صعود وسقوط الامبراطورية

 

لم يكن ما حصل في واشنطن مفاجأة. ولم يكن دونالد ترامب مسؤولاً عنه. هذا الرجل رفع الستارة عن الأزمة البنيويّة الأميركية وعن الحقيقة التي ضلّلتنا عنها الميديا المملوكة للسلطات القيّمة على خراب أميركا والعالم.

قبل قرنٍ ونصف، وصف ألكسيس دي توكفيل الولايات المتحدة بأنها “شعبٌ من المهاجرين الذين تجمعهم أيديولوجية المنفعة“.

قبل 32 سنة، أصدر المؤرّخ الأهم في القرن العشرين بول كنيدي “صعود وسقوط القوى العظمى” واعتبر أنّ التمدّد الاستعماري للامبراطورية الأميركية سيكون أحد أسباب هبوطها، بانياً استنتاجاته على تحليلٍ وأرقام حول حجم الإنتاج الأميركي بين الحربين وأثرهما، وتراجعهما الذي يعود بشكلٍ أساسيٍّ إلى الانتشار العسكري والتمويلي في العالم.

في العام 1999، كتب نعوم شومسكي مقالاً تحليلياً حول حرب يوغوسلافيا بعنوان: “الولايات المتحدة، قلق البداية أم خوف النهاية؟”، اعتبر فيه أنّ الامبراطوريات تعيش مرحلتين تكونان الأكثر عنفاً في تاريخها، مرحلة قلق البداية التي تكون فيها محتاجةً إلى الحروب والعنف لترتقي من صفة الدولة العظمى إلى الامبراطورية العظمى. أمّا مرحلة خوف النهاية،  فتحتاج إلى الحروب، من النوع ذاته أو من أنواعٍ جديدة لتلبّي مخاوف النهاية وتحول دون خسارتها لمقامها كإمبراطوريةٍ مهيمنةٍ على العالم. لكنّ هذه الحروب وما يرافقها أو يليها من أعمال عنف وتدابير مختلفة، تسرّع النهاية نفسها.

في العام 1993، أصدر الجيوبوليتيكي والديبلوماسي الفرنسي جان كريستوف روفين كتاباً بعنوان: “الإمبراطورية والبرابرة الجدد”. تركّزت تحليلاته حول مختلف الأمور المتعلقة بالامبراطورية الأميركية التي استقرّت على عرش العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، وتحدّث عن مفهوم “الكتلة المقابلة” حيث تأخذ العلوم السياسية من علم الفيزياء، ليستنتج أنّ انهيار الكتلة الأولى سيؤدي، بعد فترةٍ الى انهيار الكتلة الثانية.

في العام 2004، تلقّف صموئيل هنتنغتون هذا المفهوم في كتابه، “من نحن؟ تحديات الهوية الأميركية” قائلاً إنّ الولايات المتحدة حاولت أنّ تجد كتلةً مقابلة بديلة، لا سيما عصابات التهريب في أميركا الجنوبية، ولكنها لم تكن بالوزن المرجوّ، لذلك لجأت إلى بدائل، ووجدت أنّ الكتلة الإسلامية هي الأفضل للعب هذا الدور- الثقل.

لكن الأخطر في كتاب هنتنغتون، هو ما تعلّق بالشأن الداخلي الأميركي، حيث حدّد الهوية بثلاث: العرق الأبيض، الثقافة الانكلوساكسونية والديانة البروتستانتية، وإن كان قد أورد ذلك ليفسر التحدي الذي تمثّله أميركا الجنوبية ذات العرق المختلط، والثقافة اللاتينية والديانة الكاثوليكية، فإن مآل هذه النظرة تودي إلى معضلةٍ داخليةٍ في الولايات المتحدة نفسها، فماذا بشأن المواطنين الذين لا تتوفّر فيهم شروط الهوية التي ذكرها هينتنغتون؟ هنا تتبدّى إحدى المشاكل البنيوية الأكثر عمقاً في روح المجتمع الأميركي.

المشكلة الثانية تُربط بمقولة المؤرخ توكفيل، فماذا لو اهتزّت المنفعة إضافةً إلى اهتزاز التركيبة الديموغرافية؟

تعود زعزعة المنفعة إلى ثلاثة عوامل:

العامل الأول مرتبطٌ بكلّ ما ورد أعلاه من أسبابٍ خارجية دولية وتأثيرها على الاقتصاد.

أمّا العامل الثاني، فهو منوطٌ بلعبةٍ خطيرة تبنّتها الولايات المتحدة نفسها. في المرحلة الأولى بعد الحرب الثانية، كان أهمّ أسباب تسيّد الولايات المتحدة اقتصادياً، كونها القوة الكبرى الوحيدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية غير مدمّرة البنى (من دول الحلفاء والمحور على حدٍّ سواء). اعتمدت الرأسمالية الحمائية الوطنية مدعّمةً بقوةٍ سياسيةٍ عسكرية.

لكنها راحت تتّجه منذ عهد ريغن إلى نيوليبراليةٍ متوحشة بلغت أوجها مع استقرار العولمة النيوليبرالية، معتقدةً أنها بذلك ستهيمن على العالم بشكلٍ نهائي، بفعل الهيمنة على السوق ونشر ثقافته. غير أنّ الواقع اصطدم بأمرين: الأول هو وجود قوى أخرى في العالم استفادت من هذه العولمة لتنمو وتهدّد الحياة الاقتصادية داخل الولايات المتحدة نفسها؛ والثاني هو أنّ هذا التطور كان يترافق مع تعمّقٍ غير مسبوقٍ في أخدود غياب العدالة الاجتماعية، طبقياً وجغرافياً وقطاعياً.

ويرتبط كلا الأمرين بواقعٍ فرضته العولمة نفسها، ألا وهو تماهي القيادات السياسية مع القيادات الاقتصادية التابعة للشركات المتعدّدة الجنسيات “سادة العالم الجدد”، كما وصفها إينياسيو رامونيه في كتابه الصادر عام 1991.

هذه الشركات غير معنيّةٍ بالأوطان ولا بالبشر، وليست سوى ساحات وأدوات للربح، مهما تعمّق غياب العدالة الاجتماعية ومهما شعر البشر بالانتهاك والاستغلال. لا يهمّ ما يفقد هذا الوطن لحساب ذاك، المهم هو ربح هذه الشركة مقابل تلك.

ومما يزيد الأمر خطورة ارتباط هذه الشركات باللوبي الصناعي العسكري وما يدور في فلكه من لوبيّات أخرى. قد يصبح تجويع الناس أو قتلهم بالسلاح أو بالمرض أو بالدواء أو بالفقر وسيلةً مباحة. إنّه اللّوبي الذي تنبّأ به ريتشارد نيكسون في خطاب استقالته قائلاً “إذا استمر في النمو، فسيقضي على الديمقراطية الأميركية”.

فماذا بقي من المنفعة لمجموعة المهاجرين التي اجتمعت عليها كأيديولوجيا؟ باتت مهدّدةً خارجياً، وضحية الاحتكار المجرم داخلياً. لقد كشفت دراسةٌ أعدّتها جامعة ويسكنسون لحساب ترامب عام 2015، أنّ الناخبين البيض والفلاحين وسكان الأرياف حانقون على الوضع الراهن للبلاد ومستعدّون لدعم أية سياسةٍ تتبنى محدّدات الهوية كما وصفها هنتنغتون، ومحدّدات المنفعة التي حُرموا منها.

ماذا بقي من الاندماج القسري ((melting pot بين هذه العناصر التي لا تتساوى في شيء، في مجتمعٍ لم تكد تلتحم التصاقاته؟

ماذا بقي من النموذج المقطوع الأصول الذي قال عنه شارل ديغول لـ أندريه مالرو: “سترون أي خرابٍ سيصيب العالم إذا ما حكمته الولايات المتحدة” (كتاب السنديانات التي تقتلع).

هل سيعني ذلك أنّ انهيار الامبراطورية حاصلٌ غداً؟ بالطبع لا، لأنّ جرّ فيل لا يساوي جرّ خروف، فسقوط القوى العظمى كما يقول بول كنيدي يحتاج  إلى الوقت، لكنّ هذا الوقت يصبح أقصر في عصر السرعة.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى