كتب

خوان خوسيه مياس: الغرابة «الحقيقية»

في «قصتي الحقيقية» للكاتب الإسباني خوان خوسيه مياس الصادرة ترجمتها حديثاً عن «منشورات المتوسط» (ترجمة أحمد عبد اللطيف)، يروي الكاتب قصته الحقيقية، لكنه يجعلنا نشك أنها قصته الحقيقية. يجعلنا نتساءل: هل هذا حدث فعلاً؟ خصوصاً أنه يرسم حياته كأنها قادمة من الأدب لأن أباه كان قارئاً، فيشعرنا أنه «أبله» دوستويفسكي وأن ما حدث هو «الجريمة والعقاب»، من دون أن يقرأ الروايتين، فنصدق أننا لسنا سوى سطور في رواية.

يعيش الراوي مع أب قارئ، يقدم برنامجاً عن الكتب على إحدى القنوات، ولم تكن علاقته بابنه قوية، بل كانت الكتب هي التي تشغله عنه. عندها، يقرر المراهق الانتحار من على جسر قرب بيته، لكنه يفشل بعد رؤيته للطريق، فيلتقط بلية ويرمي بها، فتتسبّب في حادث سير مريع. تنجو من الحادثة فتاة اسمها إيريني، يعيش معها هذا المراهق، لاحقاً، علاقة حب. ولكنه أيضاً لا يستطيع أن يهرب من إحساسه بالذنب حول ما حدث، فيخفي السرّ الذي يقوده لاحقاً إلى الكتابة. لكنه يعترف في أكثر من مكان في الرواية، أنه يكتب لأنّ أباه يقرأ، وفي هذا الاعتراف تنفتح الرواية على أسئلة كثيرة حول علاقة القراءة بالكتابة والأب بالابن والحقيقة بالخيال.

في هذه الثنائيات المتداخلة، نعثر على مياس الصحافي والروائي في الوقت نفسه، فها هو يحاول أن يأخذ اللغة الصحافية إلى مكان آخر لتلتقي بالأدب. يحرص صاحب «من الظل» أن يجعلنا نتحسس العلاقة السرية بين الحكاية والرواية. لا يسرد قصة شخصية فحسب، بل يستفزنا لنفكر بأن ما يحدث كانت له جذور في علاقة أبيه بالأدب، أو أن ما حدث هو أكثر من حكاية، هو انعكاس لقصة أبيه. مع ذلك فهي حقيقية ليست لأنها حدثت بالفعل، بل لأن الراوي يشعر بها ويجعلنا نصدقها. الراوي هنا يحاول أن يقترب من سرد الحادثة بواقعية، لكنه يربطها بوالده بطريقة تبدو خيالية. يقول مياس في أحد حواراته، إنّه كاتب من نوع «لماذا لا»، أي أنه يكتب من دون أن يعرف ماذا يحدث في الصفحة المقبلة، وفي كل رواية يكون هناك نوع من التداعي الحر.

ولكن الروائي الإسباني مشغول أيضاً بالغرائبية التي كانت تملأ أعماله السابقة، بخاصة «المرأة المهووسة» التي قيل لمياس في حوار صحافي إنّها رواية غريبة جداً، فكان ردّه: كيف يمكن أن تكون الرواية رواية إن لم تكن غريبة؟ لكنّ إدوارد سعيد يقول إنّها تقع في هذا العالم، ربما لذلك يجب أن تكون غريبة. هنا تأتي غرابة روايات مياس كأنها جزء من هذا الواقع، لا بل هي موجودة لكي تطرح عليه الأسئلة. إنّها جزء من الألفة أيضاً. ففي رواية «المرأة المهووسة»، يسرد مياس عوالم خيالية لفتاة تعمل في النهار كبائعة سمك، بينما تدرس اللغة في المساء. شغف مياس باللغة واضح في هذه الرواية وربما هو أيضاً شغف بالكتابة وعلاقتها بالحياة والوجود.

وفي رواية أخرى بعنوان «من الظل»، يراقب البطل عائلة غريبة من خلال وجوده في الخزانة، ومن ذلك الظل يرى تفاصيل تجعله يكوّن فكرته الخاصة عن العالم. وهذا يضيء لنا تفاصيل كثيرة عن رؤية مياس للتفاصيل الصغيرة التي تطرح أسئلة عن التفاصيل الكبيرة والقضايا الكبيرة. فغرائبية مياس تنبثق من يوميات الحياة البسيطة، ربما يختلف ذلك عن عوالم ساراماغو التي تجنح أيضاً نحو الغرائبية أحياناً، وبخاصة في روايته «العمى» التي يطرح فيها ساراماغو قضايا وجودية وسياسية.

في كتابه «الأدب والغرابة»، يقول الكاتب والناقد المغربي عبد الفتاح كيليطيو: «كل حديث عن الغرابة هو حديث عن الألفة أيضاً». كأننا هنا نعثر على عوالم مياس التي تزاوج بين هذين العالمين حتى لتصبح الغرابة أليفة. في «قصتي الحقيقية»، يبدو أن الواقعية غريبة، خصوصاً أننا نتخيل أن تلك الجريمة التي يقوم بها المراهق بالغلط أنها متخيلة، أو أنه رغم قدومه من عالم الأدب، إلا أنه ينحاز بقوة إلى ما حدث معه في الحياة، متذكراً فقط عناوين الروايات التي لم يقرأها. ويبدو أن الشغف بالكتابة أيضاً، قد قاد الروائي إلى طرح سؤال العلاقة بين الكتابة والحياة الحقيقية وإلى أي حد تستطيع الكتابة أن تكون صورة عن الحياة الحقيقية للأشخاص… وأيضاً علاقة ذلك بالقراءة والكتب، كأن القراءة والكتابة والحياة في علاقة ثلاثية هشة جداً تماماً كما هي العلاقة بين المراهق ووالديه. لا شيء يقع خارج هذه المعادلة التي يضعنا مياس إزاءها وهي النظر إلى الحياة كجزء هام من القراءة والكتابة، كأننا بحاجة أن نقرأها قراءة أخرى وكتابة أخرى.

يقول مياس في الرواية عن القراءة: «أنا هذا الذي لم يقرأ دوستويفسكي، ثمة آخرون بالطبع، كثيرون لم يقرأوا له، لكني الوحيد الذي بقي في حالة عدم قراءته. ومع ذلك قرأته بشكل لا يصدق. لأوضح ذلك، هي حالة تشبه من لم يسافر أبداً إلى باريس، ولهذا السبب بالتحديد، لأنّ قدمه لم تطأ شوارع هذه المدينة الأسطورية، يتمتع بخبرات شديدة الكثافة عنها ويعرف أشياء عنها لا يعرفها حتى من يعرفون المدينة ويعيشون فيها». هكذا يستدعي مياس «قراءة أخرى» للأدب من خلال الحياة الحقيقية والتفاصيل الصغيرة. «قصتي الحقيقية» محاولة لطرح تلك الإشكالية التي ما زلنا نتأملها من دون أي إجابة جاهزة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى