من قومية العرب إلى أممية الإسلام (خيري الذهبي)


خيري الذهبي


في العام «1827» دعا السلطان العثماني محمود الثاني واليه على مصر محمد علي باشا إلى إرسال أسطوله الشاب الذي ساعدته في بنائه فرنسا ذات الباع الطويل في بناء السفن، والذي اعتبره الكثيرون واحداً من أهم الأساطيل المبحرة في البحر المتوسط، وربما كان الأسطول المصري الأول تملكه مصر وتملك تحريكه والحرب به منذ المعركة البحرية الشهيرة بين الأسطول المملوكي المصري وبين البرتغال على الساحل الهندي، تلك المعركة التي انتهت بهزيمة وتدمير الأسطول المصري المملوكي، واستيلاء البرتغال على طريق التجارة بين الشرق الأقصى وأوروبا، الأمر الذي أدى إلى النهاية الطبيعية الى إفقار مصر، وإثراء البرتغال التي لن تتوقف قبل استكمال مشروعها الإمبريالي في احتلال نصف أمريكا الجنوبي «البرازيل» أي ما يساوي أكثر من عشرين ضعف مساحة البرتغال التي لم يكن تعداد سكانها يزيد عن المليون الواحد، هذه الهزيمة التي أدت بشكل آلي إلى الحرب ـ الهزيمة «معركة مرج دابق» قرب حلب، والتي أدت بالتالي إلى امحاء السلطنة المملوكية إلى الأبد، وتسلطن السلطان العثماني سليم الأول على المشرق الإسلامي كاملاً، وبذلك انطوت مرحلة السلطنة المملوكية في مصر لتحل محلها مصر الولاية العثمانية.
بعد ثلاثمئة سنة ونيف وكانت السلطنة العثمانية قد بدأت رحلة الشيخوخة، وأخذت أوروبا الموتورة منذ حصار سليمان القانوني لفيينا تتحرش باستانبول، وكانت روسيا المتحرقة للخروج من البحار المتجمدة، والمتشهية الوصول إلى البحار الدافئة، والمعتبرة نفسها الوارثة للامبراطورية البيزنطية، وحين اتفقت المصالح الأوروبية مع روسيا وجه التحالف إنذاراً إلى الدولة العثمانية بوجوب إعطاء اليونان الثائرة استقلالها، ثم وجهوا أساطيلهم بالتعاون مع فرنسة الحليف القديم لكلا العثمانيين ومحمد علي إلى مساعدة الشعب اليوناني «المحتل» والثائر طلباً للاستقلال عن الامبراطورية «التي يصر السلفيون المعاصرون» على تسميتها بالخلافة ولم تكن خلافة إلا زمن عبد الحميد الذي ادعاها محاولاً الاستعانة بنداء الجهاد الاسلامي للوقوف ضد الاعتداء الروسي الانكليزي على «خلافته»، علماً بأن سلطاناً عثمانياً واحدا لم يؤد فريضة الحج، مع أن كثيراً منهم كان يملك إلى الحج أكثر من سبيل، ولكن ملازمة الحريم كانت أمتع.
احتلت اليونان في الوجدان الأوروبي محدث الرومانتيكية مكاناً هاماً، وقال قائلهم : كيف يمكن لأوروبا التي انتصرت على العالم أن تتخلى عن جذرها الحضاري «اليونان» فتتركه تحت الاحتلال «البربري» العثماني، وكانت أوروبا التي بدأت تحس بعزة انتصاراتها وأهمية استيلائها على ثروات العالم، وبعزة استكشافها لمعظم العالم القديم الغني بالثروات، والفقير بالعلم ومناهج البحث، والقدرة على استخراج الثروات مما لا يمكن للأمم «الطبيعية» فعله، وطبعاً آن الأوان لدولة مثل العثمانية أن ترفع قبضتها عن الشعوب المسيحية، وهكذا رأينا إصرارها على تحرير اليونان واستقلاله، والمضحك أنها في الوقت نفسه الذي حاربت فيه محمد علي باشا وابنه ابراهيم بعنف مع السلطنة العثمانية للحصول لليونان على استقلالها، حاربت وبنفس العنف لإعادة سورية إلى النير العثماني، مع أن جذر المسيحية الذي تدعيه مبرراً لتحرير اليونان كان في سورية، وليس في اليونان.. ترى هل كانت تعاقب سوريا على إسلامها وابتعادها عن أوروبا المسيحية !!.
كان على رأس دعاة الرومانتيكية في أوروبا الشاعر الأشهر ـ اللورد بايرون ـ الذي أعدً حملة لمساعدة اليونان على الاستقلال، واستمر في حربه في اليونان حتى أصيب بالحمى ومات، ليضيف إلى سيرته الرومانسية ما سيجعله أيقونة لأجيال من الشباب الرومانسي الأوروبي، وربما كان موته العام «1824»وهو اللورد الأرستقراطي الذي غامر بصحته في الإقامة في بلد متخلف، والمشاركة في الثور ة لتحرير اليونان، وكان عضواً مؤسساً في حركة الفيل هيلينية، أو محبي الهيلينية أو «محبي اليونانية الكلاسيكية».. ربما كان موته المبرر المتأخر لحكومات أوروبا لإعلان الحرب على الدولة العثمانية، وتوجيه أساطيلها القوية وإنذارها الشهير للسلطان العثماني، ولما رأى السلطان أوربة تجتمع لحربه وجه رسالة لواليه على مصر بالتوجه مع أسطوله الشاب للحرب معه ضد أوروبا والأسطول الروسي الجشع.
التقى الأسطولان في نافارون.. أوروبا الغربية مع روسيا ضد استانبول ومحمد علي وأسطوله. وكانت معظم السفن المصرية فرنسية الصنع، ليس هذا فحسب، بل كان الأكثر بين قباطنة هذا الأسطول من الفرنسيين أيضاً وطبعاً كانت نتيجة الحرب متوقعة، فلقد هزم الأسطولان الإسلاميان، وبخيانة أو تواطؤ من القباطنة الفرنسيين.
عن هذه المعركة البحرية التي صارت مفصلاً أساسياً في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب يعلق الخبير السياسي ومستشار الشؤون السياسية للرئيس الأميركي «زبيغنيو بريجنسكي» بعد أكثر من مئة وخمسين سنة، فيقول: منذ معركة نافارون فقد الشرق كل قرار سياسي له، وصار قراره بيد الغرب!!
بعد هذه المقدمة الطويلة، ولكن الضرورية جداً لإحسان قراءة خارطة العالم الذي سماه جيل الآباء بالعالم العربي، والحق أني لاأعرف من كان أول من أطلق على هذا الإقليم «الشام والعراق ومصر اسم «العالم العربي» الذي ربما لم يحمل الهوية العربية الصريحة رغم إعلانه راية الإسلام إلا في العصر الأموي القصير في عمر الدول، هذه الفترة التي أجمع المسلمون على لعنها سنة وشيعة، فأما الشيعة فلعنهم معروف السبب، انه بسبب سرقة الأمويين حق علي في الخلافة، وأما السنة فيحملون على الأمويين تحويل الدولة إلى ملك عضوض!.. ثم كان العصر العباسي الذي كانت الدول الأخرى تنظر إليه على أنه الدولة الفارسية، أفلم يقمه الفرس «أبومسلم الخراساني» وكان أهم وزرائه من الفرس»البرامكة وبني سهل وآخرين» ثم يزحف التاريخ التركي ليسيطر على الدولة العباسية وعلى المشرق الإسلامي منذ استيلاء الترك على الدولة العباسية جنوداً مرتزقة، ثم متسلطين على الخلفاء، محيلين إياهم إلى دمى، ومروراً بالطولونية، فالإخشيدية، فالسلجوقية، فالأتابكية، ولا أستطيع أن أسمي عصر الأيوبيين بالكردي رغم أن القيادات كلها كانت كردية، لأنهم ببساطة كانوا إسلاميين أكثر منهم كرداً، ثم كان المماليك ذوو الأصول التركية والناطقون أصلاً بالتركية، وما بين المماليك الأتراك وما بين العثمانيين كان المماليك القفقاسيون الذين غلب عليهم اسم الشراكسة المتضمن للأبخاز والجورجيين والأرمن بل حتى التتار، وطال الزمن العثماني في الشرق لحوالي أربعمئة عام كانت الآرامية والقبطية والنبطية تذوي لصالح لغة القرآن «العربية».
فوجئت بلاد الشام «التي ستحمل راية «العالم العربي» في القرن التالي ليس بالمدفعية الفرنسية تقصف أسوار عكا، ولا بالأرتال المنسقة من الجند الفرنسيين المحاصرين لعكا، قدر ما فوجئت بالمنشورات الفرنسية تقول لهم إنهم مواطنون ولهم حقوق المواطنين، وإنهم ليسوا مجرد «رعية « – ومن معاني كلمة الرعية « الدواب التي يرعاها الراعي» – وأنهم ليسوا فقط «واجبات»، بل هم أيضاً «حقوق» ورفض كثيرون هذه البدعة، وفكر البعض فيها، وقبلها، وأخذ البعض يروًج لها، وخاصة في أوساط المسيحيين الذين كانوا يشعرون بضياع الهوية!! فمن هم في هذه الدولة؟ وما الرابط الذي يربطــهم بالحـــاكم العثماني، وبشركائهـــــم في الوطـــن، المسلــمون؟
بعد سنوات ستثور اليونان شريكة الكثرة الكاثرة من مسيحيي الشام في الأرثوذكسية، وستحصل على استقلالها مفتتحة رحلة استقلال الشعوب المسيحية عن الدولة العثمانية، وسيبدأ مسيحيو الشام في التفكير: ونحن؟ ألا يحق لنا أن نحلم بدولة خاصة بنا، دولة ليس من الضروري أن تخضع لبني عثمان، ولكن.. كيف لنا أن نحلم بإقامة دولة لنا، ونحن قد أصبحنا أقلية في الشام، وهنا تذكر مثقف شامي مسيحي تلك الفترة الزاهية في تاريخ الشام الفترة الأموية، فترة التحالف بين الحجازيين الآتين مع الدين الجديد، وبين المسيحيين الشاميين «العرب» من بني بكر، وتغلب، وكلب، وحمير، أو لنقل تحالف غطفان، هذا التحالف بين الشاميين والحجازيين الذي زكاه عمر بن الخطاب حين رفض فرض الجزية على مسيحيي الشام معلناً أن هؤلاء أبناء عمنا من العرب، ثم أجًل البت في الأمر، وتابع: وسيسلمون يوماً!، وحين وصل الصليبيون إلى الشام يدعون تحرير القدس من أيدي «الكفار المسلمين» كان مجيؤهم نقمة ووبالاً على مسيحيي الشرق، فقد أشعلوا بقدومهم خوفاً لدى المسلمين، وتوتراً لدى الحكام المسلمين الحديثي الإسلام من التركمان ثم المماليك، فقد اعتقدوا أن مسيحيي الشرق سيتعاونون مع الغزاة البداة من النورمان والفرانك حديثي المسيحية أيضاً، وهنا بدأت المطاردات للمسيحيين لإجبارهم على الإسلام، والتاريخ يحدثنا عن أسلمة تمت في ذلك العصر لكثير من المسيحيين، ولكن العدل يقتضي منا أن نقرأ كتب التاريخ الأوروبية المعاصرة «ستيفن رانسيمان» والذي يتحدث عن المرتزقة المسيحيين الشاميين الذين حاربوا مع الصليبيين ضد مواطنيهم، هؤلاء المرتزقة المسمون بالبولان.. أما المرتزقة المسلمون الذين تعاونوا مع الغزاة الصليبيين فكانت كتب التاريخ تدعوهم بالتوركوبولو.. أي أبناء الأتراك، وعلينا ألا ننسى صور الفرسان الصليبيين التي وصلت إلينا مؤخراً من النوبيين والأثيوبيين الذين «تحملوا مشقة السفر المرهقة من أقاصي الأرض ليحاربوا ضد المسلمين محتلي القدس».
تذكر المسيحيون الشاميون وخاصة في جبل لبنان تاريخ التحالف الأموي بين مسيحيي الشام ومسلمي الحجاز، فقالوا لم لا نوقظ الشيء المشترك بيننا وبين مواطنيننا المسلمين، العروبة، وهكذا أخذ الشاميون يكتشفون عروبتهم، وهكذا ولد الحزبان اللذان سيحكمان وجداننا للقرن العشرين: القومية العربية، و..الأممية الإسلامية، فأما القومية العربية، فقد ذقنا فرحها وبهجتها على يد البعثين العراقي والسوري، وأما الأممية الإسلامية.. فما زلنا في أول الطريق !!

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى