حفريات الطاهر في سجلات نجيب محفوظ

 

عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب” صدر لطارق الطاهر، كتاب بعنوان “نجيب محفوظ بختم النسر”، وهو كتاب وثائقي عن نجيب محفوظ من خلال البحث في ملفاته في وظائفه الحكومية التي تنقَّل فيها بين ثلاث وزارات هي: الأوقاف، والإرشاد القومي، الثقافة.

وهذه الوثائق تشتمل على رحلة نجيب محفوظ الوظيفية التي بدأت في العام 1934 واختتمها في العام 1971، حينما بلغ سن الستين وأحيل للمعاش. وقد بذل طارق الطاهر جهدًا في قراءة هذه الوثائق وتقديمها للقراء، مستهدفًا رسم صورة أخرى لنجيب محفوظ صاحب العطاء الإبداعي الممتد لأكثر من 70 عامًا، وإن كنت أرى أن هذه الوثائق بقدر ما تعطي صورة عن نجيب محفوظ، فهي ترسم صورة أقوى لطبيعة المجتمع المصري آنذاك، وتعرف أبناء زماننا بنمط الحياة الوظيفية في مصر، وتحديدًا في دواوين الحكومة المصرية، وتظهر العقلية التي كانت سائدة فيها، ومما يمكن أن نصل إليه في تقدير نجيب محفوظ أن نعرف كيف أن هذا الرجل استطاع بكفاءة وقدرة شبه معجزة أن ينجح بشكل لا خلاف عليه في الجمع بين أمرين متناقضين بطبيعتهما؛ أن يكون موظفًا منضبطًا ملتزمًا، وأن يكون أديبًا مبدعًا صاحب فكر وخيال وموقف من المجتمع الذي كان يعيش فيه، وأنه استطاع أن يضع لكلتا الشخصيتين حدودها، فهو كموظف يعرف حدود المستخدم في الحكومة وواجباته، فيلزم نفسه بها وينضبط عليها، وهو كفنان مبدع يعرف كيف ينطلق بخياله وقلمه ليصنع عالمه الخاص في تؤدة وهدوء وثقة دون أن يشغل الآخرين أو يسعى لتحقيق شهرة أو نجومية، بل كان يقدم العمل تلو العمل من مجموعته “همس الجنون” إلى رواياته التاريخية: “رادوبيس” و”عبث الأقدار” و”كفاح طيبة” إلى روايته الطبيعية “السراب” إلى رواياته الواقعية “القاهرة الجديدة” و”بداية ونهاية” و”خان الخليلي” و”زقاق المدق” إلى “الساجا” أو ما نعرفه برواية الأجيال التي كتب فيها “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية” إلى روايته الكونية “أولاد حارتنا” إلى رواياته النفسية التي بدأت بـ “اللص والكلاب” و”الشحاذ” و”ثرثرة فوق النيل” إلى روايته الملحمية “الحرافيش” إلى…. إلى …..

وأود التأكيد على أن نجيب محفوظ لم يكن كاتبًا ثوريًا، فالثورة الوحيدة التي آمن بها كانت ثوررة 1919، كما أنه لم يكن كاتبًا يساريًا، ولم يدع أنه بطل اجتماعي.

كان نجيب محفوظ موظفًا منضبطًا يخاف على رزقه، وكان ملتزمًا بطبيعة الموظف والوظيفة. وكان إنسانيًا.. كان إنسانًا مصريًا عاديًا يمشي في الأزقة ويجلس على المقاهي الشعبية وليس على “الكافيهات” ويلبس الملابس البسيطة صيفًا وشتاءً ويحيا حياة الملايين من بسطاء مصر لا حياة الصفوة من أغنيائها، وككل مصري طيب تعرض نجيب محفوظ للنصابين الذين نصبوا عليه، كما ذكر لنا أن أحد المقاولين النصابين أخذ منه مبلغًا ليبني له مسكنًا فضاع المقاول وضاعت “الفلوس”! والغريب أن نجيب محفوظ كان يحكي ذلك بابتسامة مستاءة. ويعلق ساخرًا: “ألا يكفي هذا لأصاب بالسكر!”.

هكذا كان نجيب محفوظ.

والآن لننظر في بعض حفريات طارق الطاهر في سجلات نجيب محفوظ الممهورة بـ “خاتم النسر”.

كانت أول شهادة حصل عليها نجيب محفوظ هي الشهادة الابتدائية في سنة 1925، ثم شهادة الدراسة الثانوية نظام الثلاث سنوات سنة 1928، ثم شهادة الثانوية نظام السنوات الخمس سنة 1930، ثم ليسانس الآداب من الجامعة المصرية سنة 1934. ما يعني أنه كان ينجح دائمًا ولم يتخلف سنة واحدة.

أما بخصوص الوثائق التي وردت مثل: “طلب الاستخدام للجامعة المصرية” و”نتيجة الكشف الطبي” و”كشف ممتلكاته” و”إقرارات يكتبها بعدم تقاضيه أي مرتب أو معاش من الحكومة في 1934″ و”طلب إجازة لمرض خفيف ألم به” أو “طلب إجازة اعتيادية” أو “إجازة مرضية” أو “إجازة بعد وفاة والده”، ومثل هذه الوثائق الإدارية أمر عادي عند أي موظف حكومي، ولكن الذي لفت نظري في هذه الوثائق هو اللغة الأدبية الراقية التي كان يسستخدمها نجيب محفوظ وهو تعبير أيضًا عن الطريقة التي كان يستخدمها عامة الناس من الموظفين في طلب أمر يخص العمل، فهناك السلم الاجتماعي الذي يحرص الجميع على احترامه. فهناك من يخاطب بـ “صاحب العزة” ومن يخاطب بـ “معالي الأستاذ” ومن يخاطب بـ “فلان أفندي”. فلم يكن من المعتاد أن يخاطب شخص بغير صفة يحملها، سواء كان موظفًا مبتدئًا أو مديرًا كبيرًا.

ومن أمثلة ذلك تلك الأوراق التي ضمها هذا الكتاب وأعجبتني. يقول في إحداها: “حضرة صاحب العزة سكرتير عام الجامعة المصرية:

أتشرف بأن أرجو التفضل باحتساب المدة من يوم الخميس 30 ديسمبر 1927 لغاية الأحد 2 ديسمبر 1938 التي تغيبتها بسبب وفاة والدي من إجازتي الاعتيادية.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.

نجيب محفوظ عبدالعزيز.

كاتب بإدارة المستخدمين.

3/1/ 1938

ويعلق المؤلف بأنه من غير المعقول أن يكون نجيب محفوظ قد حصل ما يقرب من السنوات العشر على إجازة اعتيادية لرحيل والده! والغريب أنه لم تلاحظ إدارة المستخدمين هذا الخطأ الوارد في طلب هذه الإجازة، وتستمر الورقة محفوظة بخطئها بملفه الوظيفي. ويرر ذلك أو يعلله بأنه التوتر الناتج عن حالة الحزن التي مر بها محفوظ بعد وفاة والده. وأرى أن هذه ملاحظة جميلة.

ولكنني أعيد قراءة الخطاب وأسأل كيف صاغ الموظف طلب الإجازة؛ فسكرتير عام الجامعة يلقب بـ “حضرة صاحب العزة”. وفي عرض الموضوع يقول “أتشرف بأن أرجو التفضل باحتساب….”، فهو يتشرف ويرجو رئيسه أن يتفضل باحتساب أيام غابها لتشييع والده إلى مثواه الأخير من إجازته الاعتيادية. وهذا ما أراه من لغة خطاب ذلك العصر، لنرى كيف كان الناس يتعاملون.

ويقدم المؤلف صورة من أوراق تعيين نجيب محفوظ، وفيها إشارة إلى تاريخه الصحي عند التحاقه بالوظيفة، وهو يشيرإلى خلوه من الأمراض، وكان ذلك سنة 1934، ثم يشير المؤلف إلى أن نجيب محفوظ أصابته الحساسية والكبد بعد اكتشاف إصابته بمرض السكر. ويتساءل: فهل يكون تاريخه الصحي الذي قدمه عند التحاقه بالعمل مشكوكًا فيه لأنه أصيب بعد ذلك ومع مرور الزمن وكرور الأيام وما يتعرض له الإنسان من منغصات وتوتر أن تكون إصابته بداء أو مرض أمرًا غريبًا.

إنه من الطبيعي أن الإنسان كلما مضى به قطار العمر تغادره قوة الصحة ليحل محلها وهن الجسم وضعفه وهذه من طبائع الأمور.

ويتحدث المؤلف عن نجيب محفوظ الذي ترجم وهو في المرحلة الثانوية كتاب “مصر القديمة” لجيمس بيكي. ويقول نجيب إنه فعل ذلك لتقوية نفسه في اللغة وأنه عرض كتابه على سلامة موسى لنشره كمقالات، ولكنه فوجئ في أحد الأيام بشخص يطرق بابه ويسلمه نسخة من الكتاب مطبوعة، فكان سلامة موسى قد طبعه كهدية إلى القراء بديلًا عن شهرين تتوقف فيهما المجلة التي كان يصدرها.

وهكذا تدور الأحداث حتى نقف عند بعض الأزمات التي مرت بنجيب محفوظ في حياته الوظيفية وفي حياته الأدبية الإبداعية، فكانت المرة الأولى حينما كان رقيبًا على المصنفات الفنية، وعُرِضَ عليه فيلم عن اليابان يسيئ إلى اليابان، فاعترض عليه نجيب محفوظ من زاوية أن العلاقة بين اليابان  ومصر كانت جيدة، وأن اليابان ساندت مصر في كفاحها ضد الاعتداء عليها، ولكن كان للبعض رغبة في عرض هذا الفيلم وكانت فكرة الارتكان على أحد أركان النظام الحاكم في مصر تعطي لصاحبها قوة السلطة، فعُرض الفيلم برغم رفض نجيب محفوظ، وفي أول يوم لعرضه توجه سفير اليابان لجمال عبدالناصر معترضًا، فأمر عبدالناصر بوقف عرض الفيلم الذي أساء إلى اليابان.

أما الأزمة التالية التي تعرض لها نجيب محفوظ فكانت بسبب نشر روايته “اولاد حارتنا” مسلسلة في “الأهرام” في الفترة من 12 سبتمبر 1959 إلى 25 ديسمبر من ذات العام. والغريب أن وزيرين في نفس الوزارة وقفا وجهًا لوجه بسبب هذه الرواية؛ الأول حسن عباس زكي، وزير الاقتصاد، الذي شن حملة على الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة، بدعوى أن عكاشة أسند مهمة الرقابة لرجل متهم في عقيدته الدينية، وتعرض نجيب محفوظ، كما يقول بلسانه، إلى مواقف كان بعضها أشبه بمسرحية هزلية، ففي أحد الأيام اتصل به مدير مكتب كمال الدين حسين (وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت) وفوجئ به يبلغه لوم الوزير لأنه سمح بعرض “أولاد حارتنا” على المسرح القومي، ولم تكن الرواية تحولت إلى مسرحية! واكتشف محفوظ أن كمال الدين حسين خلط بين “أولاد حارتنا” و”بداية ونهاية” التي كانت تعرض آنذاك بالفعل على خشبة المسرح القومي، ولوضع حد للمشاكل طلب الدكتور ثروت عكاشة منه أن يترك الرقابة وينتقل إلى رئاسة “مؤسسة دعم السينما” التي كانت تحت الإنشاء، وجاء هذا الإبعاد عن “الرقابة” رغم أنه كان يديرها بوعي شديد محققًا نجاحًا متوازنًا بين حرية الإبداع ورعاية مصالح الدولة.

ومن أغرب ما رواه نجيب محفوظ تلك المعركة التي نشأت بينه وبين المخرج عزالدين ذوالفقار، ومنها نكتشف أن “ذو الفقار” كان معترضًا على إنشاء “المعهد العالي للكونسيرفاتوار” في مصر بدعوى أنه سيكون على حساب دعم السينما، وقد تصدى له نجيب محفوظ مدافعًا بقوله: “إن هذا المعهد إنما هو لحساب السينما والفن والإنسان وستفيد السينما من الموسيقى الراقية، كما تفيد اليوم من الموسيقى العادية”.

هنا يمكننا أن نستنتج أن نجيب محفوظ لم يكن يدافع عن مصالحه الضيقة، كما فعل كثيرون غيره، إذ من الطبيعي أن يقف في صف “ذو الفقار” كي يضمن هذه السيولة التي تضخ لصالح تحويل الروايات المكتوبة إلى أفلام.

أجمل ما في هذا الكتاب أن نجيب محفوظ لا نقف أمامه بإعجاب وانحناء ككاتب فقط، وإنما ننحني مرة أخرى لخلقه الرفيع وعظمة التواضع في شخصيته.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى