هنري كسينجر و«النظام العالمي»: إسقاطات عن الشرق الأوسط

لا أريد أن أسهم في تدعيم الهوس الشعبي العربي بشخصيّة هنري كيسنجر وفي دوره المُفترض في إدارة وتقرير السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط. الرجل في خريف عمره وهناك في إعلام الممانعة مَن اختلق مقابلات وتصريحات منسوبة له في محاولة دعائيّة فاشلة لدعم سياسة النظام السوري.ووليد جنبلاط لا ينفكّ عن التغريد ضد كيسنجر هذه الأيام ووصفه بأنه «مجرم حرب»، ظانّاً أننا نسينا أنه – في حقبة تحالفه (المُعلن) مع الليكود في حقبة بوش – طلب شرف لقاء كيسنجر لأخذ صورة معه والسلام عليه، وقبِل الأخير بلقائه لدقائق فقط.

وريمون إدّه وسليمان فرنجيّة مسؤولان بصورة أساسيّة عن الترويج لنظريّة إدارة كيسنجر للحرب الأهليّة اللبنانيّة في كل مراحلها. طبعاً، انتهى دور كيسنجر بانتهاء إدارة جيرالد فورد في 1976، وإن قام ببعض المهمات الاستشاريّة في الحكومات الجمهوريّة (حتى هيلاري كلينتون اعترفت أخيراً أنها كانت تطلب مشورته في ولايتها في وزارة الخارجيّة). لكن الظنّ أن كيسنجر يدير دفّة السياسة الخارجيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط بات من ثوابت الثقافة السياسة العربيّة في المشرق العربي. لكن ليس هذا هو موضوع المقالة.

سيرة كيسنجر سيرة شرّيرة بالمعنى الحرفي. هذا لا يعني ان المسؤولين الأميركيّين من كلينتون وبوش إلى أوباما هم أقلّ شرّاً، لكن كيسنجر كان أمهرهم في الشرور. هذا الرجل (مع ريتشارد نيكسون ومن دونه) ترجم المفهوم الوحشي لنظريّة «الواقعيّة» في السياسة الخارجيّة، وتطرّف فيها إلى درجة ان القوّة عنده كانت متلازمة مع الدبلوماسيّة، ومُفضّلة عنها. الدبلوماسيّة لم تكن عنده إلا الوسيلة الأخيرة، في حال فشل وسائل القوّة والحروب. كتب والتر أيزكسون سيرة ضخمة عن كيسنجر، لكن روايته كانت بلاطيّة مؤاتية لمصلحة الموضوع. والأكاديمي اليميني، نيل فرغسون، يعدّ سيرة موسّعة عن كيسنجر (وبالتعاون معه). لم ينصف كيسنجر (من حيث مسؤوليّته عن جرائم حرب) إلا كتاب «ثمن السلطة» لسيمور هرش (كما أن الصحافي اليساري، ثمّ اليميني، كريستوفر هتشنز، كتب عنه «محاكمة هنري كيسنجر»، لتوثيق جرائم حروبه).

لم يختفِ كيسنجر عن الأضواء. هو – في منظور الإعلام السائد – بمثابة الحكيم المتقاعد في شؤون السياسة الخارجيّة. يتقاطر إليه رؤساء الدول وإعلاميّين من أجل التقرّب من رجل شارك في صنع النصف الثاني من القرن العشرين (بدأ نفوذ كسينجر الحربائي في عهد جون كنيدي، إلى أن برز بصورة دراماتيكيّة في عهديْ نيكسون وفورد – وكان الرجل ديمقراطيّاً قبل أن يتحوّل انتهازيّاً إلى جمهوري). وقد أصدر عدداً من الكتب بعد تقاعده السياسي وكانت كتبه تتسم دائماً بجاذبيّة الأسلوب مع قدرة تحليليّة حادّة معروفة عنه. لكن كتابه الأخير يحيد عن تراثه المكتوب. بدا وكأن مجموعة من الباحثين عاونوه في الكتابة، فأتى الكتاب مزيجاً من الأساليب ومُعدّ بعجالة، ولا ينتمي من حيث العرض والسرد إلى تراثه المنشور. يريد كيسنجر في الكتاب، بعنوان «النظام العالمي»، ان يرصد التحوّلات العالميّة في شكل النظام العالمي الجديد. وهو يفرد قسماً للشرق الأوسط وآخر لإيران.

إن القسم المتعلّق بالشرق الأوسط ينحى منحى التراث الاستشراقي الصهيوني الذي ابتدعه برنارد لويس وإيلي خدّوري. وقد اعتمد فيه كيسنجر منهج لويس في ما أسماه المُستشرق المُتنوّر، ماكسيم رودنسون (الذي تعلّمت من كتاباته الكثير)، بـ«التعصّب نحو التفسير اللاهوتي» وهو يعني به نزوع الدراسات الغربيّة عن الإسلام والشرق والأوسط نحو تكثيف الاعتماد على التفسير الديني الإسلاموي لكل ما يبرز من ظواهر اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة في أوساط المسلمين (وقد اجترح رودنسون المصطلح المذكور في كتابه «الهوى بالإسلام» الصادر في عام 1980). وفي هذا الكتاب، يصرّ كيسنجر على تفسير السلوك «الإسلامي» (وكل من عاش في دولة عربيّة أو في دولة ذات أكثريّة إسلاميّة هو حكماً بالمفهوم الاستشراقي التقليدي، إسلامي) بأدوات التحليل الدينيّة المُستقاة من التاريخ الإسلامي. الحاضر لا يعني شيئاً في التحليل عن المسلمين. وفي تحليل كيسنجر للسياسة «الإسلاميّة» (المعاصرة والتاريخيّة، لا فرق) قرّر أن القانون الدولي الإسلامي (التقليدي جداً) وانشطار العالم وفق نظرته إلى «دار الحرب» و«دار الإسلام» هو ما يحكم تعاطي «العالم الإسلامي» (الكتلة المُتراصّة دائماً في خيال الاستشراق المبتذل) مع العالم ككلّ، خصوصاً العالم الغربي.

وفي بنائه على نظريّة القانون الدولي الإسلامي كان كيسنجر شديد البناء على كتابات الأكاديمي العراقي الراحل، مجيد خدّوري. ومجيد خدّوري عالم سياسة عراقي درس ودرّس في الولايات المتحدّة، وأنشأ مركز دراسات الشرق الأوسط في «كليّة الدراسات الدوليّة المتقدّمة» في «جامعة جون هوبكنز» في واشنطن (وقد ورث منصبه، اللبناني الليكودي فؤاد عجمي، وإن كان خدّوري فضّل عليه، تلميذه إيلي سالم). وخدّوري كان بالغ التأثير في الدراسات الإسلاميّة والعربيّة في أميركا، خصوصاً في سنوات الستينيات والسبعينيات، وله دراسات عديدة ذات توجّه محافظ. كما أنه أفرط في التركيز على القانون الدولي الإسلامي (في تحليل السياسات المعاصرة) حتى في عهد الناصريّة والبعث وسيادة المفاهيم العلمانيّة آنذاك. ورسّخ خدّوري في الذهن الاستشراقي صوابيّة الاعتماد في تحليل السياسة في الشرق الأوسط بناء على القانون الإسلامي التقليدي.

لكن تطبيق نظريّة تضاد «دار الإسلام» و«دار الحرب» يتجاهل في التناول الغربي «دار الصلح» (أو «دار العهد»، والذي، وفق فقه القانون الدولي في الإسلام، رعى العلاقة بين الرسول ونصارى نجران). لكن ما صحّة الاعتماد على نظريّات الإسلام التقليدي في عصر القرن الواحد والعشرين؟ برنارد لويس كان يحلّل العلاقة بين الدول العربيّة والغرب على أساس الكتابات القديمة عن أهل الذمّة في كتابات فقهاء الإسلام المحافظين. وقد كتب جيمس بسكاتوري كتاباً في الثمانينيات، بعنوان «الإسلام في عالم الدولة-الأمّة» ودلّل فيه على عدم صفاء تطبيق القانون الإسلامي في الدول الإسلاميّة (وقد أخذ بتجربة إيران والسعوديّة عن قصد). وبأدلّة بسكاتوري، يعتمد النظام السعودي والإيراني الكثير من القوانين المدنيّة، بالرغم من الادعاءات السياسيّة المُستحيلة عن تطبيق الشريعة. إن الضرر الذي ألحقته دراسات خدّوري على النظرة الغربيّة (الأميركيّة خصوصاً) لا يُقدّر، إذ ان نظريّة خدّوري باتت هي المعتمدة في النظرة السياسيّة والإعلاميّة للشرق الأوسط. وعندما أعلن بن لادن بعد 11 أيلول انشطار العالم إلى «فسطاطيْن»، كان هو أيضاً يسهم في ترسيخ الفكرة الاستشراقيّة عينها.

وفي الفهم المُغرض للرجل – أي كيسنجر، فإن الجهاد ليس إلا وسيلة (هنا يخلط، كيسنجر في الأمر إذ أنه يرى هنا ان الجهاد وسيلة (ص. 102) بينما هو يبرز عنده في الكتاب كهدف بحدّ ذاته، غير مرتبط بهدف آخر، إلا الجهاد من أجل الجهاد، على وزن «الفنّ للفنّ») للقضاء على النظام العالمي برمّته وفرض «دار الإسلام» على البشريّة جمعاء. وهنا يتضح ان عتاة كارهي العرب والمسلمين في الغرب لا يميّزون بين «داعش» و«القاعدة» وبين الأمة الإسلاميّة في ماضيها وفي حاضرها ومستقبلها.

وفكرة كسينجر الاستشراقيّة تتجاهل المُقرّرات «العلمانيّة»، أي غير المُرتبطة بالإسلام، للسياسات الخارجيّة للدول العربيّة وحتى للمنظمّات الإسلاميّة. إن الإسلام هو لغة السياسة الخارجيّة لعدد من الدول العربيّة، خصوصاً تلك المتحالفة مع الولايات المتحدة، وليس هو المُقرّر للسياسات. كان زبغنيو برجسنكي قد قرّر، خلافاً للدراسات عن الاتحاد السوفياتي في أميركا عام 1967 (في كتاب «الإيديولوجيّة والسلطة في الاتحاد السوفياتي») أن الماركسيّة-اللينينيّة لم تعد إلا «لغة السياسة الخارجيّة» في موسكو وليست مقرّرتها. إن النظام السعودي والأردني والمغربي يحتاج إلى لغة الإسلام والدين الحنيف لتسويغ سياسات لا علاقة لها بالدين ولا بالحرميْن (إلا إذا كان الحرمان إشارة عند آل سعود إلى أميركا والعدوّ الإسرائيلي). هذا ما عناه عبد الناصر في الستينيات عندما تحدّث عن إصابة الملك حسين بـ «نوبة الدين»، لخدمة المصالح الغربيّة – وخدمة نظامه – في الحرب الباردة.

إن السياسة الخارجيّة للدول الإسلاميّة، والمنظمّات الإسلاميّة تتقرّر بناء على العوامل «العقلانيّة» نفسها التي تتقرّر على أساسها السياسات في دول أخرى، من تقويم «الأمن القومي» أو الوطني أو الحزبي، والردّ على أخطار من الخارج والمصالح الاقتصاديّة، ومصالح الراعي الإقليمي والعالمي، وحسابات الصراع الداخلي، ومصالح السلالة الحاكمة، ومتطلّبات الصراع بين الدول في الإقليم، أو الأحزاب في داخل البلد الواحد، أو حسابات بناء القوّة، وفق نظريّة «الواقعيّة» في العلاقات الدوليّة. لا تختلف مصادر صنع القرار الخارجي في الدول الإسلاميّة عن المصادر في دول غير إسلاميّة، لكن العناد الاستشراقي يرفض أن يشمل مبدأ المقارنة في العلوم الاجتماعيّة على حالات الدول العربيّة والإسلاميّة.

والإفراط في التحليل الإسلاموي في كتاب كيسنجر يطغى في حديثه عن العالم العربي والإسلامي. فالنزاع السنّي ــ الشيعي هو عنده مجرّد امتداد لصراع تاريخي مُستمرّ منذ بدء الخلافة «الراشدة». لكن مُنظّر «الواقعيّة» في تحليل العلاقات الدوليّة يرفض تطبيق تلك النظريّة على أعدائه (أي أعداء العدوّ الإسرائيلي)، فهي عنده تسري فقط على سلوك الدول الغربيّة وحلفاء أميركا. وكما كان كيسنجر واحداً من الذين بالغوا كثيراً في تقرير عامل الإيديولوجيا في صنع السياسة الخارجيّة للاتحاد السوفياتي. هذا ديدن، أدعياء الإمبراطوريّة الأميركيّة: إن صناعة القرار في السياسة الخارجيّة الأميركيّة تعتمد على مبادئ ومصالح مثاليّة خالصة – حتى لو كانت «واقعيّة»، فيما تعتمد صناعة القرار عند أعدائهم على مجموعة من الإيديولوجيّات المقيتة والأحلام الدينيّة الخطيرة. وليس مستحيلاً النظر إلى الصراع السني ــ الشيعي الدائر اليوم – في ظاهره – كصراع سياسي كلاسيكي بين مصالح «وطنيّة» و«واقعيّة» لنظاميْن متناحريْن يغلّفان طموحاتهما السياسيّة بشعائر ومصطلحات الدين. أكثر من ذلك، يمكن بسهولة النظر إلى الفتنة اليوم كجانب من السياسة الخارجيّة الأميركيّة، أي أن أميركا ارتأت مع حليفتها إسرائيل ان توعزا إلى النظام السعودي بإشعال الفتنة وتكثيف التحريض ضد الشيعة (خصوصاً بعد هزيمة حرب تمّوز التي أذلّت العدوّ الإسرائيلي) من أجل تحوير أنظار العالم العربي عن العداء الشعبي العارم ضد العدوّ الإسرائيلي (وقد حقّقت تلك السياسة نجاحاً محقّقاً).

وتكون المبالغة في تصوير أهميّة الدين في التحليل السياسي عن العالم العربي نتاجاً للإرث الاستشراقي حيناً، وضرورة سياسيّة ودعائيّة حيناً آخر. خذ مثلاً الصراع العربي ــ الإسرائيلي ونظرة كيسنجر في الكتاب إليه. طبعاً، لم يتغيّر الرجل ولم يحد قيد انملة عن تبنّيه الكامل للعدوان الإسرائيلي. هذا هو الرجل الذي تسرّب حديثه في أواخر الثمانينيات في لقاء صهيوني في نيويورك، وكان قد دعا فيه قادة العدوّ إلى زيادة القمع ضد الشعب في الفلسطيني في انتفاضته، على ان تُطرد كل وسائل الإعلام من الضفّة والقطاع كي يتمّ القمع بعيداً من أنظار الإعلام. وفي هذا الكتاب يربط الكاتب بين الرؤية الـ«وستفيليّة» المُرتبطة بالحرص على سيادة الدول وتكريس واقعها، وبين واقع وسلوك دولة العدوّ. أي إن الدولة التي تقضت وجود الكيان السياسي التاريخي لشعب فلسطين، هي الحريصة على مفهوم وواقع السيادة، بينما تكون مطالبة شعب فلسطين بتحرير وطنه مناقضاً بالمبدأ لمفهوم السيادة الـ«وستفيليّة». وكي يزيد الكاتب من أسطورة الضحيّة الصهيونيّة، يزيد من عنده تحليلاً إسلامويّاً يفضي إلى نسب رفض وجود دولة الكيان الغاصب بين العرب والمسلمين إلى موقف ديني متعصّب (ومعادي لليهود، حكماً). ويقبل كيسنجر بكل الذرائع الصهيونيّة المعروفة لرفض حتى ما يقبله بعض الليكوديّين لأن العرب مُلزمون بالتزامهم الديني بـ…«دار الحرب». لكن لا يسأل الصهاينة في الغرب السؤال البديهي: هل كان شعب فلسطين سيقبل باحتلال أرضه لو كانت الحركة الصهيونيّة قد قامت من قبل بوذيّين أو حتى مسلمين من أندونيسيا؟

ويربط كيسنجر بين إيمانه بالنزعة الدينيّة الجهاديّة لعموم المسلمين وخطرها على النظام العالمي وسيادة الدول، وبين التاريخ ما قبل الإسلامي والرغبة في السيطرة الإمبراطوريّة (ص. 96-97). والجهاد في مفهوم الكاتب ليس وسيلة لغاية سياسيّة أم دينيّة، بل هو هدف بحد ذاته، كما أسلفنا. لكن طبع الرفض العربي بدافع الجهاد يتاقض مع تاريخ المقاومات الفلسطينيّة والعربيّة والتي كانت في معظم مراحل الصراع متحرّرة من اللغة والإيديولوجيّة الدينيّة. وتعصّب كسينجر يدفعه (ومن دون ذكر مصدر أو مرجع بيبليوغرافي) لتلخيص الحملات الإسلاميّة بالرغبة من قبل محمّد والأمّة الإسلاميّة لاستبدال المسيحيّة واليهوديّة والمجوسيّة بالدين الجديد (ًص. 98). أما الحقائق التاريخيّة التي تتناقض مع تحليله فهو لا يأخذها في عين الحسبان، كما هو المفروض في التحليل الأكاديمي الرصين. إن انتفاض العرب ضد الخلافة الإسلاميّة في بداية القرن العشرين (وقبل وبعد) بدافع لا علاقة له بالدين، لا يدخل في نطاق تحليل كسينجر لأن هوسه بنظريّة تطبيق «دار الحرب» تطغى على ما عداها.

طبعاً، لا تتصف أي من أفكار كسينجر بالبراءة. فإن نسبه الرفض القاطع للمسلمين (وللعرب من منظور ديني أحياناً ومن منظور علماني أحياناً أخرى، ربّما لإيمان العرب بضرورة تحقيق «دار العروبة» وهو حيّز جديد قد تبتكره مخيّلة كيسنجر) يُلائم سياسة تسويغ السياسات الغربيّة ويبرّئ الغرب والعدوّ الإسرائيلي من المسؤولية عن جرائم واحتلالات وعدوان. وعليه، لا تكون هناك ضرورة لتفهّم حاجات أو تطلّعات العرب والمسلمين لأن دوافعهم غير عقلانيّة وغير حديثة، والأهم – غير «ويستفيليّة» (ص. 104). والاتفاقيّات ومعاهدات السلام مع العرب والمسلمين لا قيمة لها لأنهم ينقضون المعاهدات والاتفاقيّات بحكم النفاق الكامن في فقههم، بحسب نظريّة كيسنجر. وهذا يؤدّي في منطق كيسنجر إلى دعوة العدوّ للحفاظ على احتلالاته وعدوانه لأن اتفاقيّات السلام، حتى مع طغاة أميركا، لا قيمة لها بسب التعصّب الإسلامي والخرق اللا«وستفيلي». هو يُعلن مذهولاً لقرّائه أن «صعود الدولة العلمانيّة على النسق الأوروبي لم يكن له مثيل في التاريخ العربي» (ص. 113). لكن أين هو المثيل في مناطق أخرى من العالم، وبأي معنى كانت الدولة دينيّة في العالم العربي، عندما تنازعت ثلاث خلافات فيما بينها في وقت واحد؟ ثم هل سمحت الإمبراطوريّة العثمانيّة للدول العربيّة أن تنشأ، وهل سمح الاستعمار الغربي المُطل على الأفق منذ القرن التاسع عشر باستقلال دول المنطقة؟ يعترف كسينجر أن الحلم القومي العربي أراد بناء دولة علمانيّة، لكنه يلاحظ منزعجاً ان تلك الدولة أرادت توحيد الدول العربيّة، وفي هذا تكون معادية للأولويّة الـ«وستفيليّة» (ص. 113). لكن ما هي الـ«وستفيليّة» هنا؟ هل يكون تفكيك وتجزئة الوطن العربي من قبل المُستعمل الغربي، وزرع الكيان الصهيوني الغاصب، ثابتة «وستفيليّة» لا يُسمح بتجاوزها لأن ذلك يضرّ بالسلام والنظام العالمي؟

لا يمكن التقليل من نفوذ كيسنجر الفكري على صنّاع القرار من الحزبين في شؤون السياسة الخارجيّة. يكفي ان تقرأ (أو تقرأين) مراجعة الكتاب من قبل هيلاري كلينتون في «واشنطن بوست». لم تتمنّع هيلاري عن الاعتراف من أنها تشارك كيسنجر نظرته إلى السياسة الخارجيّة. من النافل اتهام مُراجع (أو مُراجعة) كتاب بعدم قراءة الكتاب، لكن يبدو ان هيلاري لم تفهم الكتاب. هي قالت إن كيسنجر يؤمن مثلها بمزيج من «المثاليّة» و«الواقعيّة» في السياسة الدوليّة. لكن كيسنجر تطرّق بسخرية إلى «المثاليّة» وتناول قضيّة حسني مبارك وما يصفه النظام السعودي والصهاينة في إسرائيل بـ«التخلّي الأميركي» عن الرجل (مع أن أميركا سمحت له بقتل ما يريد من شعبه للبقاء في الحكم، كما أن وزارة الخارجيّة دانت في البداية «عنف المتظاهرين»، وعندما لم يعد بمستطاعه البقاء، اقترحت أميركا استبداله بالمسؤول عن القمع والاستخبارات في النظام لخلافته). كيسنجر يضع صنّاع القرار أمام مأزق في تقرير سياسات أميركا نحو الشرق الأوسط: إما حكم عسكري أو انتخابات ستؤدّي إلى وصول إسلاميّين لا يحترمون الديمقراطيّة. لا يخفي الرجل ميْله للخيار الأوّل. هو يجزم بأن الخيار الديمقراطي في العالم العربي غير موجود، وإن وُجد، لا يمكن الركون إليه من منظور الحكم الأميركي.

وفي تناوله للوضع السعودي، يعبّر كيسنجر عن الرأي الإسرائيلي السائد بالحفاظ على النظام السعودي مهما كان. لم تعد السعوديّة تعني النفط فقط لأميركا. هي باتت تعني الحليف الاستراتيجي الثاني والذي لا يقبل الحليف الأوّل بالتخلّي عنه مهما كان. وفي وقت يُشكك كيسنجر بالنوايا العربيّة والإسلاميّة، يأخذ على محمل الجدّ صدق نوايا العائلة المالكة السعوديّة. ويحذّر من مخاطر حدوث قلاقل أو انتفاضات في المملكة لما يمكن أن يحدثه ذلك من ضرر على المصالح الغربيّة (ص. 141). هو بكلام آخر يدعو للحفاظ ولو بالقوّة على النظام السعودي، كرمى لعيون إسرائيل والإمبراطوريّة الأميركيّة. ويحذّر في هذا السياق بالتحديد من التعويل على أي خيار ديمقراطي غير موجود (حكماً بين العرب والمسلمين).

النظام الدولي يتشكّل ويُعاد تشكيله. أميركا تحاول بقوّة منع صعود قوّة منافسة. لكن هناك ما يدور وما يجعل ملامح خريطة نظام عالمي جديد يبدو في طور التبلور الأوّلي. في زيارة أوباما لبورما (أو «ماينمار»)، تعهّد البيت الأبيض منح الحكومة منحة بقيمة 150 ميلون دولار. بعد أيّام فقط، مرّ الرئيس الصيني في البلاد وتعهّد تمويل مشاريع بقيمة 7،8 ميليار دولار. الفارق بين قيمة المبلغيْن هو مؤشّر ما للمستقبل. طبعاً، يؤمن كيسنجر بقدرة القوّة العسكريّة على الفرض، وهي لا تزال في يد الحكومة الأميركيّة مع ان الهوّة (على الأقل من حيث الميزانيّة العسكريّة) تتضاءل باستمرار بين الصين والولايات المتحدة. هناك «واقعيّة» وهناك ما أسماه جون مرشهيمر بـ«واقعيّة هجوميّة»، ويمكن الحديث في حالة أميركا عن «الواقعيّة العدوانيّة». هل تكون الواقعيّة العدوانيّة المتزايدة للولايات المتحدة، في الشرق الأوسط بالتحديد، مختبراً لسقوط حقبة القوّة الكبرى الواحدة؟ لم تجرِ مسيرة الاقتحام الأميركي العالمي الوحشيّة بعد 11 أيلول كما رآها المحافظون الجدد. وبول بريمر، أوّل حاكم عسكري للعراق، كان مساعداً لهنري كيسنجر في مؤسّسته الخاصّة. قد يكون كتاب كيسنجر دعوة غير مبطّنة لعدم الاستسلام للخيبة من القدرات العجائبيّة للقوة المفرطة. لكن لم يحدث ان حكمت إمبراطوريّة من الجوّ، كما ترغب أميركا ان تفعل. هل يكون كتاب كيسنجر عن «النظام العالمي» بداية رثاء غير مباشر للإمبراطوريّة؟

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى