كتب

سخرية من الخلافات السياسية واللاهوتية في ‘طفل الجبانة’

سخرية من الخلافات السياسية واللاهوتية في ‘طفل الجبانة’ حيث ينتمي الأديب والسيناريست والشاعر السلوفاكي دوشان ميتانا، إلى طليعة أدباء الكتابة التجريبية وما بعد الحداثة في الأدب السلوفاكي، تتميز قصصه القصرية ورواياته بالإثارة والمبالغة والغموض والتناقض الذي يبلغ حد العبثية، وتعد روايته “طفل الجبانة”، التي ترجمها أخيرا أستاذ اللغة التشيكية والترجمة بكلية الألسن جامعة عين شمس د.خالد البلتاجي، واحدة من روائع الأدب السلوفاكي وتتمحور حول المشاهد المبتذلة من الحياة اليومية التي يمكن أن تحدث في أي قرية سلوفاكية في خلال فترة الستينيات من القرن الماضي، مثل العلاقات الأسرية، ثرثرة أهالي القرية، ومناقشات الخلافات السياسية واللاهوتية في الحانات وفي المنزل، بناء المنازل، والعمل في تعاونية محلية، ودعم فريق كرة قدم محلي، وما إلى ذلك مما يشكل طبيعة الحياة اليومية.

السرد في الرواية الصادرة عن دار ترجمان ينفي أي تشابه مع الواقعية، حيث تذهب غرابة القصة، والمبالغات السردية الساخرةو المتهكمة إلى الواقعية السحرية. يستخدم ميتانا مقاربات واقتباسات مختلفة في كتابه. الجبانة أو المقبرة هنا هي المكان والزمان في نفس الوقت. إنها مقبرة واحدة (حقيقية/ علمية) وسلوفاكيا بأكملها. بالرغم من أن هذه المقبرة تقع على أطراف القرية وتتوارث إدارتها عائلة الحانوتي، إلا أنها تعد المركز الأقرب الذي تتمحور حوله حياة القرية وأفكار الإنسان وحواراته. تلتقي هناالمسيحية بالوثنية، الروح بالروح، والمبتذل بالمحترم، والروتين اليومي العادي يمتزج بالأحلام والرؤى والنبوءات الغريبة. حول موقع المقبرة تتعايش الأفكار مع الناس أولئك الذين يعيشون بسعادة مع الذين ماتوا.

منذ البداية، نتابع حيوات حياة عائلة الحانوتي، هناك ثلاثة أجيال لعائلة واحدة، شخصية “مهنتهم” الموروثة ـ دفن الموتى ـ تعطي الحدث برمته “روحانية” خاصة. دوشكو باسا هو الراوي وراوي كل شيء. بصرف النظر عنه، يواجهنا المؤلف بلا رحمة بالطبيعة (في أكثر اللحظات عبثية وحتى بدائية) لجده أو والده أو والدته أو أخيه سيرفاك. ثم هناك القس الأب دومنيك والرجل العجوز فيديبوس/ المجري، الذي يقتل في النهاية ، بشكل رمزي قليلاً ، ولكن بشكل خاص في فوضى جنونية، الشخصية الرئيسية في القصة – جد الراوي الذي سبق ذكره. لقد وضع الروائي أسس بناءهالسردي على تجارب اجتماعية وبراغماتية وعاطفية غامضة أخلاقياً.

الحانوتي/حفار القبور وزوجته، غالبًا ما يكونا مصدرًا للسخرية بسبب بساطتهما وسذاجتهما، الحانوتي لا يحاول حتى فهم ضيق أفق النظام الاجتماعي، فهو راضٍ عن وظيفته في المقبرة التي أخذها بعد والده ورفض أي عرض للتنازل عنها، يتم تقديم الأكبر (الأب إلياس) والأصغر (الأخ الأكبر سيرفاك والأخ الأصغر بانكراتش) “بجدية أكبر” – لقد شكلوا تحالفًا بفضل التقاليد، وعثروا على أرضية مشتركة بفضل قصص مقبرة جدهم التي رواها أحد الأحفاد.

تصف الرواية بأسلوب فكاهي وساخر في بعض الأحيان مرحلة بلوغ الراوي، تلتقط بيئة القرية وتقدم مجموعة كاملة من الشخصيات الغريبة والرائعة. ومع ذلك ، فإن قصة بلوغ سن الرشد والنضج تحتوي أيضًا على ملاحظات أكبر وأكثر شمولية يمكن أن توفر مادة لتحليل اجتماعي للعلاقات الشخصية للقرويين خاصة العلاقات الطائفية والخلافات الأيديولوجية.

يذكر أن أول أعمال الروائي دوشان ميتانا (1946 ـ 2019) مجموعته القصصية “أيام صعبة” وهي واحدة من أفضل المجموعات القصصية في الأدب السلوفاكي، نشر بعدها العديد من الروايات منها “نهاية اللعبة”، و”البحث عن أديب تائه”، “عودة المسيح”، وآخر رواياته هي “التائه” وصدرت عام 2019 وهو العام الذي مات فيه بعد أن سقط من الطابق الخامس في أحد أحياء العاصمة السلوفاكية برانسلافا.

مقتطف من الرواية

هذا صحيح حتى اليوم، بعد أربعين عاما على وفاته مازلت أراه في أحاديثالمساء، وبدلا من الإجابة عىل سؤالي الملح: ”كيف هو الحال على الجانب الآخرللوجود“، أراه يهز يديه، ويقول: ”عادي، لا أحد يعرف لماذا تسير الأمور علىما هي عليه، لكنهم يعرفون جميعا أنها لابد أن تكون هكذا، وأنها في أفضلأحوالها، وكما ينبغي لها أن تكون“.

هكذا أسسنا في منطقتنا حالة تسامح مطلق مع كل الأديان، دفنا موتىالكاثوليك بجوار بعضهم، وكذلك فعلنا مع اللوثريين والملحدين، لا نفرق بينمؤمن وكافر، ولم يشكونا أحد منهم حتى الآن، أو على الأقل لم أسمع عن أيشكوى صدرت من أحد منهم، لكن من يدري، أي إدارة مسؤولة عن أمر هذهالشكاوى.

جاءت أمي من المطبخ مثل سمكة كبيرة تطفو عىل سطح حوض أسماك، تحمل في يدها كأسا للسيد القس.

اعرتض دومينك قائلا: ”كلا، حاشى لله، لن أشرب“.

قال جدي متسائلا: ”ملاذا تظن أنها أحرضته لك؟“.

ربت على كتف الضيف، ثم أضاف كي يخرج الضيف من ارتباكه: ”لا تخف، يا أبانا، نحن نحبك، لكن ليتهم يعفونك من هذه العنوسة، وقتها ستؤسس فريقملاكمة خاصا بك“.

قالت أمي: ”اخرس، يا جدي، بالله عليك“.

شعرت بالأسف على الكاهن المسكين؛ اشتعل وجهه حمرة وكأن الشياطين وضعوه في موقد – وعجز عن رد هذه الوقاحة.

قال جدي بنبرة تأنيب ضمير: ”يا أبانا، لم أقصد الإهانة“.

يبدو أنه لم يجد هذا الاعتذار كافيا، فأضاف يسترضيه: ”يا لخجلك، واحمرار وجهك الجميل“.

حاولت أمي الدفاع عن سمعة أسرتنا الطيبة، فقالت: ”دعك منه، سيدي القس، إنه سكران، أسرف في الشراب عند فيديبوس، ولا يعرف ما يقول، ويخلط الحابل بالنابل“.

التقط القس طرف الخيط، وقال: ”صحيح، يا إلياس، أنت أقرب أصدقاء فيديبوس، ماذا حدث مع مهندسي المساحة؟ سمعت أنه أراد أن يقتلهم جميعا بالفأس“.

ثم رمى أمي بنظرة صبيانية بريئة مليئة بالعرفان، وأضاف: ”في الواقع لابد أن تفعل شيئا حيال هذا كي لا يصل إلى حد القتل“.

صبت أمي النبيذ، وقدمت كأسا للكاهن، بينما التزمنا جميعا الصمت، كنا في حالة ترقب لما سيفعله، قال: “أشكرك، لن أشرب”، قالت أمي للمرة الثانية: “بالله عليك، اشرب شيئا”، فأجابها: “أشكرك، حقيقة، لن أشرب”، فقالت أمي:”هذا يشعرنا بالإهانة“، فاستجاب السيد القس أخيرا لطلبها، أمسك كأسا ممتلئا ورفعه وكأنه يرفع ثقلا، قال “طالما أنت مرة”، ثم خاطبنا جميعا: “في صحنكم!”، سادت بيننا حالة من الرضا العام ـ وتقبل ما قدمناه من طعام بعد الكأس الرابع، قالت أمي: “تفضل بالهناء”، ثم جلست راضية.

جلست أمي، وأنا أفكر في كافكا مهندس المساحة، نعم، أعترف بكل صراحة أني أحب فرانز كافكا، بسبب نشوزه وعجزه أو قلة حيلته في العثور على مكان ينتمي إليه بالفعل، مكان يتوقف فيه وهو يبحث عن موطنه، ويمكنه أن يعلن منه أخيرا، ويقول: هذا هو بيتي، أخيرا وجدته، سأطلق جذوري في هذا المكان ولن يقتلعها أحد، نعم، لهذا هو قريب مني، بسبب هذه الجذور! حتى أنا لا أقدر على أن أطلق جذوري، فأين يطلق الإنسان جذوره؟ أمر طبيعي أن يطلقها في المكان الذي ولد فيه.. أفضل مكان يطلق فيه الإنسان جذوره هو مسقط رأسه، في أرض أشجار السنط والبندق والبلوط والصنوبر، لكن الأمر ليس سهلا عندما يولد الإنسان في المقابر، أن تطلق جذورك وسط المقابر، تحت أرض الجبانة؟ حتى أشجار البرقوق لا تنبت فيها، أفهمك، يا أخي فرانز! حزينة هي شجرة تنبت وسط المقابر.

وبينما أكتب هذا الاستطراد مستلهما كافكا واصل جدي الحديث عن قضية فيديبوس: ”إنهم يشرعون في بناء مكتب بريد أمام بيت هذا المسكين، أنا أتفهمه، ما قيمة الحياة وجبانة خلف بيتك، ورجال بريد أمامه، الأفضل له أن يذهب إلىالمدينة، إلى تلك… الأتياه السكنية“.

يرد القس بلين: “تقصد الأحياء السكنية؟“.

قلت أحذر ضيفنا: ”يا سيدي القس، لا تحاسبنا على الكلمة“.

قالت أمي: “إنه حزين على أشجار البرقوق، مما سيصنعون الخمر؟“.

استوقفها جدي قائلا: ”أنت لا تفهمين شيئا، يا امرأة، يا أبانا، أؤكد لك أن حالة فيديبوس سيئة، يوما ما سيصاب بالجنون“.

هذه المرة اعترضت أمي حديثه، في لعبة بينهما تشبه البينج بونج، كعادتهما:

سيصاب به من ألاعيبك“.

قال الكاهن وهو يحاول السباحة ضد التيار: “لا تغضب مني، يا إلياس، لكن السيدة محقة، إنها أمور خطيرة، أنتم تطلقون قوى يمكن أن يستخدمها إبليس وشياطينه ضدكم“.

لطمت السيدة فخذها الأيمن بابتهاج، وقالت: ”مرحى بالسجال“.

قلت أصلح الجملة: “بل بالحوار“.

ردت تدافع عما قالته: ”غدا موعد درس اللغة، وليس اليوم“.

أضاف الحانوتي مدافعا عنها: “دعها وشأنها، أيها الولد“.

لكن جدي قال يدعمني: “بنكراتس على حق، لابد من إصلاح أي إساءة إلى اللغة السلوفاكية الفصحى بكل حزم، في كل زمان ومكان”.ابتسمت، وقلت مؤمنا عىل كلامه: “على قولك، تذكر أنها أحياء سكنية وليست أتياه سكنية“.

زار جدي مؤخرا مدينة براتسلافا العامرة بالسكان، وظلت ذكرى هذه الزيارة تطارده حتى الممات، شارك في رحلة بالحافلة نظمتها إدارة كرة القدم في منطقتنا بغرض المشاركة في مباراة دولية: لعب فريق سلوفان مع فريق بوتافوجو، على ما أظن، لم يرغب جدي في السفر معهم، لكن فيديبوس المغرم برياضة كرة القدم ظل يلح عليه، ويستجديه، ويلتمس موافقته حتى تمكن من إقناع صديقه إلياس، فرأيت سيركا قال الحانوتي الذي شارك في تلك الرحلة التاريخية: ”أعجبتني تلك العمائر، على الأقل لست مضطرا إلى تغذية الموقودة باستمرار“.

صادفت المدافئ هوى في طبيعته الكسولة.

قلت أصلح ما قاله: “تغذية المدفأة“.

قال الكاهن بلكنة فلسفية: ”لكل شيء مزاياه وعيوبه، حتى التدفئة المركزية“.

ثم أضاف باستحسان: “رأينا على الأقل فيلا بشحمه ولحمه“.

رد عليه جدي:

ـ “هذا صحيح لكننا حضرنا مبارة كرة القدم“.

ـ “طرائق العناية الإلهية لا تحتسب“.

اعترض جدي قائلا “لكن الأمر يتوقف على سائق الحافلة“.

قلت تعقيبا على ما قاله جدي:

ـ “بل على حالة الطريق ومستوى الرؤية، مرميلادا سائق جرارات متمكن“.

ـ “كان“.

قال الحانوتي موجها حديثه إلى جدي: “هذا صحيح لكن لا تنس الأهداف الثلاثة التي سجلها في المباراة“.

قال الكاهن دومنيك “هذا صحيح، يوشكو كان أحد أفضل الشماسين، بعون الله رفع راية منطقتنا عاليا”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى