شرفاتكتاب الموقع

حكاية الربع ليرة : أمان ربي أمان!

حكاية الربع ليرة ..حدث ذلك عام 1968. وكانت الشام في ذلك الوقت، تمورُ بحراك واسع بعد الحرب فحواه أن صراعاً يجري على السلطة داخل السلطة. سببته الحرب واختلاف الآراء حول آلية التعامل مع هزيمة حزيران عام 1967.

كان أبي موظفاً في أحد دوائر الدولة، وكان راتبه الشهري أقل من أن يكفي أسرتنا المؤلفة من ثمانية أشخاص، مع أجرة بيت وتكاليف مدارس يومية للجميع، الراتب في ذلك الوقت لا يزيد عن 300 ليرة شهرياً .

وكنت أشعر دائماً أن أبي في أزمة، ومع ذلك كان كريماً في بيته إلى درجة المبالغة، فالطعام هو أقل ما يقدم للضيف الزائر، أما القهوة أو الشاي ، فهي مسائل من المعيب اعتبارها كافية .

وفي إحدى المرات ضاقت الأمور أكثر من المتوقع، وكانت ملامح الضيق والأزمة واضحة على وجه أبي، الذي كان يكتفي بالقول :

ــ إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب !

فأحسست أن عليّ أن أتصرف، وأنا في الصف الثاني الابتدائي، وكنت قد ادخرت ربع ليرة، وأخفيتها في جيبي، على أرضية أنني قد أفتقد مصروفي اليومي في أي لحظة ، وبالكاد كانت (خرجيتي) تصل إلى عشرة قروش سورية، لذلك همست له في الطريق :

ــ معي ربع ليرة.. خذها !

نظر أبي إلى وجهي بفرح ، فكيف يفكر ابنه الطفل بنجدته على هذا النحو، وإذا به يمد يده ويأخذ الربع ليرة، ولا أعرف الآلية التي صرف فيها هذا المبلغ الضئيل، الذي أصبح بحوذته .

وكان يمكن أن تنتهي المسألة عند هذا الحد. لولا أن الهواجس لاحقتني من عام 1968 وإلى اليوم ، هواجس تتعلق بتلك الحادثة ، فهل كان أبي بحاجة فعلية إلى هذا المبلغ الزهيد؟ وهل كان مأزوما إلى هذه الدرجة ؟!

ثم ماذا يمكن أن تفعل الربع ليرة في جملة ما تتطلبه احتياجات بيتنا وأسرتنا في ذلك الوقت؟!

سأتوقف عند نقطة هامة،  وهي أن علي أن أوضح أنه ورغم كل قساوة تلك الظروف، لم تكن تعني أبداً أننا نعجز  في بيتنا عن إطعام عشرة أشخاص فيما لو توافدوا علينا، ففي البيت مونة تكفي شهرا وبركة دائمة !

هذه الصور عن الحياة غريبة فعلاً، ونستعيدها الآن بدهشة، فظروف هذه الأيام لاتصدق، فهل تعلمون أن ثمة بيوتاً يمكن أن تفتقد في بيتها إلى رغيف خبز، أو حبة زيتون، أو حتى بقايا طعام من اليوم السابق، أو حتى ثمن ربطة خبز ؟!

هذه الأيام تشبه أيام السفر برلك ، ربما منشأ التشابه واحد هو الدور التركي، أما كانت أيام السفر برلك تمضي ولا يوجد (متليك) واحد بجيوب الناس، ولذلك سأصرخ بالتركي والعربي عن أحوال هذه الأيام  :

أمان ربي أمان !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى