كتب

زهير كريم… أزهار العراق المرّة

يقدم الكاتب العراقي زهير كريم (1965) عبر روايته «قصرُ الصبار» (دار الآن، ناشرون وموزّعون)، نظرةً واسعةً إلى ماضي العراق المؤلم، تصوّرُ أحداثاً جمعت الضحايا والأوغاد معاً خلال الربع الأخير من القرن الماضي، وحتى بداية الاحتلال الأميركي عام 2003.

تنأى الحكايات عن استعراض المهازل أو المآسي، بل تسكنُ في منطقةٍ تشتبكُ فيها المصائر من دون أن تجد فرصة للنجاة. وبعيداً عن محاولات ترميم ما تهدَّمَ من العالم، أو الغوص في بكائياتٍ سرديةٍ، يخرج علينا المنزل الذي تجري فيه أحداث القصة بواقعية ساحرةٍ، إذ تختلط فيه سيرُ الشخصيات، ويتورّط الخيال في كشف حيواتٍ اعتمد كاتبها (الصحافي) على تدوينات شخصيةٍ، وعلى مذكّرات ناجية من حرائق الحرب وشهاداتِ من نجوا منها.

«من تلك المنطقة التي يختلطُ فيها الواقع بالخيال، هكذا عرفتُ نرجس، الشخصية المحيرة، المحايدة واللامبالية». تبدأ الحكاية مع بداية عام 2004 على لسان الراوي، وهو صحافيّ كُلِّف بالكتابة عن المباني التراثية في بغداد، في وقتٍ تحولت فيه الأسئلة عن الحياة إلى كل ما هو غامض ومخيف، لتستحيل عملية البحث استعراضاً لتاريخ البلاد، حيث كانت المجازرُ وقصص السجون والإعدامات تفضح سيرة من سعوا للسيطرة آنذاك. يقع الراوي على أحد المباني، في زمنِ الاضطرابات السياسية، إلى جانب قوات احتلال، وبركان طائفي على وشك الانفجار. إلا أن القصر يبدو عصياً، بعد تحوله إلى مقر لقوات الاحتلال، ويُمنع من التقاط الصور، أو الكتابة عن جماليات عمارته الداخلية. تأتي المصادفة وتلعب دورها في تحويل المشروع من كتابة توثيقية، إلى سردية إبداعية تكرّس إحياء مبنى عاصر تاريخ المدينة، لنقع تحت تأثير مغامرة سردية وروايةٍ تعاضد الخيال والحقيقة معاً، وتنسج قصةً رمّمتها الوثائق تاريخية.

تصل إلى يد الكاتب مذكّرات قديمة لمن عاشوا في القصر. وَتطلّ على زمن امتدّ على أربعين عاماً، بما أفرزته من نفوس جشعة، وأخرى هشّة وضعيفة. أمر يؤثثُ لشخصيات حملت في داخلها ثنائيات متناحرة، أشبه بأولئك الذين يحيون الصراع مع الحياة، ويحملون تناقضات تتفاعل لتشكل كلاً موحّداً، كل طرف فيها يسوّغ لوجود الآخر. هكذا هي نرجس، الشخصية الرئيسة في الحكاية، والمرأة التي تسقط عليها أسطورة قديمة لنبتة صبارٍ ظهرت في القصر منذ بدء بنائه، وشكّلت قدرَ من يحيا بين جدرانه، فهي إذا ما ظهرت في بيتٍ لا يستقر فيه ساكن، وتصير شريكة الشيطان في خلق العواصف على ساكنيه.

لذا نجدها رمزاً للشيطان والملاك معاً. تجسدُ مذكّراتُ نرجس، التي يعثر عليها الصحافي من أحد ساكني حي القصر، هيئة امرأة مسيطرة، أخفت أسفل قناع البريق هشاشةَ أكبر قوادة في تاريخ المدينة، لكنها في الحقيقة لم تكن سوى زهرة مرّة، انجذب إليها كل الرجال. وعلى الرغم من صورتها التنكرية، إلا أنها أثارتهم. ينهي الصحافي ما دوّنته نرجس من اعترافاتٍ: «أنا أحكي لكي أجعل الدود الذي في قلبي يهدأ…». وهنا يشعر بالامتنان للمصادفة، إذ يتعرّف إلى امرأة لعبت دوراً في تاريخ البلاد، بلا موقف محدد، ما خلا رغبة جامحة للعيش. وهي كشخصيةٍ روائيةٍ متمايزة من حيث جمعها تناقضات عجيبة، الثابتُ الوحيدُ فيها هو ذلك الفراغ الموحش، والذكرياتُ المرّة لطفلة عاشت التفكك العائلي، والتشتت بين أمّ مسيحية وأب مسلم، وتفتّحت على محيط نظر إليها كرمانة ناضجة. تقع نرجس المراهقة في حب شابّ خذلها بعد حملها منه، وتتحولَ النعجة إلى ذئبة، وتهرب من حقيقة شعورها بالضعف للبحث عمّا يحميها.

هكذا بقلب فارغ ورغبة جامحة للبقاء، تحافظ نرجس على الوحش بداخلها، تفتنها بيوت المتعة، وتتسبّب في قتل أمها وتدمير أخيها، وتستمر في تغذية ذلك الشعور المتهالك بالنجاة، وتبقى مستعدة على الدوام لغرس أنيابها في كل ما يعترض طريقها.

يفرز سوء الأحوال المعيشية خذلاناً داخلياً عاماً، ويحوّرُ الحصارُ أحلام الجميع إلى وقائعَ مريرة: «إنها حياة بائسة بكل ما تعنيه الكلمة، لم تعد تصلح للاستمرار». هكذا يخرج صوت جبّار، حارس القصر، وهو يقصّ آخر لياليه في قصر المتعة، حيث تعلم فنَّ الصمت، والتعامي عن كل ما يحدث بين أسواره، إذ يسترجع خروجه من السجن بما يشبه المعجزة بعد سقوط النظام الحاكم وفتح المعتقلات. ويعود إلى حياةٍ جرت خارج الأسوار بصورة تكسر القلوب، وتطفئ عيون الجوعى. يحكي عن عمله مع نرجس، ولهفة القلوب إليها، مثل حارس نبيل كتم مشاعره تجاهها، ويعود ليروي قصة زواجها من الحاج رافع، وهو رجل مهم في الحكومة السابقة، امتزجت سيرته الشخصية بالأحداث المفصلية من تاريخ البلاد، إذ كان موالياً لصدام حسين أثناء سعيه للسلطة، ليتزوجها ويقدم لها القصر، ما يرفع من تحكمها في مصائر سكانِ المدينة.

«كل ما في الأمر أنّي أريد أن أعيش بعيداً عن خزي الحب، الحب ذلك الخطأ الذي لا يمكن إصلاحه» نكتشف هنا نرجس الهاربة من زواجٍ أضجرها، إذ خاضته بمثابة هدنة من حياتها الماجنة، تزوّجت سالم قبل الحاج، لكنه يقتل بصورة غامضة من قبل أحد معجبيها. أمر يؤسس لحقدٍ في نفس أخيه عباس، ويمنيه بانتقامٍ أضعفهُ تنقل نرجس بين المدن واستقرارها في القصر مع طاقم العمل. وعبرهم نقرأ معنى ما حياهُ الناس من زهد، فماجد زوج خلود، العاملة في القصر، يعاني انهياراً جراء شعوره بالعجز عن إرضاء متطلبات العائلة، ويحيا هشاشة تجعله محبطاً، ما يدفع زوجته للسقوط بين الشعور بالذنب، والحاجة إلى رجل يحتويها.

هكذا يُمسي الاستبدادُ متّهماً يولّدُ التوحّش، ويغذي الإحساس بانعدام الأمان، كما حدث مع الطبّاخة اللبنانية سونا، التي تدخل العراق لجمع المال، ولتعويض شعورها بالإحباط من خذلانها في الحب. هكذا يقع الجميع، بمن فيهم السائق سعيد، تحت تأثير نرجس وسحرها. ترتبط مصائرهم بها، ويمضون مع سائر من في البلاد في دوامة تطحن الجميع نحو مستقبل رمادي، ونحو مصائر تخطُّ لها أسطورة الصبار ليلةً حالكةً.

يسحق الجميع في يومٍ يداهم عباس الحاقد وسعيد السائق القصر، ويتسببان في فضيحة انتهت بقتل نرجس وعدد من مسؤولي الدولة، تقفل القصة على حكاية مظلمة، قدّمت تشريحاً اجتماعياً وسياسياً لأحوال البلاد، وعملت على تكريس البؤس، كثمرة مرّةً للعيش تحت حكم الاستبداد. «يعجبني مشهد أن يجلس الملاك والشيطان معاً حول طاولة ويشربا البيرة، ويضحكا ويعترفا بأنهما من عائلة واحدة، ويعيشا معاً في بيت واحد هو نحن».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى