مؤتمر مئة عام على اتفاقية سايكس بيكو: هل من خريطة جديدة للمنطقة؟

في مؤتمر نظمته جامعة جورج واشنطن، في العاصمة الأميركية، قال مدير المخابرات الفرنسية برنار باجوله: «إن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة… وأشك أن يعود مجدداً» ولاحظ واقع تقسيم سوريا والعراق وأضاف «لا أعتقد أن هناك إمكانية للعودة إلى الوضع السابق».

وحول احتمالات المستقبل أجاب بأنه لا يعلم، ولكن ما يستطيع تأكيده أن خريطة المنطقة «ستكون مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية»، «وأن الشرق الأوسط المقبل سيكون حتماً مختلفاً عن الشرق الأوسط ما بعد الحرب العالمية الثانية». وأبدى مدير الـ C.I.A جون برينان في نفس المؤتمر وجهة نظر قريبة من وجهة نظر نظيره الفرنسي (صحف بيروت 29 ت1 2015). والمسؤول السابق للمخابرات الألمانية أوغست هانينغ يعتقد «انه يجب علينا التفكير في رسم حدود جديدة للشرق الأوسط». وأن اللاجئين الذين أتوا إلى لبنان، في أكثريتهم «سيبقون فيه» (السفير 7 تموز 2015). بموازاة تأكيدات هذه المرجعيات المطّلعة جداً على مسار لعبة الأمم في المنطقة، ماذا يمكننا أن نلاحظ على أرض الواقع؟

1- الجمهورية الإسلامية الإيرانية تسعى لهندسة منظومة إقليمية تخدم مصالحها وفقاً لحساباتها الخاصة. وانطلاقاً من الدستور الإيراني الحالي نلاحظ «ان المسلمين (يشكلون) جميعاً أمة واحدة، وعلى عاتق حكومة إيران الإسلامية واجب صوغ سياساتها وخططها العامة من منطلق رعاية الصداقة والوحدة بين جميع الشعوب الإسلامية، كما يتعين عليها أن تسعى بدأب ومثابرة من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم الإسلامي». وتعتبر إيران الخميني ان الحدود بين دول المنطقة هي حدود مصطنعة فبركها الإمبرياليون وأن المؤسسات السياسية الموجودة في الشرق الأوسط وخارجها هي غير شرعية لأنها ليست مستندة الى قانون إلهي. وبالتالي يجب الإجهاز عليها.

في هذا السياق يمكن أن نفسّر:

سيطرة إيران على قرار المؤسسات الحكومية العراقية إجمالاً. ومشاركة قادة الحرس الثوري الإيراني في صياغة خطط تحرك الجيش العراقي، لا بل نلاحظ عبر الصحف قيادة عسكريين إيرانيين كبار (كقاسم سليماني) لمنظمات عسكرية عراقية (كالحشد الشعبي على سبيل المثال لا الحصر).

تمويل وتسليح إيران لحزب الله في لبنان وانعكاس ذلك على تحرك الحزب داخل لبنان ودوره في الصراع الدموي الخطير داخل سوريا. وهذا الأمر يناقض مرتكزات الميثاق الوطني اللبناني الذي قامت عليه الدولة اللبنانية (لا شرق ولا غرب). تدخل إيراني مباشر في الصراع الدموي الكبير الدائر على الأرض السورية بالمال والسلاح والمقاتلين. وقد نقل عن محمد علي شهيدي محلاتي رئيس «مؤسسة الشهيد» الإيرانية والتي تقدم دعماً مالياً لأقارب من يلقون حتفهم خلال القتال لمصلحة إيران في المنطقة، قوله أن عدد قتلى إيران في سورية «بلغ ألفاً بعدما كان 400 سابقاً» (الحياة 23 ت2 2016). وهناك كلام عن حركات تشييع لمجموعات، وشراء عقارات في المدن السورية المختلفة. تدخل إيراني في البحرين وفي اليمن وفي غيرهما من الدول حيث يوجد أقليات شيعية.

2- في مواجهة السياسات الإيرانية يبرز دور الكتلة السنية بزعامة السعودية وتركيا. فالدولة الوهّابية كانت تفترض أنها قادرة على دعم وتوظيف الحركات الإسلامية الراديكالية في الخارج دون تعريض وضعها الخاص للخطر. وهكذا فقد موّلت مجموعة من المدارس الدينية المبشّرة بالاتجاه السلفي في طول العالم وعرضه. ولكن مع بروز القاعدة، ولاحقاً داعش والنصرة وأخواتها، بعد زلزال العراق والزلزال السوري، دخل المستطيل الجغرافي من طوروس إلى المحيط الهندي مرحلة المجابهة الدموية بين الطرفين السني والشيعي. وهكذا دخلت السعودية في حرب اليمن، وأرسلت قواتها إلى البحرين، ودعمت المعارضة السورية بالمال والسلاح. بالنسبة إلى تركيا فإن سياسة أردوغان واضحة في طموحاتها التوسعية. لقد أعلن صراحة أن اتفاقية لوزان قد سقطت من خلال مطالبته بالجزر اليونانية الـ 12 (صحف 29 أيلول 2016)، وإبداء تعاطف الشعب التركي مع الموصل وحلب وكركوك، وقد تقدمت القوات التركية داخل الحدود السورية وأصبحت مسيطرة على أكثر من ألفي كلم2. لقد سمحت تركيا بدخول المقاتلين الإسلاميين إلى سوريا لدعم المعارضة ضد النظام الاستبدادي القائم، لكنها من جهة أخرى أدخلت قواتها تحت حجة مواجهة القوى الإرهابية في سوريا بما فيها القوى الكردية (لقد اعتمدت استراتيجية Déstabilisation pour stabiliser) وهي نفس الاستراتيجية التي اتبعها النظام السوري خلال الحروب اللبنانية المركبة. إن الاقتصاد التركي الذي يحتاج إلى كمية كبيرة من البترول (تستورد بما لا يقل عن 7 مليار دولار سنوياً)، تحاول تركيا أن تستغل انهيار الدولة السورية وضعف الدولة العراقية لإحياء مطالبها التاريخية بتوسيع حدودها الجنوبية نحو خط يمتد من حلب إلى الموصل، وبذلك تؤمن لها حاجاتها النفطية وتبرز نفسها حامية للوجود السني المهدد من القوى الشيعية المدعومة من إيران، وبخاصة حماية الأقليات التركمانية الموجودة في المنطقة. لقد صرّح أردوغان قائلاً إن البعض «خلق الأعذار حينها عن حماية الميثاق المللي. ولكن الآخرين أرادوا بهذه الحدود أن يحبسونا في هذا المفهوم. لذلك نحن اليوم نرفض هذا المفهوم وهم أرادوا أمس، ويريدون اليوم، أن يجعلونا ننسى ماضينا السلجوقي والعثماني. ونحن لا يمكن في عام 2016، أن نتحرك بنفسية 1923». وأضاف: «هناك اليوم تهديدات جمة علينا في سوريا وفي العراق. ولن ننتظر لتدخل حدودنا بل سنذهب إليها. وبدلاً من الانشغال بالذباب سنجفف المستنقع. وسنلاحق الإرهاب حيث هو من تلة إلى تلة».

واضح جداً من خلال هذا النص عزم تركيا على احتلال شمال سوريا وشمال العراق، مع العلم أن ذلك سيؤدي إلى تفاعلات بنيوية داخل الدولة التركية حيث يشكل العلويون ثلث السكان بينما عدد الأكراد لا يقل عن 17 مليون نسمة.

3- إن قيام «تنظيم الدولة الإسلامية» وإعلان الخلافة من قبل البغدادي وتهجير مسيحيي العراق والأيزيديين واضطهاد من يسمونهم «الرافضة» والممارسات التي تعود إلى القرون الوسطى، ساعدت مع عوامل داخلية وخارجية مختلفة إلى تحلل كيانات الدول في المشرق وتفككها إلى وحدات طائفية وقبلية ومذهبية، وانهيار مفهوم الحدود وسيادة الدول على أقاليمها الجغرافية، هذا الوضع يصب في مصلحة المشروع الصهيوني الذي يقضم أرض فلسطين من خلال الاستيطان ورفض تطبيق القرارات والاتفاقيات الدولية. وعلى كل حال فإن تفكيك المنطقة كان ولا يزال هدفاً أولياً للاستراتيجية الصهيونية، وثمة كتابات كثيرة حوله أبرزها تلك التي وضعها المنظّر الصهيوني الأكبر برنارد لويس.

4- إن تأثير الموقف الصهيوني على السياسات الدولية (وبخاصة أميركا وروسيا وأوروبا) يبدو واضحاً. وان استمرار المأساة السورية بمشاركة روسية فعّالة، وعدم تدخل حاسم من قبل أميركا وأوروبا، لإيقاف المأساة، يشارك في تزايد المشاعر الطائفية وتوترها، وإذا أسفرت عملية تحرير الموصل والرقة عن تجاوزات طائفية ضد المدنيين، لا سمح الله، فإن الموقف الانقسامي سيزداد رسوخاً وستتفاقم عملية انهيار الحدود وسلطة القانون في المنطقة.

5- لقد أكد قادة الأكراد على حقهم في قيام كيان مستقل، على الأقل في العراق، حيث صرّح البرزاني أن حدود كردستان نكتبها بالدم. ويبدو أن تحرك الأكراد في تركيا وسوريا وإيران، إضافة الى العراق، تحمل إرادة عميقة بإعادة النظر بالحدود من أجل إيجاد دولة جديدة في المنطقة (دولة كردستان). وهذا الأمر يساعد في آلية إعادة النظر بخريطة المنطقة.

إن حدود الخرائط الجديدة في مشرقنا العربي تكتب بالدم. وبدل أن يكون ترسيم الحدود وسيلة من وسائل معالجة المسائل، كما يقول Michel Foucher، يبدو أن إلغاء الحدود هو المشكلة لأن المطروح إعادة تشكل دول المنطقة.

إن ما يجري في مشرقنا العربي، وقلبه سوريا، هو مزيد من الاتجاه نحو التفكك المرتكز على غليان في المشاعر الطائفية والاتنية المتنامية. وهذا الوضع يدخل المنطقة في فوضى مفتوحة قد تهدد السلم العالمي برمته.

فهل نستطيع أن نحمي دولتنا اللبنانية ومجتمعنا واقتصادنا من لهيب النار المشتعلة في الجوار؟ وهل نستطيع أن نتحمل كارثة المهجّرين وما ينجم عنها من تفاعلات اقتصادية وأمنية؟

حبذا لو يستشعر أهل السياسة بالأخطار الكبرى المحدقة فيتخلون عن مطامعهم ومصالحهم الضيقة ويضعون مصالح الوطن فوق كل اعتبار!

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى