ستنتهي الحرب

فاقت فظائع الحروب التي تشهدها منطقتنا منذ سنوات كلّ ما حاولت السينما العالمية مقاربته من ويلات الحروب التي عرفتها البشرية سابقاً. تحوّل الموت هنا إلى حدث يوميّ يذكر عرضاً في نشرات الأخبار، قبل أن تتابع التلفزيونات بثّ برامجها الترفيهية للمشاهد عينه الذي يتابع تناول طعامه، أو شرب قهوته. مدنٌ عريقة بتاريخها الممتدّ إلى آلاف السنين تئن تحت وطأة الأسلحة، التي حوّلتها إلى دمار، وتلاشت منها شوارع كانت حتى وقت قريب تغصّ بمواطنيها الذين اعتادت حجارة أرصفتها وقع خطاهم.

لم يعد مستغرباً مشهد الجثث المشوهة ملقاة على الأرض تشخص إلى السماء بعيون بيضاء، ولا مشهد جثث الغرقى يلفظها البحر على شواطئه مدثراً إيّاها بالزبد، ولا مشهد جثث تجمّدت في ثلاجات سيّارات النقل على حدود دول أوروبية بعيدة كانت لهؤلاء بمثابة ملاذ من موت محقق في بلدانهم على أيدي الأفرقاء المتحاربين. في زمن الحرب، يغدو الإنسان سلعة رخيصة تهدّد حياته رصاصة باهظة الثمن، يمتلكها قاتل لا تعوزه الجهات الممولة المستعدة لتسديد ثمنها. في زمن الحرب، يقضي الكثير من المواطنين جوعاً حين تغدو لقمة العيش صعبة المنال، ينبري الإعلام للحديث عن مناطق محاصرة تتضوّر جوعاً، لتكون الأجساد النحيلة وسيلة جديدة في حربه ضدّ من لا يعدم وسائل مشابهة لمواجهته، ويتجاهل الطرفان أعداداً أكبر من مواطنين يقتلهم الجوع دون حصار، فهم ما عادوا يمتلكون ثمن قوت يومهم، وفيما المتحاربون يهددون أرواحهم بكل صنوف الأسلحة، يجد فيهم الممولون السلعة المناسبة أكثر لتحقيق مزيد من الأرباح تحوّلهم إلى أثرياء حرب.

في زمن الحرب، وبينما يموت الإنسان قتلاً، أو جوعاً، أو برداً سيجد دائماً من يتحدّث ويفاوض ويتاجر باسمه، لن ينتبه الجوعى ولا الموتى ولا النازحون ولا المصابون إلى غرف دافئة تجمع أطرافاً من الأفرقاء المتحاربين يناقشون إعادة الإعمار، ويوزعون مكاسبها في ما بينهم، قبل أن يعطي كلّ منهم الأمر لرجاله بالمزيد من القتل والتدمير.

****

فيما تدمع عين مواطن لرؤية منزله وقد تحوّل ركاماً، ثمّة عيون تلمع وقد وجدت فيه عقاراً صالحاً للاستثمار لاحقاً.

*****

في الحرب، لا يمتلك أحد إجابة مقنعة، ولا يمتلك أحد جرأة توجيه سؤال إلى شبيه له في الخندق المقابل. لكن في الحرب يبدو الجميع متيقّناً. اليقين، البوابة المشرعة على الخواء، وقود الحرب الذي لا ينفذ.

*****

في الحروب، وحدهم الضحايا وصلوا إلى أجوبة مقنعة حين كانوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة.

*****

في زمن الحروب، يفكّر الأزواج بإنجاب المزيد من الأطفال الذكور تعويضاً عمّن أكلتهم الحرب.

*****

ليس ثمّة حرب تستمرّ إلى ما لا نهاية. كلّ حرب مآلها أن تنتهي. وفي النهاية سيغسل الجميع أيديهم من دماء الضحايا. وسيجد أمراء الحرب الوسائل لتبرئة أنفسهم. سيصافح الأعداء بعضهم بعضاً، داعين من أخطأتهم الحرب وأبقتهم على قيد الحياة إلى نسيان الزمن الأسود، والتطلع إلى مستقبل يسعون إلى إعماره لما فيه خير الأجيال القادمة.

*****

ستنتهي الحرب، ويعود المواطنون إلى ديارهم التي أعيد إعمارها وفقاً لمصالح ورؤية تجار الحرب، وزعمائها. سينبري الكتّاب لتأليف روايات عن الحرب، والتشرد، والنزوح، والموت. سيصنع السينمائيون أفلاماً تصوّر وحشية الحرب. ستنشأ جمعيات أهلية تحت عنوان “كي لا ننسى”. سيؤلف الناجون نكاتٍ عن الحرب يروونها في ما بينهم وهم يشتمون الفساد الذي يتاجر بلقمة عيشهم بعدما تاجر بأرواح آبائهم ودمائهم.

بعد الحرب، سيظهر من يعلنون كلّ يوم “الله يرحم أيام الحرب، كنّا عايشين أحسن من هلق”.

سيعود الكثيرون من بلدان النزوح يرطنون بلغات أجنبية، ويحملون معهم أبناءً لم يعرفوا بلدانهم الأم، لكنهم تربّوا على حبها، وعادوا للتعرف إلى مسقط رؤوس آبائهم. سيختار أحدهم البقاء، مع الحرص الشديد على جواز سفره الأجنبي، فهو لم ينس أنّ والده غرق في المتوسط لأنه لم يمتلك جوازاً مثله.

سيشهد أبناء المنطقة على حروب تدور في مناطق أخرى من العالم وهم يتمتمون: “ألم يروا ما عشناه؟ لن تجلب لهم الحرب غير الخراب الذي حصدناه سابقاً”.

ستتوقف الحرب يوماً. وحتى ذلك الوقت، ستواصل نشرات الأخبار إحصاء جثث الموتى كلّ يوم، ومواكبة مراكب النازحين، وتصوير الركام، وتقديم معلومات دقيقة حول الأعمال العسكرية، ونسبة الدمار التي تزداد كل يوم. وحتى ذلك الوقت، سيبقى إنسان هذه المنطقة رهينة تجار الحرب والسلاح، ووقوداً لإضرام الصراع، جاهلاً أنّ جسده وروحه باتا جسراً يعبر فوقه المتحاربون بغية الوصول إلى أهداف، وحدهم يعرفونها بدقّة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى