محمد ناصيف الذي لم يزر لبنان

عندما غاب الرئيس حافظ الاسد كانت سوريا في ذروة. يغيب رجالات الرئيس واحداً تلو آخر او يغرقون في العزلة والنفي، وهم يشهدون انهيار الدولة التي صنعوا نظامها الحديدي. امس توفي معاون نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد ناصيف على فراش المرض. قبله غرق مصطفى طلاس وبهجت سليمان وعلي دوبا ومحمد غانم وعلي حيدر في العزلة. مات حكمت الشهابي في منفى. توارى عبدالحليم خدام في منزل فخم في باريس اهداه اياه الرئيس رفيق الحريري. اختار غازي كنعان ــــ او أُرغِمَ على اختيار ــــ الانتحار. كذلك خلفه رستم غزالة مات بطريقة تقع بين القتل والقتل. المهم في ذلك كله ان لبنان عرف، بتفاوت، هذه الاسماء واختبرها على ارضه

قد لا تكون مصادفة ان اللواء محمد ناصيف الذي توفي في هدوء على سريره قال عام 1980 لاحد زواره اللبنانيين: انتم اللبنانيين بعد ان تخرجوا من الحكم والسلطة، او من الانتخابات، تذهبون الى بيوتكم وتعودون الى حياتكم الطبيعية. ليست هذه حالنا نحن. اذا اردنا الخروج من النظام لا نصل ابداً الى بيوتنا.

لم يُعرف عن محمد ناصيف خير بك ــــ وهو تخلى عن استخدام «خير بك» في اسمه كي لا يضفي امتيازا عليه ــــ وجه لبناني يشبه ما كان عليه الشهابي وخدام وكنعان. لم يُعطَ الرجل ان يكون في صلب الملف اللبناني، بل التفرّج عليه من بعد، مكتفيا بعلاقات وثيقة جمعته بمراجع وشخصيات لبنانية بارزة عدّها صديقة، في مرحلة قيل ان ناصيف أكبّ على التعاطي مع الملف الشيعي في لبنان، في موازاة خبرة امساكه بملف علاقات قيادته، مع الاب ثم الابن، بايران والعراق. كان الدور الشيعي في هذا الثالوث في قلب مهمته. لم يحجب ذلك قربه من الاسد الاب الذي احله في رئاسة فرع الامن الداخلي طويلا منذ عام 1976 مذ كان برتبة رائد حتى وصل الى رتبة عميد. في مكتبه وُلدت حكومات سورية نظرا الى المام الرجل بسير الوزراء في حزب البعث وفي الولاء.

فاخر انه طوال 15 عاما من وجود الجيش السوري في لبنان لم يزر هذا البلد سوى مرة واحدة عندما صحب باسل، نجل الرئيس، لحضور زواج طلال ارسلان صديق باسل. كانت العبارة تلك التي رددها امام بعض زواره مراراً تعبيراً عن امتعاضه من طريقة ادارة القيادة السورية ملف علاقتها بلبنان. أقرن العبارة تلك بالقول انه لم يشأ مرة ان تفسّر اي زيارة له للبنان على انها تبرير لواقع العلاقات اللبنانية ــــ السورية آنذاك. لم يملك ان يعترض، فاذا الرجل لسنوات ملاذ سياسيين لبنانيين كانوا يخشون بطش عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان، وكان هؤلاء في طور بنائهم الطبقة السياسية الموالية.

عندما انهار رجال الملف اللبناني في القيادة السورية تباعاً منذ عام 1998، بدءاً باحالة الشهابي على التقاعد، ثم خروج كنعان من لبنان عام 2002 وتعيينه رئيساً لادارة الامن السياسي في الداخل السوري انتهاء بانشقاق خدام عام 2005، بدأ ناصيف يقترب اكثر فاكثر من الشأن اللبناني. كان الملف قد افلت من يد دمشق وجلا جيشها بعد اغتيال رفيق الحريري. الا ان الرجل ظل من مكتب خدام في الحيّ الارستوقراطي في دمشق، حي ابورمانة على مقربة من السفارة الاميركية ــــ وقد اتخذه مكتبا له بعد انشقاق نائب الرئيس ومصادرة املاكه ــــ يستقبل شخصيات لبنانية اخصّها في فريق 8 آذار. كان قد امسى احد المراجع السورية القليلة، الوثيقة الصلة بالرئيس بشار الاسد، يصغي الى ما تتوقعه في علاقات البلدين الآخذة في التدهور.

خلافاً لما كان يعدّ نفسه له لو قيض لباسل البقاء على قيد الحياة وانتقال السلطة اليه بعد ابيه ــــ وكان ابرز رعاة تدريبه على قيادة البلاد والجيش والحزب، اكتفى ناصيف في ظل بشار، في السنوات الاولى، بدور اقرب الى مستشار مسموع الكلمة منه الى صاحب قرار، الى ان اضحى معاون نائب رئيس الجمهورية. على غرار ما قيل ابان عمله في الاستخبارات العسكرية ان ليس في امكانه ــــ هو العلوي ــــ سوى ان يكون نائبا لرئيس الجهاز الذي يشغله سنّي، كذلك حال الرجل في سنيه الاخيرة: نائب الرئيس سنّي هو فاروق الشرع، فحري ان يكون مساعده. سرعان ما قيل ان وطأة الملفين الايراني والعراقي، وخصوصا بعد عام 2003 ودعم الغالبية الشيعية والمقاومة السنية ضد الاحتلال الاميركي للبلاد، جعلتاه فعلياً نائباً للرئيس. لا يحتاج سوى الى المرور بأبو سليم دعبول، مدير مكتب الرئيس، كي يتحدث الى الاسد هاتفيا مباشرة.

التصق الرجل بنظام كان احد بناته. لم يكن يتصوّر يوماً احداً يكون خارجه. كذلك فعل الشهابي: آلمه ان لا يستقبله الرئيس وهو في العقد الثامن، كي يصغي الى نصيحته بازاء حرب سوريا، الا ان موته لدى ابنائه في الولايات المتحدة جنّبه ما فعل خدام وأوشك كنعان على فعله.

قد تكون اكثر المرات لامس ناصيف الملف اللبناني عن قرب، علاقته المستجدة بالنائب وليد جنبلاط في حقبة مصالحة الزعيم الدرزي بدمشق ما بين عامي 2010 و2011، عندما اختار مجددا الافتراق عنها على اثر اندلاع الحرب السورية. اول لقاء بين الرجلين في الزيارة الاولى لجنبلاط لدمشق في 31 آذار 2010، ثم كرّت السبحة حتى اللقاء الاخير في 9 حزيران 2011. في عشر زيارات اجتمعا باستمرار، ست منها التقى خلالها جنبلاط الاسد الذي عهد الى ناصيف في ادارة علاقة الحليف القديم ــــ الجديد بالقيادة السورية، على غرار الدور الذي اضطلع به الشهابي مع جنبلاط ما بين عامي 1977 و1998.

حينما دُعي مرة، من فرط ما نصحه سياسيون لبنانيون راحوا يترددون عليه حينذاك، الى عدم الوثوق بالزعيم الدرزي المشهود له تقلبه، كان رده: لا. آخذه على مسؤوليتي. هذه المرة هو وليد آخر.

مذ اندلعت الحرب السورية لم يشأ معاون نائب رئيس الجمهورية ان يكون بعيدا من رئيس الدولة المنهك وهو يبصر النظام من حوله يتداعى. بعض مَن اصغى اليه لمس استمرار وفائه لاثنين يعدّهما متلازمين: الرئيس والنظام. لسنوات قليلة خلت اختبر الموقف نفسه. كان قد بلغ اليه ان الشهابي رفض مجاراة انشقاق خدام والالتحاق بجبهة الخلاص الوطني مع الاخوان المسلمين، وكان رئيس الاركان على رأس مَن قاتلهم ما بين عامي 1976 و1982. قال اذ ذاك انه احد صانعي ذلك النظام، وهو يريد ان يموت سورياً في دمشق ويُدفن فيها كما وُلد سورياً. اذ ذاك سارع ناصيف الى ترتيب لقاء بين الاسد والشهابي في 16 نيسان 2010، تلاه دعوته اياه الى الغداء في ضيافته.

باندلاع تلك الحرب اضحى الوحيد، وربما آخر مَن تبقى من رجالات الرئيس الاب يقف الى جانب الرئيس الابن. في قرارة نفسه يقف الى جانب نظام أسرّ مرة ــــ وان متأخرا بعدما اعيته السنّ والمرض ــــ ان في الامكان تغليب اصلاحه على تقويضه.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى