رحيل هيكل | محمد حسنين هيكل: شاهد العصر

عاش طويلاً، أكثر من 93 عاماً، عمل طويلاً منذ ما قبل انفصال باكستان عن الهند حتى اليوم. كان قريباً جداً من رأس السلطة، في جميع المراحل منذ عبد الناصر حتى السيسي. صاحب معلومات كثيرة. خبير بالوقائع الجيو استراتيجية حتى ليحسبه القارئ انه غير معني كثيراً بأحوال الشعب والأمة. معاد أشد العداء للإخوان المسلمين ومن حولهم. ربما كان ذلك عائداً إلى حياته التي عاشها. وذلك وفر له انتشار كتبه في العالم وفي الوطن العربي، وترجمة هذه الكتب إلى لغات عدة، كذلك وفرة الرأسمال الذي لدى أولاده. تعرض أحيانا لمضايقات.

ساهم تقدمياً مع عبد الناصر، وساهم مع السادات في تفكيك نظام عبد الناصر. يبدو انه كان شديد الاعتداد بالنفس مما انتهى به إلى السجن بعد ان تولى وزارة الارشاد في أواخر عهد عبد الناصر. كان جليس قادة العالم.

ورث من أيام عبد الناصر العداء للنظام السعودي. ربما كان ذلك يعود إلى طبيعة الإسلام السعودي الصحراوي. كان يكره البداوة وايديولوجيا البداوة. وقد تربى على يديه جيل من ألمع الصحافيين المصريين.

أحب الحياة حتى الثمالة. إضافة إلى ذلك، توفرت لديه عدة معلوماتية وفكرية جعلته يتجاوز طبقته وتبنى موقفا مصريا بعد ان كان قومياً عربياً في أيام عبد الناصر. هو من القلة بين النخبة العربية الذين حافظوا على مستوى من التعقل ووضوح الرؤية في عصر سادت فيه أفكار لا تستحق الاسم. واجه التشنجات بثبات مما دفع الاخوان المسلمين، زمن مرسي، إلى احراق بيته في الريف.

تقدمت عنده العقلانية على انتمائه الطبقي. الوطنية المصرية ذات أولوية أولى لديه. تتماهى هنا الوطنية مع الموقف. كأن ينظر باستعلاء تجاه الرؤساء المصريين الذين عاصرهم، وتجاه مختلف الملوك والرؤساء العرب الذين التقاهم. ربما ذلك بسبب ما تمتع به من ذكاء يفوقهم جميعاً، إضافة إلى المعرفة التي يخلو منها معظمهم. فالمنطقة هي الأهم جيوستراتيجياً، وهم الأجهل بذلك. وبالتالي فهم الأسوأ في استغلال موارد منطقتهم.

أول مرة التقيته فيها كانت برفقة طلال سلمان ومصطفى ناصر. استشاط غضباً عندما علم انني وزير سابق، في احدى وزارات الحريري. زاد غيظه عندما قلت ان خيرت الشاطر الذي كان قد اخرج من السجن قبل أيام قد تحدث بشكل معقول في احدى المقابلات التلفزيونية. لم أكن اعرف أهمية خيرت الشاطر في ذلك الوقت ولا مدى انقسام الشعب المصري. ولا يهم انني أصبحت بعد فترة أكثر غلواً في عداء الاخوان المسلمين. إلا انني اشير لهذه الحادثة كي ادلل على عمق الجفاء، العداء بين البورجوازية المصرية والطبقة الحاكمة في الجزيرة العربية. لا أدري إذا كان عمق الخلاف ناتجاً عن فروق في الموقف الديني ـ السياسي، أم من خوف البرجوازية المصرية على أسلوب حياة ورثوه عن عهود الاستعمار.

لزيارته في دارته في الريف برماش تمر وسط المدينة عبر احياء هي الأكثر فقراً في مصر، ثم فجأة ترى أبواب سور الفيلا القائمة في مساحة فسيحة خضراء واسعة تحتوي على الكثير من مستلزمات الحياة المترفة والخدم والحاشية. لا يستطيع «اللورد» العيش من دون حاشية. وهذا أمر طبيعي.

عاصر سياسة المنطقة ما يقارب ثلاثة أرباع القرن. له كتب كثيرة. تفرغ حوالي نصف عمره للكتابة. لا يوجد كاتب عربي يستشهد به في اللغات الأجنبية أكثر من محمد حسنين هيكل. كان معلماً من معالم السياسة العربية. أما الثقافة العربية، العقلانية العربية، فهي في هبوط، في أيامه، وربما بعده ناهيك عن الهزائم والتراجعات الاقتصادية. هو شاهد العصر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى