سوريا.. رمزٌ يتخطّى الحدود

في خضمّ مأساتهم الدامية، يُمكن للسوريين أن يفتخروا – يا لسخرية القدر – أنّ أزمتهم تطيح وزير دفاع الولايات المتحدة وتخلق شروخاً عميقة وصراعات خفيّة بين دول كبرى متحالفة منذ زمنٍ طويل. إلاّ أنّ هذه الأقدار ليست جديدة، فهي ترتبط بطبيعة بلادهم وهويّة سكّانها مثلما ترتبط بتطوّرات الأمم التي تحيط بها.

سوريا هويّة تتضمّن هويّات متعددّة. ورثت بيزنطة وفارس ومدارس فكرهما، واحتوتهما وحافظت عليهما في إطار حضارة عربيّة إسلاميّة منفتحة كانت في مرحلة ما من التاريخ.. هي الدنيا. سوريا لا يشبه إسلامها إسلام الآخرين، فهو يحفظ السيرة المحمّدية في ذاكرة جمعيّة أكبر وأسمى إنسانيّاً من مجرّد اختزالها في صورة مغلقة يتقمّصها اليوم المتطرّفون. وسوريا تخطّت عروبتها أعراب البداوة منذ القدم، إذ حوّلت شِعرُهم والتعبير باللغة إلى هويّة أهمّ من القبليّة، وأخذتهما نحو فضاء العالميّة الرحب.

سوريا «شام شريف» لدى كلّ جيرانها. سنيّة وشيعيّة وعلويّة ودرزيّة واسماعيليّة وأيزيديّة ومسيحيّة بيزنطيّة وسريانيّة وأرمنيّة، وأرثوذكسيّة وكاثوليكيّة، وعربيّة وكرديّة وتركمانيّة وشركسيّة والكثير غير ذلك. إنّها «البلد الذي تبقّى» من عالمٍ يحمي الهويّات المتعدّدة ضمن هويّة جامعة، ولا يُمكن أن تستوي إلاّ كذلك.

وسوريا هويّات مناطقيّة حول مدنٍ لكلّ منها تاريخها وهويّتها، فحلب ليست دمشق، وحمص ليست حماه، ودرعا ليست السويداء، والقامشلي ليست دير الزور، وإدلب ليست معرّة النعمان..

هذا ليس جديداً. وليس جديداً أن تحاول دول إقليميّة أو دول كبرى اللعب عل هذه الهويّات المتعدّدة واستغلالها، من منطق استعماريٍّ فقط، بل لصعوبة تصوّرها لمثل هذا التنوّع نتيجة لتاريخها الخاصّ. أوروبا الحديثة لم تستطع تحمّل يوغوسلافيا موحّدة ضمن جماعتها، وتركيا ما زالت تتخبّط بين إرث مؤسّسها الحديث وعثمانيّتها، والخليج العربيّ ما زال يبحث عن هويّة تتخطّى القبليّة وتقبل التنوّع المذهبيّ، ولبنان ما زال يجهد كي يبتعد عن منطق «ملوك الطوائف».

ما أبقى سوريا موحدّة هو أنّ رجالاً ونساء، وعلى أساس الذاكرة الجمعيّة لـ»شام شريف»، وحفاظاً عليها، عرباً وكرداً، إسلاماً ومسيحيين، وأبناء مدنٍ وأرياف وبداوة، بعيداً عن منطق الأغلبيّة والأقليّة.. اجتمعوا على كلمة صيانة «البلد الذي تبقّى» لأنّه بالضبط إرثهم.

لم تكن «كتلتهم الوطنيّة» حزباً سياسيّاً، ولا ائتلافاً ثوريّاً يبحث عن اعترافٍ خارجيّ، بل كانت استمراراً لحلم إنشاء دولة. دولة وعدتهم بها القوى المجتمعة على «الرجل المريض»، الإمبراطوريّة العثمانيّة المتهالكة، وخانت الوعد ضمن شروخاتها ومعاركها الاستعماريّة. لقد انتفضوا من جحيم آلام حرب «سفر برّ» والمجاعة والتهجير، كما هو الحال اليوم، ليقولوا إنّهم ورثة شيء يجب الحفاظ عليه بأيّ ثمن.

واجه رجالٌ ونساء شبه عزّل الدبّابات والطائرات في ميسلون، حتّى لا يُقال إنّ البلاد أخذت من دون مقاومة. وانتفضوا لثورة جبل عامل غير آبهين بالفرقة بين مسلمين ومسيحيين، وبين سنّة وشيعة. وانتفضت العشائر العربيّة والكرديّة نصرة للمدن المحتلّة، وانتفضت المدن وأريافها نصرة لجبل الزاوية ولجبل الدروز. وانتفض العلويّون كغيرهم من السوريين للمشروع المشترك برغم كلّ مشاعر الظلم. انتصرت حلب لدمشق ودمشق لحلب.

رجالٌ ونساء ربّما لم يمثّل كلّ منهم أغلبيّة في أوساطهم وضمن هويّاتهم. لكنّهم انتصروا لمشروعٍ مشترك يتخطّى الهويّات الخاصّة. تآمروا هم على المؤامرة، قبل أن تقضي المؤامرة على بلدهم، وعليهم ضمن مشروعٍ ضيّق.

وما أحوجنا في هذه الأيّام الحالكة السواد بأن يلتقي رجالٌ ونساء ويجمعون أصواتهم أبعد من هويّاتهم القاتلة، ويفرّقوا بين الوعود بالحريّة وبين أطماع الدول، وينتفضوا ضدّ الاستبداد ومشاريع التقسيم سويّة. وما أحوجنا لامتلاك جسارة تخطّي الواقع، كي يبقى هذا البلد ويستمرّ رمزاً للهويّة الواحدة الجامعة والمتعدّدة في آن، ومهما كان الثمن باهظاً.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى