شرفات

ذلك السر، وأمي تلفظ أنفاسها الأخيرة !

أرسمكِ يا أمي على صفحةِ يدي المفتوحة الآن كلوحةٍ باكيةٍ أمامي، أستعيدُ من خلالها كلَّ شيء، كلَّ شيء.

يتراءى وجهكِ كقديسةٍ بدأ النور ينطفئ من عينيها. عرفتْ أن اللحظة الأخيرة قد حانت، وعليها أن تحكي، ولكن كيف تحكي وهي التي أضنتني بخرسها الذي استمرَّ شهوراً ، وكأنها تحتج عليّ، فقررتْ الصيام عن الطعام والكلام، وأنا الوحيدُ في هذا العالم الذي كان وقتها بحاجة إلى حديث أمه وطعامها ومسحة يد حانية على الرأس عند الصباح!

ثلاثون عاماً بالساعة والدقيقة مرّت على تلك اللحظة، في كلِّ سنةٍ وفي مثل هذا الموعد، تظهرُ الصورة أمامي، أذكرُها لأنها تصادفُ يومَ السادس من تشرين، ذكرى الحرب المعروفة، وفي تلك السنة لفظتْ أمي أنفاسَها وأغمضتْ عينيها تريد أن تخبرني أن هذا العالم انتهى بالنسبة إليها..

يا لحزني الكبير على تلك اللحظة !

جاءني رجلٌ غريب في سيارة بيضاء، وكنا نتناول طعام الغداء، وظننته مدعوّا من أخوتي الذين يحتفون بي بعد أن عدت من غيابٍ طويلٍ ، فتناول الغداء معنا كضيف كريم، ثم أخبرني أنه يعرفني منذ سنوات طويلة ، وذكّرني بنفسه، فعرفتُه ، لكني لم أتوقع أنه جاء يطلب مالاً قديماً في ذمة أبي .

رحبت بسداد الدين ، وسألته :

ــ مضى على وفاة أبي أكثر من عشر سنوات ، وتأتي لتطالبني  بالمال ، فأهلا بك، ولكن هل يمكن لي أن أقسط لك المبلغ على ستة أشهر؟

وافق الرجل الغريب، وصار يأتي كل شهر ليأخذ القسط الذي اتفقنا عليه. يأخذه ، ويمضي بصمت ، مع ابتسامة باهتة !

في آخر مرة، جاء في الموعد المحدد، في السادس من تشرين قبل ثلاثين عاماً. طرق الباب ، ففتحته ، ورحبت به :

ــ تفضل .

ــ لا ، أريد أن أمشي.

أخرجتُ آخرَ قسطٍ من جيبي ودفعته له ، فنظر إلي وقال :

ــ جزاك الله خيرا ً .

ولم يمش . ظل واقفاً، ثم همس لي :

ــ لم يعد لي شيء في هذا البيت . كلّ شيء أخذته !

ومضى. ركب سيارته البيضاء، ومضى بسرعة البرق وأنا أرقب مغادرته السريعة. جاء صوت أخي طارق من داخل البيت :

ــ أمك تناديك .

ركضت مدهوشاً. هل نطقت أمي .

ركض أخي. ركضنا معاً. الإرباك في حركاتنا . ابتسمتْ أمي . قالت :

ــ أنا عطشانة !

قدمنا لها الماء ، فشربت وراحت تحتضر.

همست بأذنها كلمتين :

ــ قولي يا ألله .

قالت يا ألله . وأغمضتْ عينيها ورأسُها يستند إلى يدي ، ثم همدتْ. أحسست أنه الموت . سارعت إلى السماعة الطبية الموجودة إلى جانبها، وضعتها ، لم أسمع صوت النبض، سمعت صوت دحرجة الماء إلى جوفها ، عرفت أن الماء هو آخر ما أخذته من الحياة . فرفعت الغطاء على وجهها ، وهمست لأخي دامع العينين :

ــ ارتاحتْ منا ومن هذا العالم !

أرسمها على صفحةِ يدي المفتوحة الآن كلوحةٍ باكيةٍ أمامي. أستعيدُ من خلالها كلَّ شيء..

يتراءى وجهها كقديسةٍ بدأ النور ينطفئ من عينيها.

أرى ابتسامتها الأخيرة التي استسلمت للسرطان الآثم في دماغها، وقررت أن تذهب إلى الله ، وهو الذي يعلن نهاية الأشياء ويعلم لمَ جاء ذلك الرجل الغريب بسيارة بيضاء يطالب بدين له في ذمة أبي ، ثم يعلن :

ــ لم يعد لي شيء في هذا البيت . كلُّ شيء أخذتُه !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى