هل تُواجِه اللّيرة التركيّة سيناريو الانهيار نفسه الذي واجهته اللّيرتان اللبنانيّة والسوريّة في ظِل انخفاض قيمتها التّاريخي مُؤخّرًا؟

 

يُشكّل انخفاض اللّيرة التركيّة إلى أدنى مُستوى له مُقابل الدولار في التّاريخ الذي تزامَن مع تفجّر الخِلافات مع اليونان ومِصر حول الحُدود المائيّة ومناطق التّنقيب عن النّفط والغاز المُتنازع عليها، بداية “حرب اقتصاديّة” قد تتطوّر إلى مُواجهاتٍ عسكريّةٍ، مُباشرةٍ سواءً في شرق المتوسّط، أو على الأراضي الليبيّة. من الواضح أنّ الرّد على خطوة الرئيس رجب طيّب أردوغان بتحويل “آيا صوفيا” من متحفٍ إلى مسجد، وإقامة الصّلوات الخمس يوميًّا فيه، جاء اقتصاديًّا ودون إعلان، وبضرب الرئيس التركي في العصب الأكثر إيلامًا، أيّ عملته التي يُشكّل لقوّتها عِماد إنجازه الاقتصاديّ، السّبب المُباشر لهُبوط اللّيرة التركيّة إلى حواليّ 7.3 مُقابل الدّولار الأمريكيّ هو انخِفاض احتِياطات البِلاد مِن العُملات الصّعبة، وهُروبها إلى الخارج وعَجز البُنوك المحليّة عن تطويقه، في تكرارٍ واضحٍ للسّيناريو اللّبناني مع بعض الاختِلافات، وأبرزها قوّة الاقتصاد التركيّ، وحجم الديون الخارجيّة بالنّسبة للدّخل القوميّ (حجم الدّين التركيّ 450 مِليار دولار واللّبناني 100 مِليار دولار).

انخراط تركيا في حربين رئيسيين الأولى في سورية، والثانية في ليبيا، والثالثة باتت وشيكة في القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا حيث أعلن الرئيس أردوغان دعمه للأولى، وأرسل قوّات إليها في تحدٍّ مُباشرٍ للغرب المسيحي، وروسيا الأرثوذكسيّة التي تَعتبِر أرمينيا حليفها القويّ وتربطها بها مُعاهدة دفاع مُشترك، لم يؤدّ إلى توسيع دائرة الأعداء في دول الجِوار، وما بعدها فقط، وإنّما إلى زيادة الإنفاق العسكريّ أيضًا في وقتٍ تُواجه فيه تركيا أزمة انتشار فيروس الكورونا، وانخِفاضًا للدّخل السياحيّ، والانكماش الاقتصاديّ بسببها أُسوةً بالكثير من دول العالم.

مِصر واليونان وقّعتا الخميس اتّفاقًا حول ترسيم الحُدود في المِنطقة الاقتصاديّة الخالصة بين البلدين في شرق البحر المتوسّط، وهي مِنطقة تَضُم احتياطات واعدة من النفط والغاز، وهو الاتّفاق الذي أبطل عمليًّا مذكّرات تفاهم بين تركيا وحُكومة الوفاق الليبيّة في طرابلس المُعترف بها دوليًّا، وانبثقت عن اتّفاق الصخيرات برعاية الأمم المتحدة، وعلى أرضيّته جاء التدخّل العسكريّ التركيّ انتصارًا لحُكومة الوفاق برئاسة السيّد فايز السراج، وعلى أساسه، أيّ الاتّفاق المِصري اليوناني الجديد سيُلغي أيّ إمكانيّة للرّبط الجُغرافي بين تركيا وليبيا، الأمر الذي يُشكِّل تَحدِّيًا مُباشرًا للرئيس التركيّ وحُكومته.

الرئيس أردوغان ردّ غاضبًا على هذا الاتّفاق المِصري اليوناني بأنّه باطلٌ، ولا قيمة له، وأكّد أنّ بلاده ستستمر في عمليّة التّنقيب التي تمّ وقفها بناءً على تدخّل المُستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، وأرسل فورًا سفينةً للتّنقيب عن الغاز في المِنطقة المُتنازع عليها، ويَعتبِرها جُزءًا من الجرف القاريّ التركيّ، وشدّد على تمسّكه بالاتّفاق البحَري الليبيّ التركيّ، وكل ما يترتّب عليه من التِزامات.

نحن الآن نقف على حافّة مُواجهة اقتصاديّة قد تتطوّر إلى عسكريّةٍ على جبهتين رئيسيّتين:

الأولى: تزايد احتمال إشعال فتيل حرب “سرت الجفرة” في ليبيا التي “تجمّدت” بعد التّهديدات المِصريّة بالتدخّل عسكريًّا لدعم قوّات الجنرال خليفة حفتر التي تُسيطر على المدينتين، وحُصول قيادتها على دعم من قبائل ليبيّة وبرلمان الشّرق المُنتخب.

الثانية: تدخّل اليونان عسكريًّا لمنع السّفن التركيّة مِن التّنقيب عن الغاز في المناطق المُختَلف عليها، وهذا تطوّرٌ غير مُستبعد دفع السيّدة ميركل للتدخّل بسُرعةٍ ولقاء عاجل مع الرئيس أردوغان قبل أسبوعين كان مصحوبًا بتهديداتٍ واضحةٍ مِن حِلف الناتو.

صحيح أنّ رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتسوتاكيس أشار إلى عزم بلاده اللّجوء إلى محكمة العدل الدوليّة إذا عجزت عن التوصّل إلى اتّفاقٍ مع تركيا، ولكن هذه المحكمة لا يُمكن أن تبحث في أيّ خلاف إلا بلُجوء طرفَيه إليها، ولا نعتقد أنّ الرئيس أردوغان قد يقبَل ذلك.

هذا التوتّر المُتصاعد على جبهتيّ المتوسّط وليبيا الذي تُشكّل تركيا رأس حربة فيهما، سيجلب صُداعًا أكبر شدّةً لدولة قطر حليف أردوغان الأبرز، وربّما الوحيد، لأنّه قد يُؤدِّي إلى تحمّلها أعباءً ماليّةً باهظةً جدًّا بمُقتضى هذا التّحالف.

في أزمة اللّيرة الأُولى التي حدثت عام 2018 بفعل تدخّل الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب ردًّا على احتجاز القِس الأمريكي أندرو برونسون ضخّت دولة قطر 15 مِليار دولار كمُساعدات واستِثمارات في القِطاع الاقتصادي التركي، ونجحت في وقف انخِفاضها، وفعلت الشّيء نفسه أوائِل هذا العام عندما تعرّضت اللّيرة لأزمةٍ مُماثلةٍ، والسّؤال الآن هو عمّا إذا كان في مَقدورها التدخّل للمرّة الثّالثة، بحُزمةٍ ماليّةٍ مُماثلةٍ، وربّما أكبر لوقف انهِيار اللّيرة الحالي، والمُساهمة بتغطية نفَقات أيّ مُواجهات جديدة مُباشرة في ليبيا أو شرق المتوسّط؟

التّحالف المُعادي لتركيا يَضُم دُوَلًا عُظمى دوليّة وإقليميّة، مِثل روسيا وفرنسا واليونان ومِصر والإمارات والسعوديّة، علاوةً على نِصف حِلف النّاتو المُنقَسِم بسبب هذا الصّراع، إنْ لم يَكُن أكثر.

موقف الولايات المتحدة يتّسم بالغُموض وتُحاول إدارة الرئيس ترامب اللّعب على الحبلين، والإيحاء لكُل طرف بأنّها تدعمه، ولكنّ الحقيقة، وبعد تحويل متحف “آيا صوفيا” إلى مسجد، وانحياز تركيا إلى أذربيجان المُسلمة ضدّ أرمينيا المسيحيّة التي تملك مجموعات ضغط قويّة (لوبي) في واشنطن قد يُغيّر الكثير مِن المُعادلات، فهي تُريد حربًا تركيّةً مِصريّةً تُؤدّي إلى تدمير وإضعاف جيشيّ البلدين وإغراقهما في أزماتٍ اقتصاديّةٍ واضطرابات داخليّة على غِرار ما حدث في سورية والعِراق وليبيا.

لا شك أنّ الجيش التركيّ، الذي يحتل المرتبة الثّانية في حلف النّاتو، يتمتّع بقُدرات عسكريّة وتسليحيّة هائلة ويعتمد على التّسليح الذّاتي قد تُعطيه اليَد العُليا في أيّ مُواجهة، ولكنّ اللّافت أنّ التّحالف الغربيّ الإقليميّ ضدّه يمتلك أيضًا قُدرات مدعومة بأحقاد تاريخيّة كُبرى ضدّ الدولة العثمانيّة التي احتلّت قوّاتها البلقان وأوروبا الشرقيّة ووصلت إلى فيينا. الأيّام، والأسابيع المُقبلة، ستكون خَطِرَةً جدًّا، ليس لللّيرة التركيّة فقط، وإنّما لزعامة الرئيس أردوغان داخليًّا وخارجيًّا، حيث يُضيّق خُصومه الخِناق عليه، وهو خِناقٌ قد يدفعه للّجوء إلى القوّة لكسره.. واللُه أعلم في جميع الأحوال، وما علينا إلا الانتظار.

 

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى