هل تُؤدّي تهديدات بومبيو بالرّد العسكريّ الحاسِم إلى إشعالِ “حربِ إنابة” إيرانيّة أمريكيّة في العِراق بعد تزايُد الهجمات الصاروخيّة على القواعد والبِعثات الدبلوماسيّة الأمريكيّة؟

 

تصريحات مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكيّ، التي أدلى بها أمس، وهدّد فيها إيران من ردٍّ حاسِمٍ إذا تعرّضت مصالح بلاده للأذَى في العِراق بعد سلسلة من الهجَمات الصاروخيّة التي استهدفتها، تُوحِي بأنّ العِراق قد يكون مَيدان “حربٍ بالإنابة” في فُصولها الأُولى بين “الخَصمين” المُتنافِسَين على النّفوذ في المِنطقة، أيّ إيران والولايات المتحدة.

المقولة التي تُؤكّد “أنّ المُجرم يظل يحوم حول مكان جريمته” تنطبِق بشكلٍ كبيرٍ على الولايات المتحدة، فبعد خسارتها حواليّ ستّة تريليونات دولار في غزوِها للعِراق واحتِلاله عام 2003، ومقتل 5000 جندي وإصابة 35 ألفًا آخرين من قوّاتها، ها هي تعتبر العِراق مُجدَّدًا مصدر تهديد أساسي لها ومصالحها، وتعود إليه من بوّابة مُواجهة إيران وحُلفائها، وهذا اعترافٌ واضحٌ بأنّ حربها فشِلَت في تحقيق أهدافها في جعل العِراق “محميّةً” أبديّةً رغم هذه الخَسائِر الباهِظة.

تحذيرات بومبيو لإيران هي الأخطر والأوضح في رأينا، وتعكِس حالةً من الغضب والقلق الأمريكيّين في الوقت نفسه، ونصِل إلى هذه الخُلاصة من خِلال قوله “أيّ هجَمات من جانبهم، أيّ الإيرانيين، أو من ينوب عنهم، ومن أيّ هُويّة، تُلحِق أضرارًا بالأمريكيين أو بحُلفائهم، أو مصالحهم سيتم الرّد عليها بشَكلٍ حاسم”.

ما يُقلِق واشنطن ويُثير غضبها سلسلة الهجَمات الصاروخيّة (10 هجَمات في غُضون أُسبوعين) على قاعدةٍ أمريكيّة قُرب مطار بغداد، والسّفارة والبعَثات الدبلوماسيّة الأمريكيّة في المِنطقة الخضراء الأكثر تحصينًا، وقبلها عدّة هجَمات صاروخيّة استهدفت قاعدة “عين العرب” في غرب العِراق كان إحداها بعد انتهاء الزيارة السريّة لمايك بنس، نائِب الرئيس الأمريكيّ، قبل شهر.

انزِلاق العِراق إلى حالةٍ من الفوضى نتيجةَ استمرار الحِراك الشعبيّ وتصاعُد وتيرة أعمال العُنف، وتزايُد أعداد الضّحايا بشكلٍ مُرعبٍ، ووجود مُؤشّرات عن مُحاولات أمريكا توظيفه كورقة ضغط على إيران، كلها عوامل قد تُؤدّي إلى حُدوث المُواجهة العسكريّة بين الجانبين الإيراني والأمريكي على أرضه، رغم تأكيدهما أنّهما لا يُريدان، ولا يَسعيان إليها.

وضع أمريكا مجموعةً من قادة الحشد الشعبي وأبرزهم السيّد قيس الخزعلي، قائد فصيل عصائب أهل الحق، أحد الفصائل الأهم في الحشد الشعبي، يُؤكّد أنّ هذا الحشد المدعوم إيرانيًّا، سيكون المُستَهدف في أيّ عمليّة انتقاميّة أمريكيّة، ويتّضح ذلك من قول بومبيو “أيّ هجمات من جانبهم (الإيرانيين) أو من ينوب عنهم من أيّ هُويّة، وتُلحِق الضّرر بمصالحنا وحُلفائنا سيتم الرّد عليها بشكلٍ حاسم”، ومن يَنوب عن إيران وِفق التّصنيفات الأمريكيّة هو “الحشد الشعبي” وفصائِله، وربّما “حزب الله” بشقّيه العِراقيّ واللبنانيّ.

هُناك ستّة آلاف جندي أمريكي يتواجدون حاليًّا في القواعد الأمريكيّة في الأراضي العِراقيّة، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من المُتعاقدين والدبلوماسيين، وطابور طويل من المُتعاونين والعُملاء، وهؤلاء سيكونون حَتمًا هَدفًا لأعمال انتقاميّة سواءً من الحشد الشعبي أو حتّى من قِبَل مُتطوّعين من خارج العِراق، تمامًا مِثلَما حصل بعد الاحتِلال عام 2003 وانطِلاق المُقاومة لمُواجهته من قبل تحالف إسلاميّ قوميّ ألحَق خسائِر ضخمة بالقوّات الأمريكيّة ودفَع الرئيس باراك أوباما إلى سحب هذه القوّات اعتِرافًا بالهزيمة بنِهاية عام 2011.

أمريكا لا تحتل العِراق بشكلٍ مُباشرٍ حاليًّا، كما أنّه لا يوجد جِنرالها بترايوس، قائد قوّاتها السّابق في العِراق، أو مثيله، لتشكيل “قوّات الصّحوات” من رِجالات بعض العشائر، وإن كان هذا غير مُستبعد بطُرقٍ أُخرى، وعبر الحُلفاء العرب الخليجيين وأموالهم، ولهذا ستكون في الوضع الأضعَف في حال حُدوث “الحرب بالإنابة” غير المُستَبعدة ابتداءً من الأشهُر الأُولى من العامِ الجديد.

لا نعتقد أنّ اعتِراف برايان هوك، مُستشار الرئيس ترامب للشّؤون العسكريّة في إيران، بإرسال 14 ألف جندي أمريكي إلى المِنطقة، وفي تزامنٍ مع تهديدات بومبيو جاء صُدفةً، وإنّما في إطار خطّة أمريكيّة لهذه المُواجهة العسكريّة مع إيران، خاصّةً بعد فشَل الحِراك الشعبيّ فيها في الاستِمرار، والاتّساع، وربّما يُؤدّي إلى تقويض النّظام من الدّاخل والإطاحة به، مُضافًا إلى ذلك العُقوبات الأمريكيّة الشّرسة لم تنجح كُلِّيًّا في تحقيق هدفها الأساسي، أيّ “صِفر” صادرات نفطيّة، فالنّفط الإيراني استمرّ في التدفّق إلى زبائنه، وإن كان بكميّاتٍ أقل بكثير من المأمول حُكوميًّا، ووضعت أوروبا وحُلفاؤها نِظامًا ماليًّا جديدًا للالتِفاف على هذه العُقوبات الأمريكيّة.

التوتّر المُتصاعِد حاليًّا بين إيران وأمريكا ينتظر حاليًّا صاروخًا واحِدًا يُصيب قاعدة أمريكيّة، أو مُمثّليّة دبلوماسيّة أمريكيّة في العِراق، لإشعال فتيل الحرب بالإنابة، ولعلّ الإيرانيين الأكثر حِرصًا على هذه المُواجهة لما لديهم من أذرعٍ عَسكريّة عِراقيّة وإقليميّة في المِنطقة لانهاء الحِصار، مُضافًا إلى ذلك التّواصل الجُغرافيّ بينهم وبين العِراق ممّا يُرجِّح كفّتهم في هذه المُواجهة على المدّيين المتوسّط والبعيد في حال اندِلاعها.

أمريكا فشِلَت في السّيطرة على العِراق رغم إرسالها وحُلفاؤها حواليّ نِصف مِليون جندي، فهل ستنجح هذه المرّة بإرسال 14 ألفًا وبُدون قوّات حليفه مُساندة ومع بِدء الحمَلات الانتخابيّة الرئاسيّة؟ وفي ظِل إيران قويّة عَسكريًّا، مدعومةً من أذرعٍ عسكريّةٍ عالية الكفاءَة والتّسليح؟

نَترُك الإجابة لما يُمكِن أن تُسفِر عنه تطوّرات الأسابيع القليلة القادمة مع التّأكيد في الوقتِ نفسه أنّ العِراق قد يفتح مقابره ومُستشفياته مُجَدّدًا للقوّات الأمريكيّة التي ستَقع في المِصيَدةِ نفسها، فهؤلاء لا يتعلّمون من دُروسِ هزائمهم، أو هكذا نعتقد.. والتّاريخ يُعيد نفسه.. والأيّام  بيننا.

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى