كتب

رؤية فنية ثرية لتجليات القصة الأميركية المعاصرة في ‘الحمى الرومانية’

رغم ما قطعته القصة القصيرة من مراحل تطور ونضج كبيرين استغرقا مئات السنين، حيث نشأت في أوربا قبل ثلاثة قرون تقريبا، إلا أنها ما تزال صالحة لإثارة الدهشة، وقادرة على طرح أسئلتها الجمالية والفنية.

وتعتبر القصة القصيرة الأميركية امتدادا حداثيا للقصة الأوربية التي سبقتها بقرنين تقريبا، فيمكن اعتبارها ربيبة لها، وفي نفس الوقت قطعت خطوات وأشواطا جمالية فارقة ومختلفة عن ربيبتها الأوربية. وهذه الكتاب “الحمى الرومانية.. أنطولوجيا القصة الأميركية المعاصرة” والذي ضم قصص لكل من شيروود أندرسون، إيديث وارتون، ماري ولكنز فريمان، ستيفن كرين، إمبروس بيرس، إيدغر آلان بو، وهاملين غارلاند، بريت هارت، وليم فوكنر ومارك توين، ترجمتها وقدمت لها كل من الكاتبتان د.هويدا صالح ود.رويدا جابر، كاشفتين رؤية فنية ثرية لتجليات القصة الأميركية المعاصرة.

تتقصى المترجمتان مقدمتهما للأنطولوجيا الصادرة عن منشورات الربيع أوجه التعالق والتخالف بين القصة القصيرة في أوربا وأميركا، وقراءة جمالية للسمات الفنية للقصة القصيرة الأميركية. تقولان “نشأت القصة القصيرة الأميركية متأثرة بما يُسمّى بالعصر الرومانسي تأثرا بالحركة الرومانسية التي بدأت في أوربا، وتحديدا في ألمانيا، ثم انتقلت إلى أوروبا وروسيا بأكملها، ثم أثّرت بعد ذلك على الأدب الأميركي، ولعل أبرز كتاب القصة الأميركية الذين بدؤوا بدايات رومانسية هما: إدغار آلان بو وناثانيل هورثون.

ومن بين الكتاب الرومانسيين في أميركا الذين كانوا معاصرين لبو وهوثورن: هيرمان ميلفيل ورالف والدو إمرسون وهنري ديفيد ثورو وهنري وادسورث لونجفيلو، وقد حاول هؤلاء الكتاب كتابة أدب أمريكي مميز يحاول الهروب من ثقل التقاليد الأدبية البريطانية، حيث كتبوا في سياق رومانسي، مع تركيز ملحوظ على الذاتية والاهتمام بمشاهد الحياة الأميركية المبكرة والمناظر الطبيعية البكر.

تضيف المترجمان “ظهرت القصة القصيرة أول ما ظهرت في أميركا عام 182، ثم تم تقديمها كنوع أدبي بفضل إدجر ألن بو الذي أصدر في عام 1837 جريدته الأدبية والتي أخذ ينشر فيها أفكاره وقصصه القصيرة وتعريفه لهذا النوع الأدبي والقواعد والضوابط المحددة لفن القصة القصيرة الأميركية الحداثية والتي خالفت التقاليد الأوربية في رصانتها، ثمتم تصديرالشكل الجديد منها إلى بريطانيا وفرنسا وبعد ذلك روسيا.

ثم أتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ليصبح ذاأهمية بالغة في مسيرة القصة القصيرة حيث ازدهرت وانتشرت انتشارا فاق كل الأنواع الأدبية الأخرى في ذلك الوقت. وكان من عوامل انتشارها هو انخفاض تكلفة النشر بالنسبة لوسائل الصحف التي وجدت ضالتها في هذا النوع الأدبي نتيجة لصغره. أضفإلى ذلك أيضا قوانين حقوق النشر الدولية التي كانت متهاونة للحد الذي أتاحت الفرصة للسرقات الأدبية لهذا النوع الأدبي، فلعبت الصحف والمجلات دورا هاما في انتشارها.

وتلفتان إلى أنه طبقا لديفيد ملكلوم فإن القصة القصيرة كانت معنية بالحياة الاجتماعية للعامة؛ مما جعلها تجذب شريحة كبيرة من المجتمع تتخطى شريحة النخبة المثقفة،إضافة إلى رخص قيمة نشرها، وانخفاض تكلفة طباعتها. ولأن القصة القصيرة عُنيت بالأفراد لذا عندما نشبت الحرب الأهلية في أميركا وصدر ما يعرف بالأدب المحلى كانت داعمة لهذا الاتجاه الجديد في الأدب، فنجد قضايا العنصرية وقضايا ذوي البشرة بارزة جدا فيها.

ومع مرور الوقت طالت التغييرات الأدبية القصة القصيرة و إن كانمعظمكتابهاقد تأثروا بادجر ألن بو وبالقواعد الفنية التي وضعها للقصة القصيرة.لكن المدهش أن بو ظل متمسكا بسمات رومانسية أوروبية قاتمة، ربما لا تناسب كثيرا تقاليد الحياة الأميركية، فنجده يميل إلى كتابة ما يمكن أن نطلق عليه”كتابة قوطية”، حيث تستكشف قصائده وقصصه الجانب المظلم من الخيال الرومانسي، والتعامل مع كل ما هو غريب وخارق، ومرعب. وبما أن بو لم يكن كاتب قصة وشاعرا فقط، بل كان ناقدا أيضا، فقد نظّر في كتاباته النقدية للتقاليد الرومانسية، ورفض ما هو عقلاني وما يطرح الأسئلة الفلسفيةلصالح البديهية والعاطفية،وهي من السمات الغالبة للحركة الرومانسية، وأكد أن العناصر التربوية والفكرية ليس لها مكان في الفن. ورأى أنهيجب علينا أن ندرك أن أعظم الفن ـ من وجهة نظر بو ـ هو الذيله تأثير مباشر على العواطف. وبالنسبة إلىناثانيال هوثورن كذلك تأثر بسمات الفن القوطية، وبالتالي، كانت طبيعة الموضوعات التي تعالج الشر ذات أهمية خاصة بالنسبة إليه. كما يتضح من أشهر أعماله:”رسالة سكارليت”، و”الشاب الأسود الصالح”، و”قناع الكاهن الأسود”،بل إن أعماله غالبًا ما تشير أيضًا إلى الأشياء الخارقة للطبيعة أو غير الواقعية أو غير المألوفة.

وتطرقت المترجمتان إلى سمات الرومانسية الأميركية، حيث تأثرت الرومانسية الأميركيةبأحداث الحرب الأهلية الأميركية (1820 ـ 1860 )، فلم تكن مجرد حركة أدبية كسابقتها الأوروبية، بل كانت حركة ثقافية أقرب لمفهومعصر النهضة الأوروبية، حيث تميزت النهضة الأميركية بنمو المدن، من خلال التوسع الغربي، وتأسس ولايات كبرى مثل ولاية تكساس، والتحديث، تحديث المدن، والمدهش أنهوسط هذه الحداثة الاهتمام بالدين الشعبي، أو علاقة الناس بما هو ميتافيزيقي.كما آمنت الرومانسية الأميركية بأهمية سلطة العقل الفردي الذي يستجيب للبيئة دون النظر إلى الأعراف الاجتماعية أو الحظر الأخلاقي.

كذلك شاركت الرومانسية قيم التنوير الفردية والحرية لكنها سعت إلى وضع حدود على الخيال عن طريق العقل والاعتدال. كما خالفت الرومانسية الحركة الكلاسيكية التي ترتبط أكثر بالقرن الثامن عشر بتقديرالفرد على المجتمع والطبيعة فوق المدينة. كما رأت الرومانسية أن الإنسانية التي تعيش في الطبيعة متفوقة أخلاقيا على الإنسانية التي تسعى للتمدين والتحضر، فهي تنتصر دوما للطبيعة..

ويرى الناقد الأميركي ماتيسين تعريف هذه الفترة بأنها “النضج الأول” للأدب الأميركي، حيث حققت روائع الأدب الأميركي وضعًا مشابهًا لوضع “النهضة الأوروبية” في القرنين السادس عشر والسابع عشر.ولكن للمترجمتين رأيا مغايرا لرأي ماتسيين في تسمية هذه الفترة بـ “النهضة” فالنهضة الأوربية ارتكزت على رصيد طويل من الأدب الذي سبق القرن السابع عشر والثامن عشر وكان أدبا قد قطع مرحلةكبيرة ووصل إلى مرحلة من الانحلال الفني، فلما جاء كتاب القرن الثامن عشر كتبوا أدبا بمعايير فنية جديدة، هنا يصلح مصطلح نهضة أن يطلق على تلك الفترة من عمر الحضارة الأوربية، أما بالنسبة للأدب الأميركي، فإن مصطلح “النهضة الأميركية” تسمية خاطئة، إذا فكر المرء في الفترة على أنها فترة ولادة لعظمة أدبية سابقة، لأنه لم يكن هناك شيء “يولد من جديد”، ولم يكن هناك كمون وانحلال ومن ثم نهوض، بل هي كتابة تبدأ هنا والآن (أعني في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين).

وما يثير العجب أيضا أن ماتيسين لم يهتم كثيرًا بإدغار آلان بو، رغم أنه الكاتب الأمريكي الأكثر إنتاجا في تلك الفترة وإن ظل فترات طويلة في أوربا، إلا أنه من الكتاب الأمبركيين المهمين، وقد قدم بو للأدب الأميركي إنجازا يعد حاسما في عصر الطفرة الأدبية التي حدثت في أميركا.

وتؤكد المترجمان أن مراحل تطور القصة القصيرة الأميركية عكست بداية من واشنطن إيرفينغ، حتى وليام فوكنر إلى جومبا لاهيري، الثقافة التي حكمت وعي الناس في أميركا، حيث الإيمان بتيمتين رئيسيتين: الفردية والتعددية، كما عكست القصة القصيرة ثقافة كيف يتكيف الأفراد مع التغيير، ومع تطور القصة الأميركية القصيرة في مطلع القرن العشرين، كانت هنالك عشرات الدوريات التي تحتفي بالقصة القصيرة وتفرد زاويةً خاصة لها وتدفع المال لكتّابها، ومن أشهر هذه الدورات: أتلانتك مونثلي، هاربرز مكزين، ذي نيويوركر، سكرابنرز، ذي ستردي إيفننغ بوست، أسكوار، وبوكمَن؛ وكانت تنشر قصة قصيرة على الأقل في كلِّ عددٍ من أعدادها.

 

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى