شرفات

ثلاثة سُدّت آذانهم بالقطن !

ثلاثة سُدّت آذانهم بالقطن !… لا أذكر بدقة  السنة التي وقعت بها هذه الحادثة، لكني لا أنساها أبداً، رغم داء النسيان الذي أصاب الكثيرين هذه الأيام، فالتوقيت لا معنى له ، فما حصل، وما سأحكي عنه ، يمكن أن يأخذني إلى كل سنوات عمري التي أحبها أو التي لا أودٌّ تذكرها..

كانوا ثلاثة رجلان وامرأة ، يجلس كل منهم على كرسي صغير من القش، والمكان لم يعد موجوداً، فهو في أحد مقاهي الرصيف الشعبية في ممر فرعي قبالة القصر العدلي يربط بين شارع رامي وسوق الكهرباء، وكان المقهى يعرف باسم صاحبه (أبو عجاج) الذي يشبه وجهه تلك الصورة المرسومة على كتاب (أبو زيد الهلالي) في نسخته الشعبية.

الرجل الأول ، كان لا يسمع، وكان يقرأ كتباً كثيرة باللغة الألمانية، والغريب أنه يقرأ بصوت عال، ثم يتجه لزوجته التي تجلس بجواره وقد أصابها رعاش اليدين ، ويحكي لها بالعربي عن مضمون الشخصيات التي ترد في الكتاب وتتحاور أو تتصارع بين صفحة وأخرى، ونتيجة اهتمامي بما يقوله انتبهت إلى أن زوجته لاتسمع أيضاً، لأنها كانت باستمرار تبتسم وتهز رأسها كمن يرد بالاستهزاء !

أما الشخصية الثالثة التي انضمت إليهما ، فهي شخصية نادرة، رجل قطعت يده اليمنى، وربط طرف القميص عليها، وقطعت ساقه اليسرى ورُبط طرف البنطال عليها، وبقيت اليد اليسرى تتحرك بسرعة هائلة ..

كان هذا الرجل يأتي إلى المقهى عند الظهر، فيجلس على كرسي مجاور، ويسند عكازته على حضنه، ويتشارك في الجلسة مع الرجل القارئ وزوجته، وكان يأتي برغيفين وليمونة مشطورة إلى قسمين، ويفتح كيساً صغيراً من الورق حشرت فيه عدة أقراص من (الغلينا المقلية) ، وهي أقراص شبيهة بأقراص الفلافل، مشغولة بعجينة من لحم رخيص هو عبارة عن بقايا اللحم التي لايشتريها الناس من اللحامين..

هذا الرجل، كان يأكل بسرعة غريبة، فيطوي رغيف الخبز الأول بيده السليمة، ثم يعيد الرغيف بعد أن يقضم قطعة خبز، ويتابع الطعام بقضم قرص الغلينا، ثم يعيد القرص، وبسرعة ليتقط نصف الليمونة المقسومة فيمتص عصرها بشفتيه.. والأهم في المسألة أنه كان يثرثر مع القارئ العجوز وهو يأكل.

ذات يوم، راقبت ما يحصل أمامي بحرص على التفاصيل، فاكتشفت أن الرجل المقطوع اليد لا يسمع أيضا لأن الكلام الذي يردُّ فيه على الرجل القارئ لا علاقة له بكلامه ، وامتد الحديث نحو نصف ساعة !

قال قارئ الألمانية :

ــ الغريب أن هيغل لم يُعرف في العالم كما عُرف ماركس..

والتفت إلى الرجل الأكول، وهو يقول:

ــ تصور أخذ ماركس الجدل عنه، وبنى نظريته مستنداً إلى فيلسوف آخر هو فيورباخ ، فضاع هيغل وفيورباخ وبقي ماركس في الصدارة..

تناول الرجل مقطوع اليد قطعة الليمون، وعصر شيئاً منها في فمه ، ثم تغيرت عضلات وجهه نتيجة حموضة الليمون ، وعلق قائلاً:

ــ الغلينا بلا ليمون لا تساوي شيئاً !

والتفت إلى الرجل القارئ، وسأله :

ــ هل تعرف ؟ مع الليمون أنا مستعد أن آكل عشرين قرصاً من الغلينا وأربعة أرغفة !

جاء أبو عجاج بشاربيه الطويلين وقامته المحنية، ووزع ثلاث كاسات مذهبة العنق على طاولة معدنية عمودية تتوسط الجلسة، وعاد إلى عمله . فقال الرجل لزوجته :

ــ اشربي الشاي ، فهو طيب إذا كان حلواً.

وعدا إلى كتابه، فقرأ سطراً، ثم علّق على ما قرأ :

ــ جميل . جميل . هذه تسجل لماركس !

ووجه كلامه إلى آكل الغلينا :

ــ سأقرأ لك حرفيا رأي ماركس.. ” ﻛﻝ ﻣﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻫﻭ ﺗﻔﺳﻳﺭ ﺍﻟﻌﺎﻟﻡ؛. ﻟﻛﻥ ﺍﻷﻫﻡ. ﻫﻭ ﺗﻐﻳﻳﺭﻩ. “.

أزاح الرجل المقطوع اليد عكازه ، وعاد إلى الأكل ، وهو يردد:

ــ هذه البلاد خيّرة . تصور قرص لحم كامل بفرنك . الحمد لله .. الحمد لله ..

وتدخلت الزوجة ، وقالت لزوجها :

ــ أنت تقول لي أن الأولاد سيعودون من ألمانيا ، وأنا سأموت ولن يعود أحد منهم !

فيرد زوجها:

ــ ماركس رجل اقتصاد. نعم فهناك من قال لو أنه جمع مالاً بدلاً من كتابه رأس المال لأصبح أكبر ثري في العالم .

تتثاءب الزوجة، وتبوح له بشيء يشغل أفكارها:

ــ قلت لك ، كان يجب أن نبقى في ألمانيا!

يتابع القارئ حديثه:

ــ ماركس كان فقيراً، كان صديقه أنجلز الثري يقدم له العون ويعطيه ما يحتاج من أجل بحوثه !

وهنا يضحك آكل الغلينا ويقول:

ــ غدا سآتي بقرص بندورة .. البندورة طيبة مع الغلينا .

وتجشأ بصوت عال، فقالت الزوجة وهي تشيح بوجهها عنه:

ــ أنا لا أحب الشاي، وفي كل مرة أترك الكاسة دون أن أشربها!

ضحك زوجها ضحكة عالية ، وكاد يقلب على قفاه ، وهو يضع اصبع على صفحة في الكتاب ، اسمعوا .. اسمعوا ما يقول أنجلز عن هيغل :

ــ الديالكتيك يقف على رأسه عند هيغل..

تستغرب الزوجة ضحكه الصاخب، فتنكس رأسها خجلاً، بينما يحمل الرجل مقطوع اليد كأس الشاي، ويشربه دفعة واحدة وينهض ، ودون مبالاة يصدر صوتاً عالياً من مؤخرته، ويقول :

ــ الله لايحرمنا هذه النعم !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى