جنازة رجل فقير مقطوع من شجرة !

 

كان شرطي المرور يقطع السير في كل الاتجاهات ماعدا الاتجاه الذي تمضي فيه الجنازة. يطلق صفارته ، وكأنه يعلن الاستنفار العسكري في الشارع الذي هو فيه، وسريعاً يبدأ المارة البحث عما يجري من حولهم ، والفضول لدى الناس لا يحتاج أصلا إلى صفارة شرطي .

وما أن تهل طلائع الجنازة ، ويترامى صوت القرآن الكريم من مكبر صوت سيارة دفن الموتى حتى يعرف الجميع أن شرطي المرور يعطي الأفضلية لمرور الجنازة ، وكأنها سيارة إسعاف تستعجل الوصول إلى العناية المشددة..

أكثر ماكان يُدهشني في تلك اللحظات، تلك التحية العسكرية، التي يؤديها الشرطي للجنازة وهي تمر أمامه، أي أنه لا يكتفي بإيقاف السير احتراما لها ، بل يؤدي لها التحية أيضاً ، فيقف المارة باحترام ويقرؤون الفاتحة باحترام ، ويرسم بعضهم إشارات على صدره!

ذهبتُ إلى الشرطي . وسألتُه :

ــ لماذا أديتَ التحية عندما مرت الجنازة ؟ هل هي جنازة ضابط أو جنازة مسؤول ؟!

نفى الشرطي بحركة من رأسه دون أن ينشغل عن إدارة السير في الشارع . وقال :

ــ في حالة الموت كله سوا سوا. الغني لا يعود غنياً . والفقير لايعود فقيراً . والمسؤول لا يعود مسؤولاً !

وردد وكأنه حفظَ الجواب جيداَ :

ــ ابن آدم لايُشبع فمه إلا التراب !

لم أفهم عليه كل هذه الأفكار التي صبها عليَّ صبا ، ورأيتُه وهو يمضي في حركته يشير بيده فيوقف هذه السيارة أو يسمح بمرور تلك . يلوّح بيده محتجاً أو يصفر عندما يحصل شيء ما يستحق الصفير !

كدتُ أمشي قبل أن أسمع عبارته الأخيرة :

ــ يجب علينا أن نؤدي التحية إجلالا لهيبة الموت !

جعلتني هذه الإجابة أقف وقد سيطرت علي دهشة سببتها الفكرة، وبعد وعلى مدار سنوت طويلة اعتدتُ أن أتمثل موقفه كلما مرت أمامي جنازة ، فأتوقف عن السير إذا كنت ماشياً، ويتوقف فمي عن المضغ إذا كان فيه طعاماً ، إلى أن كبرتُ وراح المشهد يتغير !

هذه الأيام . لم يعد  الشرطي يفسح في المجال لمرور الجنازة، ولايؤدي التحية احتراما للموت، أما الناس فيأكلون ويشربون ويضحكون عندما تمر. لا أحد يكترث لها . حتى لو لحق بها طابور من السيارات المفيّمة..

آخر جنازة مرت أمامي كانت مستعجلة، وعندما تغير لون إشارة المرور إلى الأحمر توقفتُ. وتعالى صوتُ القرآن الكريم منها . لم ينتبه الشرطي إليها، ولا أدى التحية لها. أثارني الفضول واقتربتُ من نافذتها وسألت سائقها :

ــ لماذا لا يوجد سيارات تُشيّع الميت، وتمشي خلف الجنازة ؟  فرد باختزال :

ــ هذه جنازة رجل فقير مقطوع من شجرة تدفنه البلدية مجانا!

سألته من جديد : ــ أين ؟

مشت السيارة وصوت القرآن الكريم يترامى منها، ولم أتعرف منه على مكان الدفن!

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى