كتب

زهران القاسمي «يحفر» في باطن المجتمع

زهران القاسمي «يحفر» في باطن المجتمع… ينقسم كتّاب الرواية ومعهم النقّاد، بين مؤيّد لاستخدام اللهجات العامية وتداخلها مع الفصحى، وبين معارض لها بشكل قاطع. يأتي كل فريق بحججه وبراهينه ليدعم رأيه وموقفه، ولكن يبقى أنّ النصّ الروائي، مرتبط بثقافة كاتبه وانتمائه إلى بيئة ومجتمع معينَين. وهذا ما يبرّره النقد للكاتب في طرح قضاياه ومواقفه والإغراق أحياناً في تفاصيل تلك البيئة وذلك المجتمع، واللهجة، بوصفها مكوناً أساسيّاً لمجتمعات العالم العربي، ولا بدّ من قبولها في الرواية، حالها كحال مكونات ذلك المجتمع وتلك البيئة. لكن كل ذلك يبقى مرتبطاً بذكاء الكاتب وأسلوبه وتمكّنه من اللغة ومكونات النص الروائي سرداً ووصفاً وبناء أحداث وشخصيات، فيأتي المحليّ العاميّ في مكانه، ويكون ضروريّاً أحياناً.

اعتماد اللهجة العامية لجأ إليها كثيرون. لكن هذه ليست الحال في رواية «تغريبة القافر» (دار مسكيلياني ـــ 2022) للعماني زهران القاسمي. فلغته الفصحى سيطرت على نصّه وحكمته، إلّا ما ندر وروده في بعض الحوارات، لكن أهمّ ما قدّمته روايته، وخصوصاً في هذا المجال، هو المصطلحات والكلمات المرتبطة بشعب بعينه، ومهنة بعينها، مهنة القافر.

قد يلتبس على البعض بأن القاسمي أدخل العجائبيّة وكانت أساساً في نصّه، إلّا أنّ ذلك تأويل خاطئ. عندما تبدأ الرواية بغرق «مريم بنت حمد ود غانم» زوجة «عبد الله بن جميّل» التي ستكون والدة سالم القافر، الجنين الذي تمّ إنقاذه بعد غرقها وموتها، تأخذنا الرواية إلى أسباب غرقها، وهي أصوات ملأت رأسها فناداها الماء لتسقط رأسها فيه كي ترتاح من تلك الأصوات، إلى أن وصل بها الأمر إلى البئر، حيث ستغرق وتموت. لم يكن اللجوء إلى تلك الأصوات، ولا سماع سالم لصوت الماء في باطن الأرض (أمر سنعرفه في ما بعد) من أجل الغرائبيّة، بل للدلالة على مجتمعاتنا التي يحكمها الجهل، المتمثّل في أقاويل الناس وحياكة القصص حول دخول الجنّ والقوة الخارقة والخرافة، على حساب الطبّ والتطوّر العلمي، هو ما أراده القاسمي من نصّه.

يكبر سالم بن عبد الله، وتصوّره الرواية انطوائيّاً غير مقبول في ذلك المجتمع، الذي لم يقبل أمه وحالتها النفسية قبله. حالتها كانت جسدية أيضاً، فمن منا لا يعرف اليوم داء الشقيقة والصرع وما يشابههما؟ يصبح سالم منبوذاً أكثر فأكثر مع سماعه صوت الماء في باطن الأرض، وهنا قد نظنّ أنّ الغرائبيّة بدأت تدخل النص وتتحكم به، ولكن ليس الأمر كذلك، فسالم، وكما أرادته الرواية، قد يكون مصاباً بطيف توحّد، يصبّ تركيزه في مكان ما، جعلته الرواية «الماء»، فهو الناجي من الغرق. ولشعرية الماء ورمزيته مجالات لا نستطيع فتحها الآن، ولكن يمكننا أن نقول إنّ الروائي شاعر في الأساس، فكان الشعر الفكري، لا النصيّ حاضراً في هذا المجال تحديداً، ولأنه صبّ تركيزه على الأرض وباطنها، بدأ يبرع في حرفةٍ لطالما عمل فيها كثيرون، وما زالوا، وهو تحديد أماكن الحفر حيث وجود الماء في جوف الأرض.

يستمر الحفر، وتستمرّ «تغريبة القافر» حيث يموت والده وهو يحفر، ويكاد يموت هو أيضاً وهو يحفر، فيكون الحفر والخوض في المجهول من أجل الماء، من أجل الحياة ومصدرها، همّ الرواية الأول. ويكون للماء، سرّ الحياة، الغاية الأساسية التي حكمت النصّ، وجعلتنا نغوص مع من يحفر، لنحفر في عقولنا ووجداننا أثناء القراءة، ونفكّر معهما في المفاهيم المطروحة.

لقد أراد القاسمي أن يأخذنا في رحلة شائقة إلى بلاده، وتعريفنا بها، وهو همٌّ حمله على أكتافه، ولم يبذل مجهوداً كما يفعل كثيرون في شرح المفردات العامية أو المصطلحات حول مهنة القافر. وفي نهاية النصّ، تدخل مهنة غزل الصوف بشكل سريع، بل ترك لنا المرور عليها وفهمها من خلال السياق، فلا حاجة لأنّ نتوقّف عن القراءة من أجل فهم تفاصيلها، بل كان همّه التعريف بها فقط، وتوثيقها أثناء السرد ودعم الفكرة والقضية.

لغة النصّ عذبة لا تكلّف فيها، ولأنّ القاسمي شاعر يدرك مدى صعوبة الفصل بين نوعي الكتابة من قبل الكاتب نفسه، نجده اشتغل على الأمر وأتقنه، فأبعد نصه وأفكاره وصوره عن الشعرية، وعن الخيال المقصود هناك، وعن المجاز والتركيب الذي قد يحتاج تكلّفاً، وقد برع في ذلك ونجح، فكان نصّه الروائي حكائيّاً بالفعل، إلا رمزية الأشياء والأماكن، فكانت ضرورية، وهي الوحيدة المشتركة بين الشعر والرواية عنده.

ولشدة تركيزه على البيئة العمانية في قرية من قراها بالتحديد، أصرّ على ذكر الأسماء كما تطلق على الناس هناك، الاسم الثلاثي وأحياناً أكثر، كما ذكرنا في البداية، فمريم وعبد الله وسالم ومعهم الوعريّ وكاذية وكثيرون، ذُكرت أسماؤهم مع اسم الأب واللقب واسم الأم أحياناً، ذلك أنّ الواقعية المتحكّمة بالنص، ستكون أشدّ واقعية هنا، ولأنّ النصّ كان محكوماً بالسرد واللغة السهلة على متانتها وبراعة كاتبها، كانت تلك التفاصيل ضرورية.

لم يعتمد النص على لعبة الزمن والتنقّل بين زمن وآخر. كان الزمان واضحاً ومقصوداً، أما المكان، فكان له حضور طاغٍ، ولحركة الأشياء داخله حضورها الأبرز، فالسيل وما يرافقه، والبيوت وساكنوها، والأفلاج والسواقي ومنابع المياه التي ظلّ سالم يلاحقها حتى نهاية النص، كانت هي الأساس. تغريبته، التي لم تنهها الرواية وتركت الخاتمة مفتوحة، هي كتغريبة كل واحد منا، يبقى يصارع العقبات والصعاب ويصارع المجتمع والأعراف والتقاليد، ويصارع نفسه وحالاتها، كي يواظب على السير في الطريق التي رسمها لنفسه. تأتي عودة سالم للحفر والبحث، بعدما قرر التخلي عن كل ذلك بعد وفاة أبيه بسبب ذلك، وتركه للحياة الهانئة التي رسمها وزوجته، لتؤكّد للمتلقي بأنه مهما أقنعك الآخرون، أو أقنعت نفسك بالتخلي عن الطريق التي رسمتها في بداية حياتك، فأنتَ لا بدّ راجع إليها.

«تغريبة القافر» لزهران القاسمي، رواية مغرقةٌ في عمانيّتها، مغرقةٌ في المحليّ، إلّا أنها تحمل قارئها إلى الاستمتاع بذلك الإغراق، هي التي بدأت بحادثة غرق، وتنتهي بنهاية مفتوحة على احتمالية الغرق، وهذا ما جعلها رواية متماسكة، شيّقة، تحثّ قارئها على الغوص في ما يخاف الغوص فيه مع ذاته، وخصوصاً في عادات مجتمعنا، والخرافة التي تحكمه، والجهل الذي يتوّج كل ذلك، والخوض في الذاتيّ، لنبحث في دواخلنا عن أساس الحياة التي اخترناها، والحفر أكثر، إن لم نكن قد اخترنا ذلك الأساس بعد.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى