دور الدين في إعادة بناء دولة سوريا: دراسة حالة الإسلام السني

ترجمة يسرى مرعي

تُرجِمت المادة بعد الحصول على موافقة مؤلفها “دينيس دراغوفيتش” وهو محاضر بجامعة ملبورن بأستراليا ويعمل كخبيرٍ في التنمية الدولية لصالح وكالات الأمم المتحدة، كما يعمل مع منظمات غير حكومية دولية بمواضيع بيئات النزاع وما بعد النزاع في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا. وهو حاصل على شهادة دكتوراه في اللاهوت السياسي من جامعة سانت أندروز ومؤلف كتاب “الدين وبناء الدولة في مرحلة ما بعد النزاع: منظور كاثوليكي وإسلامي سني“…

لقد أودت الحرب الأهلية السورية بأرواح ما يزيد عن 300 ألف شخص، ودمرت التراث القديم، وفتكت بالبنية التحتية. بيد أنه في الوقت المناسب سينتهي النزاع، وسيعود الناس ببطء إلى منازلهم، وسيسعى القادة المدنيون إلى التسوية بصورة أولية، في حين سيكون مُتوقّعاً من المجتمع الدولي أن يلعب دوراً قيادياً في المهمة الهشة للغاية المتمثلة في إعادة إعمار الدولة، في عملية تُعرف باسم إعادة تشكيل الدولة. واحد من أقل الدروس المُعترف بها من حالات بناء الدولة في مرحلة ما بعد النزاع في الفترة الأخيرة هو أهمية التعامل مع المؤسسات الدينية المحلية التي تمثل جهات فاعلة قوية تتمتع بشرعية وموارد ضخمة يمكن حشدها لدعم جهود كهذه.

يقدم هذا المقال إطاراً نظرياً للتأمل ضمنه في دور الدين في سوريا في مرحلة ما بعد النزاع. تبدأ الدراسة بلمحة عامة موجزة عن مؤسسات سوريا الدينية السنية المحلية التي عمرها قرون، قبل أن تنظر في القدرة الكامنة لهذه المؤسسات على لعب دور في أي عملية إعادة بناء للدولة السورية في المستقبل.

وبناء الدولة هو بناء جديد نسبياً ينبغي تمييزه عن بناء السلام. ولقد ارتكزت على تعريف ل تشيسترمان (Chesterman) (2004،5)، الذي يصف بناء الدولة بأنه “مشاركة موسّعة من قبل جهات فاعلة دولية ووطنية تتجاوز الولايات التقليدية لبناء السلام وحفظ السلام موجّهة إلى إعمار أو إعادة إعمار مؤسسات حكم قادرة على تأمين الأمن الاقتصادي المادي للمواطنين. في المساعي الأخيرة لبناء الدولة، كان التعامل الدولي مع القادة الدينيين يتم بشكل واسع بطريقة مرتجلة. فالميل الشخصي للقائد العسكري أو الدبلوماسي أو اختصاصي التنمية هو ما سيحدد إن كانوا سيتواصلون مع الزعماء الدينيين أو يهمشونهم بدل ذلك. وفي الحالات النادرة التي تحوّل فيها التعامل إلى سياسة أوسع، فقد جرى ذلك بطريقة تضفي الطابع الأدواتي على الدين فتستغله كأداة، مما أدى إلى تحالف قصير الأجل من دون فهم استراتيجي أوسع للمكافآت والمخاطر المحتملة (Thompson 2011).

وتنظر هذه المقالة، متعمّدةً، في قسم صغير فقط من المشهد الديني المتنوع داخل سوريا. فهي تعترف بالدور المتغير بصورة مستمرة للدين في النزاع، بيد أنها ترتكز على وجهة نظر مفادها أن المؤسسات الدينية المحلية التي عمرها قرون، والتي تمكنت من النجاة خلال حروب كبيرة وقمع ممتد، هي متأصلة في المجتمع السوري وستستمر بلعب دور في مستقبل البلد.

يمكن أن يساعد فهم طبيعتها على فهم دورها المُحتمل. وبالتالي تتأمل الدراسة بصورة أوسع في الدور المحتمل لكامل مجموعة الفاعلين الدينيين في إعادة بناء البلد بعد انتهاء الحرب.

الدين والعوامل الحاسمة لبناء دولة ناجح:

يقترح بعض علماء العلاقات الدولية والدين أن عودة الدين إلى المجال السياسي هو نتيجة لعدم الرضا عن “الدولة العلمانية ما بعد الكولونيالية” (Thomas 1999) و”خيبة الأمل من الحداثة” (Thomas 2005). ويميل الدين، في هذه النماذج، إلى أن يكون حافزاً لرد الفعل بدلاً من أن يكون عنصراً مبادراً. بيد أنه ماذا إن قلبنا الموائد، إن جاز التعبير، ونظرنا إلى الدين على أن له مصلحة محققة في ناتج بناء دولة معين، وعلى أن له طموحات دنيوية لإنشاء بنى معينة تلتزم بتعاليمه وتسهم في تحقيق أهدافه. وإن كان الحال كذلك، فكيف يمكن للمؤسسات وللفاعلين الدينيين أن يؤثروا، بطريقة غير عنيفة، على الشكل الذي تتخذه الدولة الجديدة؟.

يبدأ تقييم دور المؤسسات الدينية من خلال فهم العوامل الحاسمة للنجاح في بناء الدولة في مرحلة ما بعد النزاع، ألا وهي، الشرعية، والأمن، وتوفير الاحتياجات الأساسية (Dragovic2015). ومن أجل أن تكون السلطة شرعية فإنه من الأهمية أن يحصل أولئك الذين في السلطة على مناصبهم من خلال وسائل تُعتبر شرعية وأن يمارسوا سلطتهم بطريقة شرعية. كما يمكن للأجسام الأخرى ضمن الدولة أن تعزز أو تقوّض مفهوم شرعية السلطة. إضافة إلى ذلك، فإن الأجسام الأخرى هذه، بما فيها المؤسسات الدينية، تحدد الإجراءات التي تُعتبر الأفعال شرعية بموجبها.

يُوفّر الأمن إلى حد كبير من خلال إنشاء قوة شرطة فعالة. بيد أنه خلال فترات ما بعد النزاع ولا سيما في تلك البلاد حيث لا زالت قوة الشرطة قيد إعادة التشكيل، فإن ترسيخ الأمن يمكن أن يكون دوراً هاماً من الممكن أن تضطلع به الجهات الفاعلة المحلية. وفي حين أن الميليشيات القبلية هي الأكثر شيوعاً، فإن الأشكال الأخرى تتضمن مجموعات تتوسط في المنازعات، أو أولئك من بنوا رأس مال اجتماعي يقوّي الروابط التي تربط مجتمعاً ما، وأولئك الذين يدرّسون معايير مدنية إيجابية. ويمكن للمؤسسات الدينية أن تلعب دوراً في كل مجال. في بعض البلاد مثل اليمن والصومال، يُعتبر الزعماء الدينيون بمثابة وسطاء مهمين يحلون محل دور المحاكم (Mantzikos 2008)، أو كما في اثيوبيا حيث يحلّون مكانها باعتبار أن الأغراض التي تخدمها المحاكم الدينية يمكن أن تتجاوز تلك التي يمكن لمحاكم الدولة تقديمها (Zeleke 2010). كما أن المؤسسات الدينية قادرة أيضاً على تقوية رأس المال الاجتماعي. ففي البلدان المتجانسة دينياً، أو تلك التي يقوم فيها تقسيم النزاع على أسس أخرى غير الطائفية، يمكن للزعماء الدينين أن يسدّوا الفجوات بين الانقسامات وأن يربطوا المجتمعات، وهذا يستطيع بدوره أن يقلّص معدلات الجريمة وغيرها من الاضطرابات الاجتماعية. وأخيراً، يمكن للمؤسسات الدينية أن تنشر رسائل حول الانسجام والمسؤولية المدنية من المنبر بصورة اسبوعية إضافة إلى شبكة اتصالات ونشر قد تكون واسعة النطاق.

أما توفير الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك الطعام، وإمكانية الحصول على خدمات صرف صحي ومياه نظيفة، ومأوى، ورعاية صحية، هو العامل الحاسم الثالث والأخير لبناء دولة ناجح. وفي معظم الظروف، يكون توفير هذه السلع والخدمات بقيادة قوى السوق إلى حد كبير، بيد أنه خلال مرحلة بناء الدولة في فترة ما بعد النزاع يتوقع الناس من حكومتهم أن تؤمن دعماً لإنقاذ الحياة. وهذا التوقع من قبل الناس قد يشير إلى أن مسؤولية توفير الاحتياجات الأساسية ينبغي أن تقع على عاتق الحكومة وإلا سيكون هناك عجز في الشرعية يُضعِف من عملية بناء الدولة. وفي حين أن هناك جزء من الحقيقة في هذا، فإن الهدف الملح للنجاح هو توفير الاحتياجات الأساسية. وعلى هذا النحو، فإن سلطات جديدة يمكن أن تسهّل، بدلاً من أن تقود، توفير السلع الأساسية والعمل باتجاه دمج الخدمات في هياكل الدولة، بيد أنه لا ينبغي عليهم عرقلة مزودي الطرف الثالث من توفير إغاثة فورية. وفي هذه الحالة، يمكن للمؤسسات الدينية أن تلعب دوراً كبيراً في توفير خدمات إنسانية في بيئة ما بعد النزاع بطريقة تسهم في شرعية الدولة.

الإسلام السنّي في سوريا

سوريا بلد متعدد الديانات بمجموعة متنوعة من المعتقدات الدينية. ويُقدّر نسبة السنة ب 74% من تعداد سكّان سوريا؛ بينما يُشكّل العلويون، والاسماعيلون، والشيعة ما يقدّر ب 13%، أما المسيحيون فيقدّرون ب 10% (وذلك يشمل الارثوذوكس، والموحدون والنسطوريون)، إضافة إلى الدروز بنسبة تقدّر ب 3%. وعلى الرغم من أن انتفاضة عام 2011 والحرب الأهلية التي أعقبتها جلبت الدين إلى الصدارة في سوريا من خلال بروز الدولة الإسلامية وغيرها من المجموعات السلفية-الجهادية، إلا أن الدين تاريخياً كان قوة ثقافية مهمة في المجتمع السوري (Pinto 2011,189-205). وفي داخل المجتمع السني في عام 2010، وقبل الربيع العربي، كان ثلاثة من الكتب الخمسة الأكثر مبيعاً في سوريا مكتوبة من قبل علماء دين، وهي حالة انعكست على شبكة الانترنت من خلال كون أكثر المواقع الالكترونية شعبية ذاك الذي يديره استاذ أصول الدين الإسلامي في جامعة دمشق ، راتب النابلسي (عمل أستاذاً لمادة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين في جامعة الأزهر فرع الفتح الإسلامي في دمشق ، وأستاذاً لمادة العقيدة الإسلامية بجامعة ام درمان فرع مجمع أبي النور في دمشق، وأستاذاً لأصول التربية في جامعة طرابلس الإسلامية/المترجمة) (Pierret 2012,93). وفي عام 2012، حصل الشيخ راتب النابلسي على أكثر من 54 ألف إعجاب على صفحته على الفيسبوك (Hussein 2012). وخلال انتفاضة عام 2011، نما الزخم ضد النظام في الجوامع وخلال الجنازات، فهي الأماكن والأوقات التي سُمِح فيها للناس بالتجمع في مجموعات(Qureshi2012,60).

كان لدور الدين في المجتمع السوري تاريخاً صاخباً خلال نصف القرن الماضي. وبوصفها مركزاً للتحصيل المعرفي السني منذ الخلافة الأموية (661-750 م) مع سلالة مؤثرة من العلماء بما فيهم ابن تيمية، وعبد الغني المقدسي وعبد القادر الجيلاني، فقد تشكّل الإسلام في سوريا تاريخياً من خلال السلطة والمسؤولية العائلية بين الأجيال في العلم الإسلامي. كانت العائلات العلمية، التي تمتد أجيالها إلى بضع مئات من السنين، المصدر الأساسي للعلماء الجدد، المؤسسة الدينية. بيد أنه مع الاستقلال، أصبحت مسألة العلاقة بين الدين والدولة مثيرة للخلاف. وفي دستور عام 1950، حددت المسودات الأولى الإسلام كدين دولة، بيد أن المعارضة للغة كهذه كانت شديدة للغاية بحيث أن ما تبقى كان فقط أن الإسلام دين رئيس الجمهورية والمصدر الرئيسي للتشريع (Lefevre 2013b,31). وقد تفاقم هذا التوتر بصعود حزب البعث العلماني إلى السلطة إضافة إلى تزايد الإخوان المسلمين باستمرار. وعُدِّل دستور عام 1973 في ظل حافظ الأسد بإلغاء شرط أن يكون رئيس الدولة مسلماً (حدث ذلك لفترة مؤقتة فقط ثم عاد الدستور إلى حاله السابق/المترجمة). وبحلول عام 1980  كانت التوترات بين وجهتي النظر قد تفاقمت وبلغت ذروتها ب”القانون 49″. فقد أعلن هذا التشريع عن عقوبة الإعدام للإنتساب للإخوان المسلمين، وهو قانون جاء رداً على الجهادية العنيفة المتنامية، والتي جاءت بدورها (أي الجهادية) رداً على العلمانية المتزايدة لنظام الأسد. وفي عام 1982 أمر حافظ الأسد بحملة لفرض النظام على انتفاضة في حماة، موطن قيادة الإخوان المسلمين، والتي أدت بعد ذلك إلى مقتل ما بين 10 آلاف إلى 40 ألف شخص.

اليوم، يبقى الإسلام السني في سوريا مجزءاً. وخلافاً لغيرها من البلدان ذات الأغلبية المسلمة مثل البوسنة والهرسك التي فيها هيئة إسلامية مؤسساتية وتراتبية وموحّدة، أو مصر مع مفتي جمهورية قوي ومؤثر، ففي سوريا المشهد السني مقسّم جغرافياً وثيولوجياً. إذ يوجد جغرافياً مركزين للسلطة الدينية، حلب ودمشق، وهو تقسيم قوي لدرجة أن تسجيلات علماء إحدى المدينتين لا يمكن إيجادها في أسواق الأخرى (Pierret 2012,13). وحتى ضمن هذين المركزين، يوجد تشتت للسلطة. إذ حددت دراسة لبيريه 56 عالماً من الأعلى مكانة في سوريا مما يوحي بتنوع القيادة، والذي يمكن أن يكون قوة تسلط الضوء على شرعية محلية تماماً، ولكنه أيضاً احتمال قيادة فكرية محطمة (Pierret 2012 13).

التشتت الديني هو بين هياكل العلماء التي أُنشِئت خلال الفترة الطويلة من الحكم العثماني وحركة السلفية الإحيائية التي بدأت في أوائل القرن العشرين. فقد تبنت حركة السلفية فكرة التفسير المباشر للقرآن والحديث في السياق المعاصر آنذاك من دون توسط قرون من التقليد العلمي الممثل من قبل العلماء. كما جلب ظهور السلفية أيضاً مسحة إصلاحية سياسية. وفي حين أن الحركة السلفية اليوم مرتبطة بتطرف الدولة الإسلامية، ففي سياق سوريا خلال النصف الأول من القرن العشرين أيّدت هذه الحركة تغييرات ليبرالية بما في ذلك إصلاح دستوري، والديمقراطية والتسامح الديني (Lefevre 2013b, 26-27).

كما أن التشتت الجغرافي واللاهوتي الذي أضعف التأثير الوطني للإسلام السني قد تعرّض لضربة إضافية من خلال تدخّل حزب البعث، الذي تجنّب تاريخياً السماح بدور للدين في شؤون الدولة. وقد أدى صعود حزب البعث في سوريا إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين الشعبية إلى تصاعد التوترات وإلى اشتباكات في نهاية المطاف. وتضمنت تداعيات هذا تضييق الخناق على النشاط الديني. فمُنِعت آخر صحيفة دينية في عام 1963 وآخر مجلة شهرية دينية في عام 1981 (Pierret 2012 14). وبحلول ستينيات القرن الماضي، ازدهرت سيطرة الدولة على المؤسسات الدينية عبر وزارة الأوقاف التي تأسست في عام 1965 وما تلا ذلك من تعيين المفتين وغيرهم من موظفي الجامع ودفع رواتبهم من قبل الحكومة. وانتُخِب مفتي جمهورية شكلياً بتدخل الدولة في عام 1964، بيد أنه خلافاً لبلدان أخرى التي يحمل فيها هذا المنصب سلطة تأويلية أو مُتوقع منه أن يوفر الغطاء القانوني لسياسات الحكومة، ففي سوريا كان منصباً أنيط به البروتوكول والعلاقات العامة (Pierret 2012 76).

المؤسسات الدينية وشرعية الدولة في سوريا

يتطلّب التفكير في كيف يمكن للمؤسسات الدينية الإسهام في الشرعية فهماً حقيقياً للشرعية. يعرِّف ديفيد بيثام في كتابه “اضفاء الشرعية على السلطة”، ثلاثة مناحي للشرعية: الصلاحية القانونية، تسويغ القوانين، والتعبير عن الموافقة. كل واحد من هذه المناحي الثلاثة ينبغي أن يكون موجوداً لتعتبر سلطة دولة شرعية. وبالنسبة لدولة سوريا، سيكون هناك مصادر متعددة تُسهِم في هذه المناحي الثلاثة الهامة، وواحد من هذه المصادر سيكون الدين. وفهم إلى أي درجة المؤسسات الإسلامية السنية وقادتها يمكن أن يسهموا سيساعد على تحديد التأثير الذي يمكن للدين أن يحمله. وسيتوقف ذلك على مكانتها التاريخية في الساحة العامة والروح السياسية للشعب، والموارد المادية للقادة الدينيين، ومستويات ثقتهم، فضلاً عن وصولهم الاجتماعي من بين جملة أمور أخرى. ومن المهم ملاحظة أن هذا لا يعني أن القادة الدينيين سيضيفون شرعية على سلطة جديدة. بل إنه ببساطة يؤكد إن كانت أصوات الإسلام السني ستملك القدرة على التأثير في بناء الدولة عن طريق إضفاء الشرعية على الدولة الجديدة.

وفي سوريا، وبسبب القيادة الدينية المتصدعة المذكورة آنفاً، لا يوجد مؤسسة واحدة يمكنها أن تحكم على شرعية الصعود، رغم أنه حتى في البلدان التي فيها هيئات وحيدة مثل المجتمع الإسلامي في البوسنة والهرسك، قد لا تختار بالضرورة تمرير حكم (Drago’c 2015 114). وكما في حالة الإسلام في يوغوسلافيا السابقة، كذلك الحال بالنسبة لسوريا خلال حكم البعث، إذ هُمِّش العلماء من الساحة السياسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وكنتيجة، تطورت المعرفة الإسلامية في اتجاه آخر، بعيداً عن السياسة مما أدى إلى وضع حيث لا يوجد الأساس العلمي اللازم للنظر في مشروعية السلطة. وقد خلق الافتقار إلى مفكرين اسلاميين سياسيين بارزين فراغاً سياسياً؛ اقترح أحد كبار العلماء الدينيين السوريين أن هذا ما أوجد الفضاء للإسلاميين الراديكاليين، الذين لا يترددون في التعامل مع المسائل السياسية، للاستيلاء على قدر كبير من الأرض خلال الحرب الأهلية (Yaqoubi 2012 50:54).

وكمثال مضاد لوجهة النظر هذه، كان تدخل الشيخ المتنفذ جداً الشيخ سعيد رمضان البوطي (1929-2013)، العميد السابق لكلية الشريعة في جامعة دمشق، الذي شارك بفعالية في الساحة السياسية من خلال، على سبيل المثال، التحذير في الانتفاضات الأولى من أن القيادة مجهولة الهوية للمتظاهرين تُضعِف من أي شرعية يمكن أن تملكها الحركة (Qureshi 2012). وبالتزامن مع ذلك واجه علماء بارزون آخرون هذا الرأي بتبرير ديني ناشئ من الموقف غير الأخلاقي للحكومة، مما يبرر بدوره أفعال المحتجين بوصفها ضد نظام طغاة (Qureshi).

ويوحي الافتقار إلى المعرفة حول الدور الذي لعبته الانقسامات الدينية في شرعية الانتفاضة بأنه من غير المرجح إيجاد أرضية مشتركة كافية للتأثير في الجمهور حين تبرز سلطة جديدة. والأرجح أن يمنح القادة الدينيون اتفاقاً لشرعنة العملية التي يمكن القول أنها بدورها نتاج صحيح من الناحية القانونية. وهذه كانت الحالة في العراق حين أوضح آية الله السيستاني الحاجة لانتخابات الممثلين الذين بدورهم سيكتبون دستوراً سيُطرح لاحقاً للاستفتاء (Arato 2004).

ولكي تُعتبر سلطة ما شرعية فلا يجب عليها مجرد الصعود إلى السلطة من خلال وسائل صحيحة قانونياً، بل أيضاً عندما تستخدم السلطة فينبغي أن تفعل ذلك على نحو عادل تماماً كما قيست مقابل مجموعة من القيم العليا. وسيتوقع المجتمع الدولي أن أي سلطة جديدة في سوريا ستلتزم بالأعراف والقانون الدولي. يستخدم المجتمع الدولي صكوكاً دولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، للحكم ما إذا كانت القوانين عادلة. وبينما هي مهمة للمجتمع الدولي، فإن هذه المستندات من غير المرجح أن تكون من أولويات الشعب السوري، بدلاً من ذلك، وبالنسبة لجزء كبير من السكان فإن المصدر الأساسي لتسويغ القوانين سيكون الإسلام.

يوضح بينتو (Pinto) أن “عملية تأكيد الإسلام كإطار معياري ….للساحة العامة أُنجِزت إلى حد كبير من خلال بداية حكم بشار الأسد” (Pinto 2011 190). بدأت هذه العملية مبكراً في فترة رئاسته في مسعى من أجل ترسيخ حكمه، رغم أن ذلك انقلب فيما بعد قبل الربيع العربي. من خلال عملية تُعرف باسم إعادة تنظيم الإطار، استُخدِم الإسلام كأداة لتقوية شرعيته. ومن أمثلة ذلك تبنيه لعبارة “سوريا الله حاميها”، إلى جانب صور تقواه في التلفاز، وعلى لوحات الإعلانات، وعلى ملصقات السيارات. وكان هذا تحولاً عن منهج والده في إظهار التقوى الدينية فقط خلال الاحتفالات الإسلامية الرئيسية.

مثل هذا الاستخدام للدين كأداة، وإن لم يكن التركيز المباشر لهذه الدراسة، يؤثر في الدور اللاحق الذي قد يؤديه الدين. بمجرد أن فتح بشار الأسد الفضاء داخل الساحة العامة للدين، عزّز وقوّى بعد ذلك دوره بوصفه قوة لإضفاء الشرعية (أو لنزع الشرعية) للسلطات. وبحلول الانتخابات التشريعية في عام 2007، تضمنت جميع القوائم الرئيسية للمرشحين المستقلين في دمشق شخصيات دينية (Pierret and Selvik 2009, 600). وبعبارة أخرى، رفع النظام البعثي العلماني الدينَ علناً ليصبح مصدراً لتسويغ القوانين للمجتمع السوري والآن يستخدم ضده. وبما أن الرأي هذا قد غُرِس في أجيال متعددة فسوف يستمر بالسيطرة بصرف النظر عن نتيجة الحرب.

وكنتيجة لذلك، فإن أولئك العلماء الذين يحظون بأوسع متابعة، وبالتالي أعظم قدرة على تعريف الإسلام، سيملكون التأثير الأكبر في تشكيل القيم العليا للمجتمع، وهذا بدوره يُستخدم للحكم ما إن كانت قوانين النظام الجديد عادلة. وفي هذه الحالة سيكون أولئك الذين تحظى تسجيلاتهم بأعلى نسبة مبيعات في الأسواق، والعلماء السوريون الذين يملكون أعلى متابعة على القنوات الفضائية، أو أولئك الذين لديهم صفحات على الانترنت أكثر زيارة، وليس أولئك الذين يتمتعون بأعلى الدرجات العلمية. وسيكون من الخطأ الافتراض أن وضع العراق حيث الشخصية ذات أعلى الدرجات العلمية، آية الله السيستاني، ستتكرر في سوريا.

من الممكن إظهار تعبير المجتمع عن الموافقة بأن تحكمه سلطة جديدة بطرق مختلفة. أكثر الطرق مباشرة هي الانتخابات الديمقراطية، بيد أنه يمكن أن تستغرق وقتاً طويلاً لتنظيمها ويمكن أن تفضل الأكثريات على حساب الأقليات فتترك الحكومة شرعية في عيون مجموعة وغير شرعية لأخرى. توفر حالة العراق مثالاً إذ انتخبت الأغلبية الشيعية مرشحين شيعة شكّلوا حكومة وبدورهم حرموا الأقلية السنية من حقوقها. وقد خلق هذا الانقسام الديمقراطي شرعية داخل مجتمع واحد، بيد أنه عزز مفهوم عدم الشرعية في مجتمع آخر.

يمكن أن يوفر الدين آلية بديلة للتعبير عن الموافقة على مستوى محلي. وسيتحقق ذلك من خلال العروض العامة للارتباط. فصعود بشار الأسد في أعقاب موت والده يقدم مثالاً عن قادة دينيين صوفيين يُظهرون دعمهم من خلال قيادة مريديهم في مواكب عبر الشوارع حداداً على موت حافظ الأسد بينما يعلنون دعمهم لبشار (Pinto2011,190).

بيد أن هناك آراء متباينة للغاية حول ما هو الدور الصحيح للدين في الفضاء السياسي. بالنسبة للبعض فهو الملاذ الأخير لمنع عدم الاستقرار، مثل موقف الشيخ رمضان البوطي، الذي انحاز إلى جانب الحكومة خلال الأيام الأولى من الانتفاضة. وآخرين مثل الأخوين الرفاعي الذين بقيا بعيداً عن السياسة وأملين بتحقيق تغيير سياسي من الأسفل للأعلى. وأخيراً، هناك علماء مثل الصياصنة ورزق أبازيد والشيخ محمد اليعقوبي لعبوا أدواراً فعالة في الانتفاضة (Hussein 2012).

الطبيعة المشتتة للقيادة الدينية، على الأقل في هذه الحالة، هي قوة. فهي تعطي قدرة عالية لحشد المجتمعات المحلية بسبب رسوخها بين الناس. وهذا على الأرجح الآلية الرئيسية التي قد يعبر من خلالها القادة الدينيون عن موافقتهم عن سلطة جديدة في سوريا.

المؤسسات السنية والاستقرار في سوريا

هناك ثلاث آليات يمكن من خلالها للمؤسسات الدينية أن تُسهِم في استقرار بيئات ما بعد النزاع: التحكيم أو الوساطة في الخلافات، وتقوية رأس المال الاجتماعي، ونشر القيم المدنية (Dragovic 2015, 30-43). ومن شأن فهم قدرة المؤسسات السنية ضمن سوريا على لعب أي من هذه الأدوار أو جميعها أن يخبرنا بنوع ومدى المساهمة التي قد تقدمها هذه المجموعات.

لتحقيق الأمن والاستقرار، ينبغي على النظم القانونية أن تبنى على الأسس الموجودة في المجتمع. ويؤكد الدليل الميداني لعمليات تحقيق الاستقرار للجيش الأميركي على هذا من خلال الإشارة إلى أن جهود إعادة البناء ينبغي أن “تبني على الإطار القانوني القائم. وهذا قد يتضمن القانون العام، والقانون المدني، والقوانين الجنائية، والقانون الديني أو التقليدي، فضلاً عن القانون الدولي” (William and Michle 2010,6-91).

 وكما في الأراضي العثمانية السابقة الأخرى، يرتكز الإطار القانوني السوري على نموذج أوروبي للقوانين المدنية بدلاً من القانون العام الانكليزي. نظرياً، القانون المدني أكثر إلزاماً للقضاة بالحدود التي يفرضها المشرعون. وفي الحالات التي لا يقدم فيها التشريع توجيهات فهناك أحكام لاستخدام مصادر أخرى. ينص القانون المدني السوري على أن:

“تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد، فبمقتضى العرف، وإذا لم يوجد، فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة” (Stigall 2014,303).

وفي هذه التراتبية، تأتي الشريعة الإسلامية في المرتبة الثانية مباشرة. وهذا أعلى مرتبة مما يمكن العثور عليه في القوانين المدنية لبلدان أخرى في الشرق الأوسط مثل مصر، والجزائر، والعراق، بيد أنه شُكِّل بشكل مماثل لقانون ليبيا (Stigall 2014). ومع ذلك، ومن الناحية العملية لا توجد حاجة تُذكر، إذ أن القوانين صيغت بهذه الطرق التي تسمح للقاضي بمجال واسع لتطبيق تفسيره في مساحات لم يتنبأ بها المشرِّع.

وحتى لو اعتُمِد هذا الدور، وبافتراض أن القانون المدني السوري يشكّل أساس أي تشريع مستقبلي، فبصيغته الحالية لا يوجد مكان للعلماء الإسلاميين غير الحكوميين أو للمؤسسات الدينية المستقلة لتوفير النصح، كما كانت الحالة في الدستور المصري قصير الأجل لعام 2012 الذي كان فيه مكان لجامعة الأزهر لتفسير المبادئ الإسلامية. وبدلاً من ذلك، فإن الأمر متروك للسلطة القضائية للنظر في حكم في سياق الإسلام…على هذا النحو، وفي سياق سوريا، فليس من المرجح أن يكون هناك دور رسمي ليلعبه العلماء المسلمون ضمن الإطار القانوني.

تحدد المعايير الثقافية والاجتماعية لمجتمع يتشكل من خلال نطاق سلطة الدولة دورَ الوساطة غير الحكومية. فالمناطق أو المجتمعات القبلية حيث لا تحتكر الدولة القوة مهيأة لآليات حل نزاع بديلة. وفي حالة سوريا، كان للدولة قبل الحرب نظام عدالة شامل وفعال. وخلال الحرب، لم تتحول أي منطقة إلى حالة من الفوضى بحيث لم تُطبّق فيها العدالة من قبل سلطة ما. وهذا المزيج يجعل سوريا مكاناً غير مرجح لتلعب فيه المؤسسات الدينية دوراً في الاستقرار من خلال الوساطة أو التحكيم في الخلافات.

بيد أنه مع تقدم الحرب وزيادة التديّن ستكون هناك دعوات متزايدة لفرض الشريعة الإسلامية. 68% من المجموعات المتمردة السورية أُوجِدت من أجل دعم هدف الشريعة الإسلامية (Centre on Religion and Geopolitics 2015). وفي حين أنه لا يمكننا التنبؤ بنوع الهياكل القضائية التي ستُنشِئها حكومة جديدة، فإنه من المحتمل أنه خلال الفترة الانتقالية بين حرب وسلطة دولة قائمة ذات قوة شرطة عاملة، سيشارك القادة الدينيون في تطبيق شكل من أشكال الشريعة الإسلامية.

وتسهم تقوية رأس المال الاجتماعي في استقرار ما بعد النزاع من خلال الحد من الجرائم وتحسين الأمن العام. تُشير الأبحاث إلى أن ما يصل إلى 10% من التغير في معدلات الجريمة يمكن أن يُعزى إلى رأس المال الاجتماعي، وهو مكون جوهري بالنظر إلى المحددات القياسية الأخرى التي تشرح ما يصل فقط إلى نصف التغير (Akcomak and ter Weel 2012, 324). وقد ثبت أن أنواعاً مختلفة من رأس المال الاجتماعي تؤثر في معدلات الجريمة بدرجات متفاوتة. ويمكن أن يؤدي تعزيز المجموعات المرتبطة اجتماعياً إلى زيادة في الجريمة بسبب العوائق التي تحول دون إنفاذ القانون.

وعلى النقيض من ذلك، يمكن لرأس مال تجسيري كسر حواجز (Beyerlein and Hipp 2005). ففي بيئات ما بعد النزاع، يمكن أن يُسهم الدين في رأس مال تجسيري ورابط تبعاً لطبيعة النزاع ونوع الممارسات الدينية لكل معتقد. وفي مجتمعات المعتقد الواحد حيث الدين مكمل لشخصية الجماعة فرأس المال الرابط سيحد من الجريمة، بينما في المجتمعات متعددة المعتقدات المرتبطة من خلال الدين ستستفيد من رأس مال تجسيري.

إن الطبيعة الطائفية للحرب الأهلية المستمرة منذ خمس سنوات (في لحظة كتاب الدراسة/المترجمة) إضافة إلى النزوح الجماعي لنصف سكان البلد قد نتج عنه تجانس أكبر للدين والإثنية، سواء على الصعيد المحلي بسبب النزوح الداخلي، وعلى الصعيد القومي بسبب الهجرة الجماعية للأقليات. وهذا خلق مجموعات محلية مترابطة بمعتقدها أو إثنيتها. في هذه الظروف من المرجح أن يزيد رأس المال الرابط الديني من الجريمة ويمنع إنفاذ قانون الدولة. ومن أجل أن يسهم الدين في الاستقرار من خلال تقوية رأس المال الاجتماعي فسوف يحتاج أن يُنظّم ويُمارس بطريقة تمكنه من بناء رأس المال التجسيري. وبعبارة أخرى، يجب أن يحتوي على خصائص قوية غير مذهبية أو بين الأديان. وهذه ليست حالة الإسلام السني في سوريا. فهناك افتقار إلى الحوار بين الأديان، وإلى التطوع لخدمة الناس المحتاجين من خارج دينهم، وإلى الصلوات الجماعية لكل المسلمين أو إلى المهرجانات المشتركة خلال الأعياد الدينية المشتركة. يمكن أن يُعزى ذلك بصورة جزئية إلى تاريخ من القيود التي فرضها النظام البعثي على المجتمع، إضافة إلى عدم وجود حاجة ملحة للإيصال نظراً إلى وضعهم كأكثرية في المجتمع. وعلى هذا النحو، فإن بناء رأس مال اجتماعي ليس من المرجح أن يكون سبيلاً ليسهم عبره الإسلام السني في بناء الدولة. ينبغي على الفاعلين الدوليين إدراك مخاطر تقوية رأس المال الرابط من خلال دعم برامج غير حكيمة لأجل التعامل مع القادة الدينيين.

إن الوسيلة الأخيرة التي يمكن للمؤسسات الدينية أن تُسهِم من خلالها في الاستقرار هي كونها أداة تُنقل من خلالها القيم المدنية التي تعزّز الاستقرار. يجادل سترومسيث وويبمون وبروكس (Stromseth, Wippman, and Brooks 2006, 310) أن “سيادة القانون هو ثقافة بقدر ما هو مجموعة مؤسسات، بقدر ما هو مسألة عادات، والتزامات، ومعتقدات الناس العاديين بقدر ما هو نصوص قانونية”. في بيئات ما بعد النزاع، من المرجح أن تكون أي ثقافة سيادة قانون قد ضعُفت بشكل كبير وتتطلب إعادة تشكيل. ويمكن أن يُسهم الفاعلون الدينيون في ذلك إن ساند خطابهم تقويته. وفي سوريا، هناك ثلاث آليات رئيسية يمكن من خلالها للقادة الدينيين السُنة التأثير في القيم المدنية.

أولاً، يمكن أن يُسهم الإسلام السني في سوريا في ثقافة سيادة القانون من خلال حركاته التعليمية غير الحكومية. ففي حين شدّد النظام الخناق على حركة الإخوان المسلمين ونشاطاتها الاجتماعية-السياسية طوال عهد النظام البعثي، فقد غض الطرف عن المؤسسات التعليمية الدينية (Pierret 2013, 91). وهذا ما قاد إلى ظهور شبكات مؤثرة تعمل بشكل كبير من المساجد، تنشر جزئياً القيم المدنية المتجذرة في الفكر الإسلامي. القبيسيات، حركة نسائية فقط تعمل من داخل مساجد أيضاً، ويُقال أنها كانت تسيطر على الأقل على نصف المدارس الدينية في دمشق بحلول أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة (Lefevre 2013a). بينما تشير تقديرات أُخرى إلى أن القبيسيات وحركات دينية مماثلة وصلت إلى ما يقارب من 25 إلى 30% من أطفال المرحلة الابتدائية في دمشق (Pierret 2013, 102).

وبشكل مماثل، ارتفع عدد مدارس الشريعة من 35 إلى 129 في غضون السنوات الثلاث التي أفضت إلى عام 2008. وفي حين سيتضرر أو يُهدم العديد، فإن المفهوم لن يكون جديداً ومن المرجح أن يُعاد تأجيجه كنتيجة للتدين المتزايد. ويوفر الانتشار الواسع للمؤسسات التعليمية الدينية المستقلة منصةً قويةً يمكن من خلالها نشر رسائل من قبيل أهمية احترام القانون وقيمة التسامح، أو بدلاً من ذلك، تعزيز الطائفية والانقسام.

ثانياً، علاوة على الهياكل التعليمية غير الرسمية، تُنقل القيم من خلال شخصيات دينية عبر وسائل إعلام مختلفة مثل أشرطة التسجيل التي تُباع في الأسواق، أو إذاعات الراديو، والقنوات الفضائية، والانترنت. وكما ذُكِر آنفاً، فقد هيمن قبل الربيع العربي علماءُ الدين على لائحة الكتب الأفضل مبيعاً وكذلك على صفحات الانترنت الأكثر شعبية. هذا الترسيخ لدور الدين داخل الروح الشعبية يمكن توقع زيادته، كما أشار نوريس وإنغلهارت فإن ذلك يحدث في ظروف يكون فيها الأمن الوجودي مهدّداً (Norris and Inglehart 2004, 5).

وأخيراً، فإن صلاة الجمعة تقليدياً هي منصة مؤثرة يؤثر من خلالها القادة الدينيون في العامة. فقبل الانتفاضة، كانت المرة الوحيدة التي يمكن فيها للسوريين أن يتجمعوا بأعداد غفيرة وبصورة قانونية هي في أثناء صلاة الجمعة، وهو الظرف الذي يُعتقد بأنه خلق مكاناً مركزيأ للانتفاضة في عام 2011 (Khatib, Lefevre, and Qureshi 2012, 60). يُحدّد عدد رجال الدين ومستويات الحضور هذا النوع من المشاركة المباشرة. وفقاً لأحد المصادر كان هناك، قبل الحرب، ما يزيد على 10000 رجل دين يعملون بصورة يومية في سوريا أي يقودون الصلوات إضافة إلى عملهم بصورة أسبوعية فيقودون خطبة الجمعة (Yaqoubi 2012). هذه النسبة تساوي رجل دين واحد لكل 1258 مسلم سني سوري، وهي نسبة عالية نسبياً، مما يدل على على احتمالية دور مؤثر في بيئة ما بعد النزاع.

احتياجات أساسية:

غالباً ما تكون الاحتياجات الأساسية التي تتضمن توفير الغذاء والمأوى والخدمات الصحية، هي أقوى الآليات التي تُسهِم من خلالها المجموعات الدينية في إعادة بناء البلاد بعد الحرب. وهذه هي تحديداً حالة الكنيسة الكاثوليكية. فعبر مؤسسة كاريتاس الدولية الخاصة بها، توجّه الأموال والخبرات إلى جمعية كاريتاس محلية التي توجهها بدورها إلى الأسقفية والأبرشيات لتُوزّع حسب الحاجة. وليست فقط المقدرة على جمع وتحويل كميات كبيرة من الأموال هي ما يجعل كاريتاس مؤثرة، بل القدرة المؤسساتية لجمعيات كاريتاس المحلية على تقديم مساعدة إنسانية بفعالية وكفاءة.

أما داخل المجتمع الإسلامي العالمي، يوجد القليل من المؤسسات المسلمة العابرة للحدود والتي تملك تفويضاً لتوفير مساعدة إنسانية. ومؤسسة آغا خان (امام الشيعة الاسماعيلية) هي واحدة من هذه المؤسسات، والتي توفر مساعدة تنموية وإنسانية بطريقة غير طائفية. وبخلاف ذلك، تُجمع الموارد عبر علاقات فردية ومتبرعين مستقلين من دول مسلمة غنية، مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج، أو مجتمعات الشتات في البلدان الغربية.

وفي سوريا، قبل الانتفاضة، كان القطاع الخيري مفتت كحال القيادة  العلمية، مع عدم وجود مقدمي خدمات اجتماعية دينيين على نطاق واسع. لكن وُجِدت ثقافة العطاء الخيري الخاص، لا سيما بين طبقة التجار الذين سعوا خلف صورة إيجابية ل “الوعي الاجتماعي” الذي كان يُشجّع عبر المثل الدينية المتعلقة بالمساهمة من أجل الصالح العام (Pinto 2011, 189-205)، بيد أن هذا كان محدوداً بالنطاق وبتدخل الدولة. إذ زاد نظام الأسد من الرقابة في العقد الذي سبق الانتفاضة، بما في ذلك، على سبيل المثال في أواخر العقد الأول من القرن الحالي، إجبار رجال الدين العاملين في مجالس الجمعيات الخيرية على الاستقالة في محاولة لإضعاف تأثير العلماء على الرعاية الاجتماعية (Pierret 2013, 100).

ووفقاً لبحث أجراه بيريه وسيلفيك فإن الجمعية الخيرية الإسلامية الوحيدة التي تحظى بقاعدة دعم واسعة هي حركة زيد المتمركزة في دمشق (Pierret and Selvik 2009). وهذه الحركة الصوفية التي أسسها سارية الرفاعي ولّدت دعماً كبيراً من الطبقة المتوسطة للتجار. ولا تكمن قوتها في قدرتها على حشد الموارد فحسب، بل أيضاً  في موظفيها المدربين واللوجستيات القوية. فخلال حرب لبنان في عام 2006 وفّروا 20 ألف وجبة يومية للاجئين الذين فروا إلى سوريا، في حين جمع مشروعها “حفظ النعمة” فائض ملابس وغذاء ودواء، ووزعتهم على الفقراء، ودعمت 6000 أسرة (Pierret and Selvik 2009, 603).

 وبالنظر إلى المستقبل، فقط هذه المجموعات الدينية التي تمتلك قدرة مؤسساتية ومجرّبة في العطاء الخيري ستكون قادرة على الاضطلاع بشكل فعال بدور توفير الاحتياجات الأساسية في أعقاب النزاع. وفي سياق سوريا، فإن هذه المجموعات قليلة جداً ومحدودة. إذ تبدو جماعة زيد فقط  مستوفية لجميع المعايير. وكيف ستخرج من النزاع هو ما سيحدد إن كانت تملك القدرة على لعب دور ريادي في الاستجابة للاحتياجات الأساسية للشعب.

خاتمة

في بيئات ما بعد النزاع، يمكن للقادة الدينيين ومؤسساتهم أن يلعبوا دوراً مهماً في عملية بناء الدولة. بشرعيتهم، ومستوياتهم العالية من الثقة، وسردياتهم الأخلاقية، وغالباً بمواردهم المادية (material) والبشرية الواسعة، فيمكن للمؤسسات الدينية أن تكون إما حلفاء أقوياء أو أعداء أشداء للجهود الدولية لإعادة بناء الدول. لقد فحصت هذه المقالة الحالة الخاصة بسوريا من خلال عيون نموذج طوره كاتب الدراسة لتقييم قدرة مجموعة دينية معينة، الإسلام السني، وليس لتقييم رغبتها، للإسهام في إعادة بناء الدولة السورية بعد استقرار الأمن. وهي تجادل بأنه من أجل حدوث إعادة بناء ناجح فينبغي على الفاعلين الدوليين فهم قدرات ومسؤوليات المشاركة الدينية.

وبمقارنة خصائص المؤسسات الدينية داخل سوريا بعناصر النظام الأساسي لبناء الدولة الناجح -وأعني الشرعية والاستقرار والاحتياجات الأساسية- فيمكننا إدراك الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه المؤسسات. وبالاستناد إلى تعريف ديفيد بيثام للشرعية فقد نظرت هذه الدراسة في قابلية المؤسسات الإسلامية السنية على توفير الصلاحية القانونية، وتسويغ القوانين، والتعبير عن الموافقة التي تتطلبها سلطة لتُعتبر شرعية. كما جادلت هذه الدراسة بأن الطبيعة المجزأة لبنى القيادة للإسلام السني تمنعها من توفير صوت قوي حول الصلاحية القانونية لسلطة، وأن ضمنية الإسلام في الروح العامة يوفر مصدراً قوياً لتسويغٍ القوانين، وأخيراً أن الطبيعة المشتتة للقيادة هي قوة محتملة في حشد أشكال التعبير عن الموافقة. وهذا يوفر نتاجاً مختلطاً بمستوى متوسط من القدرة على الإسهام في إضفاء الشرعية على سلطة.

تُحدد قدرة المؤسسات الإسلامية السنية على الإسهام في الاستقرار عبر مشاركتها في الفصل بين الخلافات، وبناء رأسمال اجتماعي ونشر قيم مدنية. وبما أنه ليس هناك تقليد متمثل بالمشاركة الدينية في حل الخلافات، والإسلام السني الذي يُمارس لا يُفضي إلى بناء رأسمال تجسيري، فهذا يشير إلى أن لا حسم المنازعات ولا بناء رأس مال اجتماعي هي وسائل محتملة يمكن من خلالها للقادة الدينيين السنيين الإسهام في الاستقرار. بيد أن العدد الكبير من رجال الدين وشعبيتهم وشبكة واسعة من المؤسسات التعليمية يجعل منهم قوة جبارة مُحتَملة لنشر القيم المدنية. يشير هذا عموماً إلى أن المساهمات الدينية في الاستقرار من المرجح أن تكون منخفضة أو متوسطة.

أما العنصر الأخير في بناء الدولة الناجح هو أهمية توفير الاحتياجات الأساسية. وفي سوريا، لا تقوم المنظمات الخيرية المرتبطة بالمؤسسات الدينية بدور بارز، إذ أنها لا تملك قدرة لوجستية واسعة، كما لا تملك إمكانية الوصول إلى موارد دولية. وكنتيجة لذلك، فإن قدرة المؤسسات الدينية السنية على لعب دور جوهري في توفير الاحتياجات الأساسية منخفض.

وبصورة عامة، قد يشير هذا إلى أن المؤسسات الدينية قد تكون قادرة على الإسهام في بناء الدولة، لكن فقط عبر آليات محددة وبصورة أكثر قوة بوصفها مصادر لتشريع سلطة ونشر القيم المدنية. وحتى حين نفهم العمليات التي يمكن من خلالها للمؤسسات الدينية الإسهام في بناء الدولة يبقى السؤال المطروح هو ما إذا كانت ستقوم بذلك. يفترض الرأي الشائع أن المؤسسات الدينية تطمح لذات الأهداف التي ينشدها الفاعلون الدوليون-السلام والازدهار في المقام الأول- وهو موقف قاد إلى احتواء الدين للوفاء بأهداف عابرة لمنظمة دولية أو عسكرية أجنبية. بدلاً من ذلك، ينبغي أن يتضمن أي جهد للتعامل مع المؤسسات الدينية في جهود بناء الدولة فهماً للكيفية التي يمكن بها للدولة أن تساعد في تحقيق ما يعتبرونه إرادة الله. وبعبارة أخرى، ما هو الغرض الذي تخدمه الدولة في أصول الدين؟ وأخذ هذا السؤال بعين الاعتبار هو الخطوة التالية المطلوبة قبل أن ينظر الفاعلون الدوليون في التعامل مع المؤسسات السنية.

حواشي الترجمة:

*رأس المال الرابط يجمع بين الأشخاص من ذوي الخلفيات المتشابهة وتكون عادة الروابط بينهم قوية وموجهة إلى الداخل، وغالباً لا تنعكس خارج المجموعة قيم التسامح والتعاون والتضامن والأخلاق والثقة ومبدأ التعاون. أما رأس المال التجسيري فيجمع بين الأشخاص من ذوي الخلفيات المختلفة وعادة تكون الروابط أضعف وموجهة إلى الخارج ويقوي التعاون والثقة خارجها وليس داخلها فحسب…

المراجع:

Akcomak, I. S., and B. ter Weel. 2012. “The Impact of Social Capital on Crime: Evidence From the Netherlands.” Regional Science and

Urban Economics 42: 323–340.

Arato, A. 2004. “Sistani v. Bush: Constitutional Politics in Iraq.” Constellations 11: 174–192.

Beyerlein, K., and J. R. Hipp. 2005. “Social Capital, Too Much of a Good Thing? American Religious Traditions and Community Crime.”

Social Forces 84: 995–1013.

Centre on Religion and Geopolitics. 2015. If the Castle Falls: Ideology and Objectives of the Syrian Rebellion. London: Tony Blair Faith

Foundation.

Chesterman, S. 2004. You, the People: The United Nations, Transitional Administration, and State-building. Oxford: Oxford University Press.

Dragovic, D. 2015. Religion and Post-conflict Statebuilding: Roman Catholic and Sunni Islamic Perspectives. Basingstoke: Palgrave

Macmillan.

Hussein, T. 2012. “The Vital Role of the ‘Ulama’ in Post-Assad Syria.” New Statesman, August 9.

Khatib, L., R. Lefevre, and J. Qureshi. 2012. State and Islam in Baathist Syria: Confrontation or Co-optation? Fife: University of St Andrews

Centre for Syrian Studies.

Lefevre, R. 2013a. “The Rise of the Syrian Sisterhood.” Sada: Middle East Analysis [Online]. Accessed March 23, 2017. http://

carnegieendowment.org/sada/2013/04/25/rise-of-syrian-sisterhood/g187.

Lefevre, R. L. 2013b. Ashes of Hama: The Muslim Brotherhood in Syria. New York: Oxford University Press.

Mantzikos, I. 2008. “An African Version of the Taliban? The Islamic Courts Union in Somalia (2006) and the Taliban Afghanistan (1996).”

Comparative Islamic Studies 4: 113–129.

Norris, P., and R. Inglehart. 2004. Sacred and Secular: Religion and Politics Worldwide. Cambridge: Cambridge University Press.

Pierret, T. 2012. Religion and State in Syria: The Sunni Ulema under the Ba’th. New York: Cambridge University Press.

Pierret, T. 2013. “The State Management of Religion in Syria: The End of ‘Indirect Rule’?” In Middle East Authoritarianisms: Governance,

Contestation, and Regime Resilience in Syria and Iran, edited by S. Heydemann and R. Leenders, 83–106. Stanford: Stanford

University Press.

Pierret, T., and K. Selvik. 2009. Limits of “Authoritarian Upgrading” in Syria: Private Welfare, Islamic Charities, and the Rise of the Zayd

Movement. Cambridge: Cambridge University Press.

Pinto, P. G. 2011. “‘Oh Syria, God Protects You’: Islam as Cultural Idiom Under Bashar al-Asad.” Middle East Critique 20: 189–205.

Qureshi, J. 2012. “The Discourses of the Damascene Sunni ‘Ulama During the 2011 Revolution.” State and Islam in Baathist Syria:

Confrontation or Co-optation? Fife: University of St Andrews Centre for Syrian Studies.

Shaykh Sayyid Muhammad al-Yaqoubi on Syria’s Bloody Road to Democracy. 2012. Directed by Yaqoubi, S. London: Royal United Services

Institute.

Stigall, D. E. 2014. “The Civil Codes of Libya and Syria: Hybridity, Durability, and Post-Revolution Viability in the Aftermath of the Arab

Spring.” Emory International Law Review 28: 283–343.

Stromseth, J. E., D. Wippman, and R. Brooks. 2006. Can Might Make Rights?: Building the Rule of Law after Military Interventions.

Cambridge: Cambridge University Press.

Thomas, S. 1999. “The Global Resurgence of Religion, International Law and International Society.” In Religion and International Law,

edited by M. Janis and C. Evans, 321–338. The Hague: Kluwer Law International.

Thomas, S. 2005. The Global Resurgence of Religion and the Transformation of International Relations: The Struggle for the Soul of the

Twenty-first Century. New York: Palgrave Macmillan.

Thompson, A. 2011. “Religious Leader Engagement in Southern Afghanistan.” Joint Force Quarterly 63: 95–101.

William, B. C. I. V., and F. Michle. 2010. The U.S. Army Stability Operations Field Manual: U.S. Army Field Manual No. 3-07. Ann Arbor:

University of Michigan Press.

Zeleke, M. 2010. “Ye Shakoch Chilot (the Court of the Sheikhs): A Traditional Institution of Conflict Resolution in Oromiya Zone of Amhara

Regional State, Ethiopia.” African Journal on Conflict Resolution 10: 63–84.

موقع جسور الألكتروني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى