وليد جنبلاط.. مصلح ديني!

طائفة الموحدين الدروز في خطر. حروب الطوائف الكبرى في المشرق، لا تعترف بأقليات دينية ومذهبية. رعب التكفير وعقوبات المرتدين، ترقى إلى مخيلة القتل، بأساليب احتفالية.

لا تشبه طائفة الموحدين الدروز الطوائف الأخرى. هويتها ملتبسة، ليس لدى «أهل العقل» فيها، بل لدى عامة الطوائف الأخرى ونخبها كذلك. إسلامها يجهله أو يتجاهله الكثيرون، وهي لا توضح روابطها بأصولها، لشدة التأكيد على التميز. تشيعها، من الأصل الذي جاءت منه، مجهول لدى العموم. ولذلك، تبدو كطائفة معلّقة، ذات خصوصية في الفكر والممارسة والتكتم، تطغى على الأصل الإسلامي والفرع الشيعي.

وليد جنبلاط، زعيم هذه الطائفة سياسياً، قلق على أقليته، وبحاجة إلى حل. لا حل بالعزلة، وهي الأكثر اعتزالاً وانعزالاً في محيطها.

لا حل بكيان خاص. التقسيمات السابقة على «داعش»، مثل «سايكس ـ بيكو»، لم تعد واردة في أجندات القوى الإقليمية أو قوى التحالف الدولي. وهذه، آخر من يهمها مصائر الأقليات المذهبية أو الاتنية. دينها مؤسس على مصالحها. الله عندها معبود ثانوي بعد المال، دين البشرية الدائم.

فأي حل في زمن الانقلابات؟

الجديد هو استشعار الخطر بطريقة مختلفة، ومحاولة اللجوء إلى تأكيد «إسلامية» الإسلام الدرزي. فقد عقد المجلس المذهبي لطائفة الموحدين اجتماعاً استثنائياً، ترأسه شيخ العقل نعيم حسن، وحضره النائب وليد جنبلاط برفقة بعض وزرائه ونواب طائفته، وقضاة المذهب الدرزي وأعضاء الهيئة العامة… اجتماع لاستنفار الإجابة عن السؤال الخطير: ما العمل؟

وجد جنبلاط أن تأصيل إسلام الموحدين وإشهاره أمر حيوي. «فأكد على أهمية التواصل الإسلامي ـ الإسلامي والابتعاد عن الانقسام، مشدداً على الموقع التاريخي لطائفة الموحدين الدروز وامتدادها العربي والإسلامي، داعياً إلى تعزيز التواصل التراثي والفكري مع العمق الإسلامي الذي تنتمي إليه هذه الطائفة».

وفي لقاء تلفزيوني بعد ذلك، أشار إلى هذا الأمر. فأشاد بقيام المجلس المذهبي بإنشاء معهد العلوم التوحيدية في بلدة عبيه، مع تأكيد «معزوفة» لا يسمعها أحد، تؤكد ضرورة تكريس الخطاب الديني المعتدل.

لكن المسألة ليست في إسلامية المذهب ومرجعيته وأصوله، بل في الإسلام الواقعي المنتشر راهناً، في المدى العربي والإسلامي، حيث لا صوت يعلو فوق صوت العنف والتكفير. «العودة» إلى الأصول، أو، بالأصح، تأكيد الأصول، لا تضيف على المعتقد انفتاحاً. ضباب الدعوة مقفل إلى أبد الآبدين. أما إذا كانت الدعوة للفت الآخرين إلى إسلامية الموحدين، فهي دعوة بلا عنوان تصل إليه. غير أن ثمة إشكالية حقيقية في هذه الدعوة، هل هي باتجاه الإسلام السني أم الإسلام الشيعي، وكلاهما مشتبك في هذا السحيق العربي والعدم الإنساني والاكتظاظ الديني؟ هذا الحج إلى ماضي الموحدين، يتصل بالتشيع أكثر من التسنن وهو ليس الاثنين أبداً. الموحدون، وحدهم كذلك، معتصمون في قدسية نصوص وأفكار وتقاليد، تعصى على التغيير أو التعديل، وتخصهم وحدهم، لافتراقها عن التقليد الإسلامي الكلاسيكي. هم أهل عقل، والنقل متعدد ومجتهد.

المشكلة ليست في المعتقد بذاته، بل بمقدار قبول الآخرين به وتقبله للآخرين. تاريخ العلاقات بين الأقليات والأكثرية، عندنا، ملتبس، وفي كل الأحوال، لا يليق بما بلغته البشرية من تقدم على مستوى حقوق الإنسان ودعائم بناء الدولة الحديثة على المواطنة.

التقرب من الإسلام السني راهناً، لا يجدي. الوقوف على مسافة واحدة من تشيع وتسنن لا ينفع. الكل مأزوم. السنة في كارثة، بعدما تغلَّب التطرف والتكفير على الاعتدال والإسلام المدني. الشيعة في محنة. إنجازات إيران والمقاومة الإسلامية، محاصرة وتمتحن في مدى قدرتها على أن لا تنزلق إلى الفتنة. ولا قدرة لها على الفكاك من هذا المنزلق. المسيحيون لم تعد تجدي معهم العودة إلى عروبة حملها رواد مسيحيون في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. كل هذا انتهى. «داعش» جبَّت ما قبلها، دولاً وكيانات وأكثريات وعقائد، واستقرت رعباً مدمراً، قد يطيح الجميع.

لا حاجة إلى لوثر في كل دين أو مذهب. الموحدون ليسوا مشكلة مذهبية. لا يشعر اللبنانيون بأي تأزم في هذا المستوى. كذلك المسيحيون، مشكلتهم ليست في دينهم ومذاهبهم. المشكلة سياسية متصلة بالمعيوش والحياتي، أكثر من اتصالها العقدي الديني.

الإصلاح الديني، على أهميته، ليس حلاً. هو مقدمات لحل يأتي في السياسة، لوثر أصلح الكنيسة ولكنه لم يمنع طغيانها واستبدادها. كما لم يمنع طغيان تلميذه كالفن، عندما طبق الطهرانية البروتستانطية فحوّل جنيف، التي حكمها، إلى قندهار، يوم استولت عليها «طالبان».

إذاً ماذا؟

وقائع الماضي تثبت أن الصراعات الطائفية والمذهبية، ليست بأسباب عقائدية ودينية. لا حرب أيقونات بين الكنائس والمذاهب، ولا حرب تعيد معركة الجمل وتستعيد كربلاء. الوقائع تثبت أن للطوائف وظائف لا دينية ولا مذهبية ولا إيمانية. للطوائف حضور في فراغ سياسي مدني تقدمي…
وقائع الإصلاح الديني في الغرب، تثبت أن الكنيسة لم تخرج من الدولة والسياسة بسبب الإصلاح، بل بالمعارك التي خسرتها، لم تنسحب إلا مهزومة سياسياً. لم تهزم عقدياً أبداً.

إذاً ماذا؟

في لبنان، زعماء طوائف. في أكثريتهم، لا يشبهون طوائفهم ولا يتشبهون بها ولا يسيرون وفق تعاليمها. من دون أن أذكر الأسماء، يمكن قياس الفروقات الهائلة بين الزعماء وحلفائهم الخلَّص، رجال الدين. وعليه، فإن النظر إلى الزعماء، بمعزل عن مرجعيتهم وأصلهم ودينهم، يظهر سلوكهم المدني والعلماني والحداثي، حتى ليبدو أحياناً، أن إقامتهم في طوائفهم، أو إقامة طوائفهم معهم، هي مجرد ثوب يلبسونه إذا لزم المقام، وينزعونه إذا دعت الحياة، على سجيتها.

وليد جنبلاط نموذج الرجل الكوزموبوليتي، المثقف، المتعلم، النبيه، اللاعب، متصيد الفرص، مستدرك الأزمات، المنصرف إلى الحياة والفن والفلسفة والتاريخ، بما يليق لها من جدية أو من استهتار. ومن يحاول إيجاد العلاقة بين انفتاح الرجل المذهل، وبيئته ومذهبه، سيجد أننا أمام معضلة مذهلة. ولعل السؤال المريب: «كيف يجتمعان»؟ وهما على هذا البون من الاختلاف. فلا هذا ذاك، ولا ذاك المجموع هو هذا.

إذاً ماذا؟

في هذه السوريالية، سؤال سوريالي كذلك: لماذا لا يعمل وليد جنبلاط على ترك المسألة المذهبية لعلمائها، وينصرف إلى تقريب المسافة بينه وبين بيئته، بحيث تأخذ منه ما بلغه من حداثة، معتمداً على مبدأ نقل الجماعة المذهبية، إلى حضن المواطنة والتساوي مع الآخرين.

هل في ذلك خسارة له؟ ربما. لكن في ذلك ربما فائدة للوطن، عندما يحين موعد بنائه.

التفاؤل ضئيل. ولا متسع من الوقت قبل الكارثة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى