شرفات

سأقتلٌ أخي !

سأقتلٌ أخي !… العتمة تخيفني، ففي العتمة أسمع همساً وأرى خيوطاً زرقاءَ تتحرك. أجلسُ في الفراش كمن أحس بأفعى تقترب منه. أصغي إلى الأصوات، فلا أسمعها بوضوح. أرى الخطوط الزرقاء ترسم لي أشياء غريبة، ولا تلبث أن تثير الهلع في نفسي، فأخفي وجهي بيديّ، ثم أغطي رأسي، ثم أرفعه فأرى الخطوط الزرقاء، وقد تلونت كلهب النار، يمتزج اللون الأزرق فيها مع ألوان برتقالية وصفراء تظهر وتختفي. ولأن أمي حكت لي أن الله خلق الشيطان من اللهب، قلتُ في نفسي “لابد إنه الشيطان”.

لم يكن الشيطان يؤذيني. كان يخيفني. يجعلني رعديداً أرتجف وأرتجف إلى أن ينهكني الخوف فأستسلم، ثم يمضي، فأنام. لم يوسوس لي بشيء. لم يقل لي اقتل، ولا اسرق، ولا اكذب، ولا اعتد على الآخرين. أبداً. كان يخيفني فقط!

أخفيت مأساتي على الآخرين، حتى أمي لم تشعر بما يحصل معي، فقد كنت أنام مع أخي حمزة وأختي سعاد في غرفة واحدة، وما أن يُطفأ الضوء حتى يغطّان في نوم عميق ، وأبقى أنا أواجه لهيباً شيطانياً يتشكل.

في الطريق إلى المدرسة، واجهتني نسمات باردة. تقع المدرسة في حارة واسعة، فما أن تتجه من سوق الجمعة في جبل قاسيون، نزولاً في طريق جامع الدلامية، حتى تجد نفسك أمام طريق فرعي نحو اليمين، في آخر الطريق مدرسة ابتدائية اسمها مدرسة المنصور، لها بابان الأول من حيث آتي، والثاني من جهة طريق العفيف ــ الجسر الأبيض.

دخلتُ إلى المدرسة من الباب الشرقي خلال الممر الضيق الذي يدخل منه التلاميذ، ويصل إلى الباحة. وبعد أن انتهينا من تحية العلم، أمرنا مديرُ المدرسة بالتوجه رتلاً إلى الصفوف.

في الصف، كنت شارداً، لا يمكن لي أن أركّز انتباهي على تعليمات المعلمة اللطيفة التي تمسح على رأسي بيدين طريتين بين يوم وآخر. ولا أخفيكم، فهي أول من لاحظ أنني أعيش مأساة لا يعرفها أحد.\

نادتني باسمي:

ــ عباس. تعال. تعال يا ابني . أنت مرتب وشاطر. هيا سأكلفك منذ اليوم بكتابة التاريخ والدرس على السبورة .

وسألتني :

ــ ألا تذكر الطريقة التي نكتب فيها التاريخ اليومي؟ هيا . اكتب على السبورة تاريخ اليوم والشهر والسنة بالتقويمين الميلادي والهجري، ثم اكتب اسم الدرس.

خرجتُ من مقعدي، تورّد خداي مثل تفاحتين حمراوين، ومشيت بهدوء. كان الجميع ينظرون إليَّ بدهشة، فلماذا يمشي عباس بهذه الثقة، ولماذا توردت وجنتاه، ولماذا اختارته  معلمة الصف من بين ثلاثين تلميذاً ليكتب التاريخ والدرس؟

صعدّتُ المصطبة الصغيرة التي تقف عليها المعلمة عادة. لم أكن طويلاً بما يكفي لأصلَ إلى أعلى اللوح، بحثتُ عن إصبع الطبشور، وجدت عدة أصابع. واحدة بيضاء، وواحدة حمراء، وواحدة زرقاء. اختلط عليّ الأمر. اندمجت الإصبعان الزرقاء والحمراء. أحسست أنهما قطعة واحدة من نار وأن الشيطان عاد ليخيفني. ارتعد جسدي. سمعت صوت المعلمة : هيّا يا عباس !

رفعتُ جسدي بأصابع قدمي، وشرعت بالكتابة : اليوم الجمعة ..

سمعتهم يضحكون. ولم تضحك الآنسة. كانت تنظر إليّ باندهاش. وتنتظر. أمسكتُ المساحة، ومحوت ما كتبته، فارتاحت أوصالها، وتراجع الضحك، ثم عدّتُ للكتابة وكتبتٌ عبارة أخرى: اليوم الأحد ..

عادوا إلى الضحك، وعادت المعلمة إلى الدهشة، وعادت يدي إلى الكتابة : الواقع في 28 كانون الأول 2011 الموافق ل..

الدرس الأول تاريخ ..

نهضت المعلمة. صاحت بالتلاميذ :

ــ لا تضحكوا.

وصفّقت تحذرهم :

ــ قلت لكم لا تضحكوا.

فصمتوا. اقتربت مني . ربتت على كتفي:

ــ أنت تمسك بقطعتي الطبشور معا . لماذا انتقيت الحمراء والزرقاء. ثم لماذا كتبت هذا التاريخ ؟!

نظرتُ إلى يدي اليسرى. أنا أكتب بيدي اليسرى. وصفني أخي حمزة بالفشلاوي، وجدتُ إصبع حوار واحدة مجدولة باللونين . قلت لها :

ــ لا . هي قطعة واحدة !

خافت المعلمة عليّ. ضمت خديَّ بيديها الدافئتين الناعمتين، وحدّقت بعيني، وكأنها تبحث عن حَوَلٍ فيهما، وهمست :

ــ طيب . هذا التاريخ . ليس صحيحاً . اكتب التاريخ الحقيقي .

فأعدت كتابته. راقبت المعلمة التاريخ . حسبته . همست باستسلام :

ــ هذا التاريخ سيأتي بعد خمسين سنة يا عباس !

حدّقتُ في وجهها، فرأيته يتغير، يرسم ملامحَ أخرى غير الملامح التي أعرفها في وجهها. وضعتُ إصبعي الطبشور في مكانهما، وعدت إلى مكاني بهدوء.

سادَ صمتٌ في قاعة الصف. ملامحُ المعلمة فاجأتني. سيطر عليها خوف شديد، تلون وجهها الأبيض الجميل بلون رمادي. لم تعد جميلة كما أعرفها، وربما لم أعد أنا جميلاً كما تعرفني. حوّلَ الصمتُ المطبق قاعة الصف إلى قبر، فالتفتُّ لأرى التلاميذ وقد تحولوا إلى هياكل عظمية تجلس على المقاعد، وكأنها منحوتة من حجر. وقبل أن ينتابني الخوف، استنجدتُ بالمعلمة، نظرت إليها، فرأيتها وهي تهوي على الأرض !

بعد يومين، وصلتُ إلى المدرسة والعيون تفر مني. لم أقف في الباحة كما هي العادة في تحية الصباح التي يؤديها التلاميذ. دخلت إلى الصف وجلست في مكاني، فشعرت أنه دافئ وآمن .

اعتنت بي أمي ذلك الصباح. مشّطت شعري، وكوت صدرية المدرسة البيج، ووضعت ياقة بيضاء عند عنقي، وأعطتني خمسة قروش، وسندويشة من الزيت والزعتر ، وهمست تحذرني:

ــ ملابسك نظيفة هه . لا تجعلها وسخة عندما تعود!

ضحكتْ، ومشيت نحو المدرسة.

عندما تمت تحية الصباح، دخل التلاميذ وهم يتحاشون النظر إليّ. دخل المدير على غير العادة،  ثم دخلت إثره معلمة الصف ، فصاح عريف الصف :

ــ قيام !

وقفنا. صعد المدير والمعلمة إلى المصطبة ، وساد صمت بين التلاميذ وكأنهم بانتظار حدثٍ كبيرٍ. أشار المدير إلي وقال :

ــ أنت يا عباس . تعال . اكتب لنا التاريخ والدرس كما علمتكم الآنسة .

مشيت نحو اللوح، وصعدت إلى جوارهما ، وكتبت على اللوح : يوم الاثنين 19 شباط 1962  الموافق ل:  14 رمضان 1381 الدرس الأول حساب..

رمق المدير المعلمة بنظرة عتب، ثم صفق ، وهو يردد :

ــ برافو . برافو يا عباس.

وخرج !

أما المعلمة ، فقد نادتني ، وسألتني بدهشة:

ــ لماذا فعلت معي ذلك ؟ هل تعبث مع معلمتك ؟

ضحكتُ ، وهمست بصوت منخفض :

ــ سيقع شيء ما في ذلك التاريخ الذي كتبته !

سألتني بخوف :

ــ وماذا سيحدث ؟! فأجبتها بصوت أكثر انخفاضاً :

ــ سأقتل أخي !

أغمضت المعلمة عينيها بهلع ، وتركت قاعة الصف ، وتركتني على مصطبة السبورة !

 

ملاحظة : هذا النص عبارة عن فصل من روايتي الجديدة ( الجبل الأحدب) ــ مخطوطة .

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى