كتاب الموقعكلمة في الزحام

ساعة الحنين

ساعة الحنين ..تجلس وقتا طويلا، ملبّد الذهن، قبالة صومعة الجامع الكبير الذي شُيّد عام 1630 بمدينة تستور التونسية ذات الطابع الأندلسي الصارخ، لا للتمتع بشكلها المعماري الفريد الذي تباع منه مجسدات للسياح والزائرين، ولا للاستمتاع بأصوات الآذان والأدعية والتراتيل وهي تنسكب من حناجر أبناء عاصمة الموشحات بلا منازع.

تطيل النظر في هذه الصومعة التي لا تشبه أي صومعة على وجه الأرض، ليس انبهارا بزخارفها ونقوشها الرخامية الآسرة التي تتخللها نوافذ قدّت من القرميد الأخضر والخزف الملون، وقد توسطتها النجمة السداسية. تحوم حول الصومعة المزهوة بجمال معمارها الطيور، وبنا اللقلق فوقها عشه.. اللقلق الذي يسميه التونسيون ويلقبونه ب”الحاج قاسم” نظرا لولعه الدائم بالسكن في الصوامع مثل ناسك متعبد.

كل هذه الأسباب ـ ورغم وجاهتها ـ لم تكن كفيلة بأن تشدك الساعات الطوال وأنت ترتشف شايك الأخضر المنعنع المرصّع بحبيبات الصنوبر (البندق بالتونسي) تحت شجرة النارنج. وإنما شيء آخر يتوسط هذه الصومعة وينغمس في خاصرتها إلى حد التماهي.. إنها ساعتها الشهيرة التي تدور عقاربها عكس الساعات العادية أي أنها تدور من اليمين إلى اليسار رغم أنها تعتمد نفس ترتيب الأرقام للساعات المألوفة.

هذه الساعة الغريبة التي تجاري الأرض في دورانها وكذلك الدورة الدموية للقلب البشري، بناها المهندس محمد تغرينو سنة 1630 ميلادي، وهو من الجاليات الأندلسية التي استوطنت المنطقة.

ذرائع وتبريرات كثيرة سيقت في شرح سر هذه الساعة التي تأبى عقاربها إلا أن تعود إلى الخلف. فمنهم من يقول بأن المهندس الذي بناها أراد أن يعطيها طابعا عربيا إسلاميا. آخذا في الاعتبار الطواف حول الكعبة الذي يتم من اليمين، وكذلك أسوة بلغة الضاد، فيما يرجح آخرون بأن مهندسها الأندلسي محمد تغرينو، أرادها أن تشير أبدا إلى الجهة التي جاء منها خلف جبل طارق مع الآلاف من بني قومه المعروفين بالموريسكيين في آخر دفعة أمر الملك الإسباني فيليب الثالث بتهجيرها مع اليهود بداية القرن 17.

تعطلت هذه الساعة الأعجوبة مدّة ثلاث قرون، تجمدت عقاربها في المكان والزمان، وانتظرت إلى عام 2016 حين جاء المهندس التونسي عبدالحليم الكوندي، وهو من أسرة أندلسية عريقة في تستور، فأعادها إلى ما كانت عليه بفضل تبرعات رمزية من أهالي المدينة التي تتباهى بأنها أسبق من براغ وفلورنسا في احتضان ساعة عكسية الدوران بل أنها الأعمق في امتلاك أسرار هذا الحنين الموجع الشفاف مثل أندلسي وقد هرّب الموشحات في حنجرته، كما هربت زوجته مصوغها في كعك النسرين ثم استقر مفتاح بيته القشتالي في صدر منزله التستوري.. وساعة الجامع الكبير هي الشاهد الأزلي.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى