هل تتحول تركيا لإيران التالية؟.. سؤال ما بعد قرة باغ والتسلل الأمريكي الجديد لأزمات المنطقة: لافروف يذكّر “تركيا ليست حليفا استراتيجياً” وأردوغان يتهم موسكو وواشنطن وباريس بالانحياز لارمينيا

 

لعل اتهام الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الاحد لمجموعة مينسك المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (التي يتزعمها ثلاثي فرنسا وروسيا والولايات المتحدة)، بأن قيادتها تدعم أرمينيا في نزاعها مع أذربيجان، وتكرار اردوغان اتهامه روسيا بدعم الجنرال الليبي خليفة حفترعبر شركة فاغنر، يعكس الإدراك التركي أن أنقرة باتت في مكان لا تحسد عليه مع حلفائها جميعا وتحديدا موسكو.

عمليا، وبعيدا عن قيادة فرنسا وتزعمها خط الهجوم الإعلامي طوال الوقت على انقرة، الا ان الأخيرة تواجه تحوّلا دراماتيكيا في مكانتها الدولية يمكن ببساطة ان يلخصه اتفاق في وسيلتين اعلاميتين إسرائيلية ويونانية على سؤال واحد “هل تتحول تركيا لإيران الجديدة؟”.

سؤال تعرض فيه الصحيفتان نظرية تفصيلية ترتكز على أن أنقرة في عصر الرئيس اردوغان تصبح اكثر راديكالية، ما يجعلها تخسر حلفاءها في الشرق والغرب. وهنا خسارة تبدو أوضح كل يوم مع إصرار أنقرة على خوض المعارك على كل الجبهات دفعة واحدة، بالتزامن مع محور يتشكل بصلابة ضدها على جبهتي المتوسط وليبيا.

خسارة تركيا لروسيا كحليف بدت واضحة في تصريحات وزير خارجية الأخيرة سيرغي لافروف والتي اكد فيها ان موسكو لم تعتبر انقرة حليفا استراتيجيا رغم الشراكة بين البلدين؛ وهذه تصريحات قاسية في وقت تواجه فيه تركيا شركاء حلف شمال الأطلسي في جبهات مختلفة أيضا.

موسكو وأنقرة.. مجرد “شراكة

الموقف في روسيا يتشكل بهدوء ضد أنقرة وعلى أرضيات متعددة حيث موسكو تربطها معاهدة الامن الجماعي مع أرمينيا، وهي التي تقف انقرة ضدها مع أذربيجان وتمد الأخيرة بالسلاح والمقاتلين (السوريين- وفق تصريحات على كل الجبهات بما فيها الرئيس السوري بشار الأسد تنفيها أنقرة) في الصراع على منطقة ناغورني قرة باغ الحدودية.

روسيا في هذا الملف، أي بين أرمينيا وأذربيجان تختار الأولى بالضرورة رغم ان كلا البلدين كانتا تحت حكم الاتحاد السوفييتي السابق، إلا ان أذربيجان (التي احتفلت الاحد 18 أكتوبر/ تشرين أول بذكرى استقلالها عن الاتحاد السوفييتي) ابعد عن روسيا بعد انضمام أرمينيا لمعاهدة الامن الجماعي.

ملف قرة باغ يبدو ملفاً ثانيا بعد ليبيا تستخدم فيه أنقرة النموذج الروسي في التدخل في الأزمات وتحديدا الازمة السورية، إذ تدخلت أنقرة في قرة باغ مع أذربيجان التي تملك الحق الشرعي في الإقليم وفقا للأمم المتحدة، كما تدخلت تركيا في ليبيا إلى جانب حكومة الوفاق التي تحظى أيضا بالاعتراف الدولي، وفي الحالتين تدرك تركيا ان روسيا بصورة غير مباشرة موجودة على الجهة المقابلة.

في أزمة قرة باغ، روسيا ملزمة بمعاهدة الامن الجماعي مع أرمينيا، والتي ستضطر تركيا وأذربيجان لحصر القتال في قرة باغ فقط (وتترك المقاتلين السوريين ليكونوا حطباً من الجانبين التركي والروسي ان صحت اتهامات الطرفين في ذلك)، ولا تصل لاي اراضٍ ارمينية والا سيتعين على موسكو الدخول على خط الازمة بصورة مباشرة.

في حين المشهد في ليبيا أقل تعقيدا، إذ تدخل موسكو عبر شركة فاغنر التي تصر الحكومة الروسية على استقلاليتها رغم قربها الكبير من السلطات الروسية، إلى جانب الجنرال حفتر وهو الذي لا يملك عمليا الشرعية الدولية رغم انه متحالف مع مجلس النواب في طبرق والذي حتى اللحظة يقوده عقيلة صالح.

الدخول التركي على خط الازمتين الأخيرتين، يستخدم النموذج ذاته الذي استخدمته عمليا موسكو في تدخلها في الازمة السورية منذ خمسة أعوام إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد، حيث انقرة تتدخل لصالح الجهات المعترف فيها دوليا، الامر الذي يناسبه تماما توصيف لافروف بأن انقرة ليست حليفا استراتيجيا لموسكو، ولكنها شريك وثيق وهو ما يدلل على تفهم روسيا اليوم لتعقيدات الازمات ولضرورة المرور عبر انقرة لعلاجها.

واشنطن.. اللاعب الخفي..

بهذا المعنى تتحول تركيا بصورة او بأخرى إلى مفاوض قوي على طاولات أزمات متعددة، وهو امر قد لا ينعكس عليها إيجابيا، رغم الحاجة الدولية لها اليوم لتسوية الازمتين المذكورتين آنفاً إضافة للازمة السورية وأزمة شرق المتوسط التي هي فيها طرف مباشر.

في كل ذلك، تظهر حليفة شمال الأطلسي الكبرى- واشنطن، بموقف أقل وضوحاً من نظيريه الروسي والفرنسي (قادة مجموعة مينسك) والتي يعكس دخول انقرة على خط ازمة قرة باغ فشلها بصورة او بأخرى في حل الازمة منذ نحو ثلاثين عاما كانت فيها الدول الثلاث المسؤولة عن تسوية النزاع في الإقليم.

ورغم ان واشنطن لم تدخل على خط الازمة الا في الشجب والادانة لاعمال العنف حتى اللحظة، إلا ان قراءة مواقف واشنطن تحتاج نظرة ابعد من النزاع في قرة باغ، حيث يدخل الامريكيون من جديد على خط ازمتي ليبيا وشرق المتوسط، كما تبدأ تسويات في شرق الفرات السوري برعاية روسية لا يمكن ان تحصل دون غطاء امريكي.

ويبدو الموقف الأمريكي حتى اللحظة الاهدأ إعلاميا تجاه تركيا، كون واشنطن تستغل عمليا الإشكالات المختلفة التي تتورط فيها أنقرة لصالحها سواء على المستوى الاقتصادي او حتى السياسي، إذ لا يمكن مثلا تجاهل أن الولايات المتحدة بدأت بيع الأسلحة لقبرص واليونان وعمقت شراكاتها الاستراتيجية معهم على حساب تركيا.

اليونان وقبرص غريمتان في ملف شرق المتوسط والغاز بالنسبة لتركيا، وشراكة واشنطن معهما وتزويدهما بالأسلحة رسالة واضحة لانقرة، خصوصا اذا ما ثبتت معلومات مجلة تايمز البريطانية عن كون واشنطن بحثت فرص نقل المعدات الامريكية من قاعدة انجرليك التركية لقاعدتها في جزيرة كريت اليونانية، والتي تعكس استكمالاً للموقف الأمريكي الرافض لحصول انقرة على منظومة اس 400 الروسية.

في الازمة الليبية، حصلت حوارات بوزنيقة المغربية برعاية أمريكية، وتتواصل واشنطن (وباريس) مع جوار ليبيا في تونس والجزائر ومصر حرصا على حلحلة الازمة وهي حلحلة قد تفضي لاحقا لنزع شرعية حكومة الوفاق برئيسها فايز السراج، وبالتالي نزع شرعية الوجود التركي، وقد يحدّ ذلك أيضاً من أهمية اتفاقات تركيا مع ليبيا على ترسيم الحدود البحرية.

بهذا المعنى، تتحرك واشنطن بهدوء ضد أنقرة، رغم ان المتابع يدرك ان حلفاءها في المنطقة (إسرائيل والامارات ومصر والسعودية والعراق وحتى الأردن) يتحركون بصورة علانية اكثر بكثير ضد العاصمة التركية ويشكلون محورهم بالتعاون مع كل خصوم انقرة في المنطقة سواء عبر منتدى غاز شرق المتوسط والذي بات اليوم مظلة جامعة لهم او في الازمات المختلفة التي انخرط فيها اردوغان، أو حتى في تفعيل مقاطعة قاسية للاقتصاد التركي في شقيه السياحي والتجاري تساعد فيه اليوم ازمة كورونا.

في كل الازمات تظهر باريس وكأنها قائدة المحور ضد انقرة، رغم ان النظرة الاوسع لذلك قد تعكس رغبتي موسكو وواشنطن في عدم قيادة التحرك انتظارا لإنضاج تحويل دفّة العقوبات والحروب لأنقرة بعد تحميلها كل معاني “الشر”، وفق النظرية الأولى التي قدم فيها ولي العهد السعودي للحكم في بلاده (حيث تحدث عن مثلث شر يتمثل بتركيا وايران والجماعات الإرهابية، وهي تصريحات حاول لاحقا التراجع عنها باستبدال تركيا بالاخوان المسلمين- والذين تدعمهم أنقرة بكل الأحوال-).

بهذا المعنى وبالنظر لتزايد احتمالات تورط انقرة في فخّ “الشر” المراد لها في الفترة المقبلة لصالح تحويل الدفة ضدها، يمكن ببساطة قراءة تحولات كثيرة منها احتضانها للمصالحة الفلسطينية وتحديدا قادة حماس، واستفزازها في شرق المتوسط وتطويقها باتفاقات يونانية فرنسية مع جيرانها، والاهم استنزافها عسكريا.

كل ما سبق، يبدو سيناريو يمكن التنبؤ به إذا ما استمر سير الأمور كما هو خلال الفترة المقبلة، لتكون إجابة سؤال “هل تتحول تركيا لإيران جديدة” تفرض عليها العقوبات وتحاصر بـ “نعم”، خصوصا مع ملاحظة ان حتى حليفتها التقليدية في برلين باتت تتخذ مسافة منها منذ تسلمت رئاسة الاتحاد الأوروبي، وهذا معناه انه قد لا يبقى لأردوغان حلفاء أقوياء حقيقيين إذا استمر النهج الحالي نفسه، رغم كل مسوغاته التي يسوقها عن حفظ مصالح تركيا وتحالفاتها.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى