»! من دون أن يشعر هؤلاء ومَن معهم، بأيّ عار.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى