كلمة في الزحام

سادة الإمتاع والمؤانسة

حكيم مرزوقي

سادة الإمتاع والمؤانسة…سيدي فلان، بابا فلان، وعم فلان.. ثلاث ألقاب تُقال تحببا لدى التوانسة في تسمية ومناداة من يستظرفونهم ويعتبرونهم مرجعا ثابتا وقيمة مضافة في الكياسة وحسن الحديث وطيب المعشر.n

أشهر هؤلاء الذين اجتمع الناس حول بهجة حضورهم ينتمون إلى القرن الماضي، وصاروا الآن في ذمة التاريخ، لكن الجميع يذكرهم بنوستالجيا هائلة وهم:

” سيدي محمد” أي محمد المرزوقي، ” بابا عزيز” أي عبد العزيز العروي، و”عم الطاهر” أي الطاهر المليجي”.

الرجال الثلاثة ارتبطوا بالإعلام والفن والثقافة، وما زالت تسجيلاتهم في أرشيف الإذاعة والتلفزيون، محط اهتمام الجميع على مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، وذلك لطرافة المعلومة، جاذبية السرد، ورشاقة الكلام.

كأن الله قد خلق هؤلاء الثلاثة بقصد الإمتاع والمؤانسة: المرزوقي 1916 ـ 1981، الملقب ب”سيدي محمد”، لا يُشق له غبار في رواية الشعر العامي والملاحم الشعبية والأنساب القبلية منذ غزو بني هلال للبلاد التونسية.

كما انخرط في المقاومة الوطنية، وعاش تجربة التّرحال وتلقّف القصص من أفواه العجائز إيمانا منه بقيمة تدوين التاريخ الشفهي لتوثيق العديد من الأحداث.

العروي، أي “بابا عزيز” (1898 ـ 1971)، يشترك معه في ارتداء الطربوش المجيدي ـ نسبة للسلطان عبد المجيد ـ مع البدلة الإفرنجية في مظهر يطل من خلاله على مرحلتين من تاريخ البلاد، يبهج المستمعين عبر إطلالته المميزة من نفس الإذاعة ويبدأ بسرد حكايات قديمة مع مقاربات معاصرة بلسان “يغزل الحرير” كما يقول التونسيون الذين أودعوه أسرارهم وأفرغوا قلوبهم إليه سائلين ومستنصحين ومستمعين إلى حكاياته ومواعظه على الراديو مثل حكيم قوم من الأزمنة الغابرة.

أما المليجي الملقب ب”عم الطاهر” والمنحدر من جزيرة قرقنة في الساحل الجنوبي، فقد مات سنة 2022عن سن ناهزت 86عاما، تاركا وراءه مدونة نقدية وتاريخية لا تقدر بثمن في فنون السينما والموسقى والغناء.

عُرف عم الطاهر بأناقة اللسان واللباس، وطرافة قل مثيلها في السرد والتعليقات إلى درجة أنه صار مضرب مثل في ذكر التفاصيل والجزئيات، فيقال لمن يطيل في القص: فلان يشبه المليجي.

قدم الراحل العديد من البرامج الفنية ما بين الإذاعة والتلفزيون، وخاض نقاشات معمّقة في ندوات ولقاءات مختلفة شدد فيها على أهمية دعم الفنانين أصحاب المواهب الكبيرة، ووضع العديد من المؤلفات.

حظيت شخصيا، بمجالسته والتحدث إليه فوجدت في شخصه كنزا حقيقيا من الحكايات والمعلومات في الشأن الفني مغربا ومشرقا، وهو يستحث لقب “حكواتي الفن” بامتياز.

الآن، وقد غادر هؤلاؤ من حراس الذوق الرفيع، ليس بإمكاننا إلا التركيز على مثل هذه المدونات من التراث الشفهي وفنون الحكي التي سخرت منها ابنتي الصغيرة قائلة: بابا، أنت لا زم يسموك “حكي”، من دون ميم”.

لا بنيتي، لم أرو هذا كي أشبه نفسي بالبطل الرابع في رواية “الفرسان الثلاثة” لألكسندر دوما بل للتذكير.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى