الإدارة والفساد في المؤسّسات العامّة

تتميّز الأنظمة الإدارية بتعدّد طرائقها وآليّات عملها وفق المدارس التي ينتمي إليها أصحاب القرار فيها. وعليه، لا نستطيع القول إنّ الإدارة العربيّة تشكّل مدرسة واحدة، من حيث مرجعيّتها وطُرق عملها، على الرّغم من أنّها تعتمد في تكوين المجتمع المُستهدَف والعاملين في الجهاز الإداري على القِيم الاجتماعية السائدة في المجتمع العربي، من حيث الصدق والوفاء والالتزام بالوعود والمساعدة الاجتماعيّة، مع اختلافٍ في مستوى التطبيق وفق اختلاف الأنظمة النافذة، ووفق أصولها المُستمَّدة من أنظمة الدّول الغربيّة المُستعمِرة سابقاً أو المؤثِّرة، من إنكليزيّة أو فرنسيّة أو إيطاليّة أو إسبانيّة وفق الحال.

مع بداية عهود الاستقلال، وتطوّر الأنظمة الإدارية العالمية، وازدياد الارتباط بالنّظام العالمي وضرورته في الميادين المختلفة، تجارياً ومالياً، ولاسيّما في الميدان المَصرفيّ، باتت أهمّية التطوير كبيرة لتأمين أكبر قدر من التعامل مع المؤسّسات العالمية ضماناً للمُشاركة المصلحية، بما في ذلك الحصول على المعونات الفنّية والمساعدات، فضلاً عن مواجهة الإشكالات التي أدخلتها أجواء انهيار الكثير من القِيم الاجتماعية التي أشرنا إلى بعضها بدايةً، نتيجة تدنّي المستوى المعيشي، وتفشّي أمراض اجتماعية جديدة جاءت في غالبيّتها من الأجواء العالمية، من دون نسيان الطبيعة الإنسانية القابلة للتحوّل السلبي في قبول الفساد في كثير من الأحيان، وبشكل خاصّ في حالات الضعف المُتمثِّلة في الجّشع والأنانية والمحاباة، والبُعد عن الشفافية والمِصداقية.

لئن اعتُمدت البيروقراطية في الأساس كشكلٍ من أشكال التنظيم والحماية ومنْع حدوث المُخالفات، فإنّها، مع تدنّي اعتماد القِيم الاجتماعية الإيجابية، أصبحت أداةً من أدوات الابتزاز متعدّدة المراحل والأساليب، يستفيد منها جميع أصحاب المراتب الوظيفيّة، صغيرة كانت أم كبيرة.
وممّا زاد من أجواء الفساد والرضى به، طبيعة الأنظمة الحاكِمة ذات الصفة الشمولية والديكتاتورية، التي اعتمدَت أسلوب توزيع المناصب والمسؤوليات على الأتباع، بغضّ النّظر عن الكفاءة والتراتبية الوظيفية، وعمّا يُرتكَب من فساد وابتزاز. الأمر الذي أوجَد حالةً من الفوضى العامّة، إذ جَعَل العاملين، مهما صغرت مرتبتهم الوظيفيّة، يشعرون بحقّهم بممارسة الابتزاز على الآخرين، وخصوصاً أمام ضغط الحاجة المعيشية، والغلاء، وتخلّي المجتمع عن غالبية قيمِه الاجتماعية.
وعليه، صنَّفت المنظّماتُ الدولية المختصّة غالبيّة الأقطار العربية، الغنيّة منها والفقيرة، من ضمن البلدان النامية التي تتميّز بضُعف الإدارة والفساد، وبتفشّي المحسوبية والرشوة. وفي هذا السياق، كَثُرت الدعوات إلى تنفيذ برامج التطوير الشامل للتخلّص من مظاهر التخلّف، ونَشْر الوعي العامّ وبرامج التأهيل والتدريب، فضلاً عن العمل على تحسين نوعية التعليم التخصّصي والعامّ، وتنويعه، بالاشتراك مع مؤسّسات التنمية الدّولية، وعبر عَقد اتّفاقات تعاون ثنائيّة مع جهات دولية ذات سُمعة جيّدة في التخصّصات المطلوبة، وهو ما يَدخل في ميدان التنمية البشرية التي تحتلّ الإدارة فيها موقعاً مهمّاً. فالتنمية البشرية الشاملة تتكامل مع مفهوم التنمية المُستدامة، والتي تعني التأثير الإيجابي للمحيط الاجتماعي في المحيط الحيوي، والمقصود هنا بالمحيط الاجتماعي، مجموعة العقائد والعادات والتشريعات التي تُحدِّد تعاطي الفرد مع حاجيّاته، من سلع وخدمات، وطريقة تعاطيه أو تعامله مع الإدارات وأنظمتها.
أمّا المحيط الحيوي، فيتألّف من عناصر أساسية تُشكِّل البيئة المحيطة وهي، الأرض، والماء، والهواء، ويتطلَّب مراعاة المُحافظة على سلامة البيئة وترشيد الاستهلاك من خلال الاستهلاك الرشيد للموارِد النّباتية والحيوانيّة والمائيّة، وإيجاد طُرق آمنة للتخلّص من النفايات والملوِّثات، وحماية منابع المياه والبِحار من التلوّث.

أهمّية التطوير الإداري في العمليّة التنمويّة
يشكِّل توفير المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي عصب العملية التنموية، بحيث لا يكفي بناء المصانع واستيراد لوازم التشغيل وغيرها من عناصر البنية التحتية، ذلك أنّ التنمية عملية مُتكاملة، مادّياً ومعنوياً واقتصادياً واجتماعياً وتربوياً وتأهيليّاً. في حين تواجِه خطط التنمية الاقتصادية في مجتمعاتنا الكثير من المصاعب، نتيجة عدم تكامُل التنمية الاقتصادية مع التنمية الاجتماعية، فضلاً عن استمرار تخلّف التنمية الإدارية، بسبب جمودها، وسيطَرة المتنفّذين والمُنتفعين على القرار.
يعدّ الفساد من أهمّ العوامل التي تواجه العملية التنموية، فآثاره تميل إلى أن تكون أخطر وأعمّ من كل ماعداها من إشكالات، وإذا كان الكثير من الباحثين يشدّدون على الجانب الاقتصادي كأبرز اسباب الفساد، إلّا أنّ هذا التشديد على هذا الجانب فقط لم يستطع أن يُخفِّف من الأسباب المؤثِّرة الأخرى السياسية منها والاجتماعية والتي يمكن اعتبارها من العوامل التي لا تقلّ أهمّية عن الجانب الأوّل.

مشكلة تعريف الفساد

لا شكّ أنّ تعريفاً جامعاً لظاهرة الفساد، يُعدّ مُهمّة غير يسيرة، وذلك نتيجة الطبيعة المُعقَّدة لهذه الظاهرة، على حدّ تعبير د. كمال الوصّال في دراسته عن الفساد وآثاره الاقتصادية (راجع كتابه: الفساد دراسة في الأسباب والآثار الاقتصادية، عالم الفِكر 2 -10-2009، الكويت). فهو يورِد تعاريف متعدّدة لباحثين من أصول مُتباينة، بدءاً من أرسطو. وعلى الرّغم من الجهد الكبير الذي بذله في هذا الصدد، إلّا أنّه لا يُقدِّم تعريفاً لباحث عربي واحد، ولا يعرض في دراسته الأكاديمية أيّ وجهة نظر عربية في موضوع الفساد وأسباب انتشاره عربياً، بل إنّ جلّ ما قام به د. الوصّال، هو اعتبار الدّول العربية من جملة الدّول المُتخلِّفة.
كما يتركَّز معظم التعريفات الواردة على نموّ الفساد في العلاقات السائدة بين مؤسّسات الدّولة والإدارات الحكومية والقطاع العامّ من جهة، وأفراد المجتمع الطبيعيّين والمعنويّين من جهة أخرى. أمّا أشكال الفساد، فتتراوح بين الرشْوَة والمحسوبية والابتزاز والاختلاس والاحتيال، وتشكيل شلليّة “مافيويّة” تعمل على حَصْر الفساد في إطار دائرة مُغلَقة

أسباب الفساد

أدّى انخفاض كفاءة الجهاز الإداري، إلى سيادة البيروقراطيّة والروتين الإداري، وذلك تمويهاً لتدنّي مستوى النزاهة لدى العاملين، أكانوا رؤساء أم عاملين عاديّين. بحيث تدنّى تبنّي القِيم المجتمعية الأصيلة لدى المجتمع المُحيط، في ظلّ غياب الديمقراطية، وقمْع الحرّية الإعلامية، وطَمْس الشفافية لاعتبارات أمنيّة. كلّ ذلك، شكّل حالة تساعد على نموّ الفساد وتغلْغله في جميع نواحي الحياة الإدارية ومؤسّساتها. وهو ما يؤكّد على أنّ مكافحة الفساد تتطلَّب فَهماً عميقاً لأبعاد هذه الظاهرة وعواملها، وبناء خطّة مُتكاملة، تأخذ في اعتبارها الجوانب الاجتماعية والسياسية للمجتمع المَعنيّ، فضلاً عن الجانب الاقتصادي، وبما يشكِّل الدعامة الأساسيّة لفهم طبيعة هذا المجتمع فهماً واقعيّاً، يُحيط بقِيمه وعاداته، لتكون الغايات التي تمّ التخطيط لها مُلائِمة لمستلزمات الوضع القائم نتيجة دراسة علمية مُتكاملة، تَجمَع بين تنمية القوى العامِلة وتوسيع القُدرات الإنتاجية للناس وتنويعها؛ وهو الأمر الذي يؤدّي إلى زيادة إنتاجية العمل الاجتماعي وتحسينه أيضاً، وإلى تطوير قِيمه وعاداته.
ولا بدّ من الإشارة إلى أهمّية أن تكون الخطّة طويلة المدى، بحيث يتطلَّب ذلك ترشيد التسيير الإداري للمؤسّسات، وكسب ثقة العاملين في إطارٍ من الشفافية التامّة، بحيث يكون بمقدور العامل اتّخاذ إجراءات سريعة، وتنشيط العمل الاجتماعي الإنتاجي بشكلٍ يجعله مُحرِّكاً لباقي النشاطات.

*أستاذ جامعي سوري
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى