كلمة في الزحام

خبز تونسي في باريس

خبز تونسي في باريس…يبدو أنّ قصر الإليزيه أدمن ـ ولسنوات متتالية ـ الخبز الذي تصنعه الأيادي التونسية في باريس منذ أن سكنه جاك شيراك، الذي يُعد أول من أطلق مسابقة أفضل خبزة باغيت في باريس حين كان رئيسا لبلديتها

بلاد جان فالجان، بطل رواية “البؤساء” لفيكتور هيغو، الذي قضى عقوبة تقارب العشرين عاما من السجن بسبب سرقته رغيف خبز، تكرّم خبازا مهاجرا من بلاد ثورة الخبز الشهيرة عام 1984، عبر منحها جائزة تخوّل له تزويد القصر الرئاسي بخبزه مدة عام كامل.

وبصرف النظر عن هذه الرمزية التاريخية وكل ما تعنيه من قراءات وإسقاطات وتأويلات، فإن ” من سمّاك أغناك” كما يقول المثل العامي، إذ صار يحتشد كل صباح طابور طويل من الباريسيين أمام مخبزة “مكرم” الشاب الأربعيني الذي قدم من الضفة الأخرى بحثا عن “خبز الكرامة” في أرض من كان بالأمس مستعمرا لأرض أجداده.

تفوّق مكرم على العشرات من أمهر صناع الخبز في عاصمة الخبز، وأثبت أن الإبداع لا تحتكره ثقافة دون أخرى، شرط التسلح بالإتقان والتحلي بالصبر، تماما كالعجين المحتضن لخميرته مدة تزيد عن 12ساعة كما قال الخباز التونسي في إحدى مقابلاته.

ما الذي جمع التونسيين والفرنسيين حول صناعة الخبز؟ لا شك أن سرا ما يقف خلف هذا “الإتقان التونسي، بالتحديد” في هذا “الفن الفرنسي، وبالتحديد أيضا”.

ربما الذي يجمعنا هو نفس ما كان يفرق بيننا من صراع حول “العيش” وفق تسمية المصريين الذين صنعه قدماؤهم من حنطة استنبتوها في أرضهم بعد أن تركوا تحنيط الجثث، ودعا حكماؤهم لتخليد الحياة قبل تخليد الممات.

كان الخبز ولا يزال وقود الثورات ومحرّكها، عبر التاريخ، وبصرف النظر عن نوعية المرق والزيت الذي ينقع فيه، أو الكافيار والعسل الذي يطلى فوقه لدى الأثرياء.

إنه الخبز الذي ينتقد أهل الشمال مدن الجنوب والمتوسّط على الإكثار منه في وجباتهم، حتى قال أحدهم ساخرا: لا شك أن لديهم شطائر خبز محشوة بالخبز.

مازلنا في تونس الملقبة تاريخيا بمطمورة روما وخزانها، نقسم به ونضعه على عيوننا عند طلب اليمين والحلفان، نقبّله ثلاث مرّات بين الشفاه والجبين ثمّ نضعه عند مكان طاهر في الأعلى عندما نجده على قارعة الطريق.

ربما، وبسبب ما تقدم، طلع من بلادنا خبازون مهرة يعدّون عجينتهم كل صباح على أنغام رائعة سيد درويش “الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية”.

وربما، وبسبب كل ما تقدم أيضا، تخلف الخباز التونسي الفائز بالمسابقة عن الحضور لتسلم جائزته، وذلك بعد تعرضه لسيل من تعليقات الكراهية على الفيسبوك، ولكن ذلك لن يفسد من طعم خبزه الآسر.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى