كتب

‘سيدتان جادتان’ بحياة مليئة بالأخطاء

‘سيدتان جادتان’ بحياة مليئة بالأخطاء…. تلتقي كريستينا جويرنج والسيدة كوبرفيلد في حفل في إحدى ضواحي نيويورك: أحدهما عانس ثرية، والآخرى متزوجة، وتسعى كلتاهما للهروب من محيطهما الاجتماعي الخانق، وعلى الرغم من أن المسارات التي يختارانها في بحثهما عن الخلاص تفصلهما بعيدًا. تخلت الآنسة جويرنج عن منزل عائلتها، وتنتقل إلى منزل متهدم على جزيرة نائية، لكن الزهد يؤدي بسرعة إلى مواجهات بغيضة مع رجال غرباء، فيما ترافق السيدة كوبرفيلد زوجها في رحلة بحرية إلى بنما، لكنها تقع في حب عاهرة مراهقة تدعى “باسيفيكا” وتصر على علاقتها بها مؤكدة أنها أخيرا وجدت الحب الذي طالما بحثت عنه، ومتخلية عن زوجها الوسيم.

هاتان السيدتان اللتان تنتميان لطبقة الأثرياء هما محور رواية الكاتبة جين بولز “سيدتان جادتان” التي نشرت للمرة الأولى عام 1943 وترجمها وائل عشري أخيرا وصدرت عن دار الكتب خان، تبدأ الرواية بكريستينا جويرنج شابة صغيرة، معزولة ومكروهة من قبل الفتيات الأخريات رغم محاولاتها التقرب لهن، ربما لغرابة تصرفاتها وعصبيتها، وملابسها الثقيلة الداكنة غير المنسجمة مع الموضة، وأيضا طريقتها الغريبة في الكلام، ترتدي مظهر بعض المتعصبين الذين يعتبرون أنفسهم قادة دون أن يكتسبوا مرة واحدة احترام الإنسان ذات مرة. في محاولة للدخول في محادثة ودية مع امرأة في القطار، أخبرها المحصل أن تتوقف عن التحرش بالركاب. لم تكن مدركة لغرابتها أو ربما مدركة لكنها لا تبالي بتأثيراتها، حتى ليبدو أنها تفعل كل ما في وسعها لرفض الحياة المتوقعة منها.

وفي الحفل الذي تلتقي فيه بالسيدة كوبرفيلدتلتقي بأرنولد، فنان محتمل، وتعود معه إلى المنزل، وتلتقي بأهله، والده. وتختار أن تنتقل معه ومع صديقتها الخجولة جاميلون إلى كوخ متهالك على جزيرة مهجورة، متخلية عن ثروتها ومنزلها الفيكتوري الفخم خارج مدينة نيويورك، لكنها بعد الضغط بكل ما في وسعها للخروج من تلك البيئة الغريبة، تسافر إلى بلدة مجاورة؛ هناك تقيم علاقة غرامية فاترة مع متشرد عابس، ثم تتركهمن أجل رجل عصابات قوي البنية ولديه مشكلة في الألفاظ التي ينطقها ويخطئ مرة ويصفها بأنها عاهرة. لكنها تحبه أكثر لخطئه، وفي الواقع، هذا يمثل بداية “علاقتهما”.

أما السيدة كوبرفيلد فقد استهلكت مغامراتها في بنما فكرة الخطيئة، حيث تترك الفندق الذي تقيم فيه مع زوجها رافضة الزخارف الفخمة والرائعة، وتنتقل إلى فندق متهالك كانت قد التقت فيه نساء شعرت بالألفة معهن على الرغم من أن حياتهن مليئة بالفقر والدعارة، وهي حياة كانت بعيدة كل البعد عن حياتها، حيث تدرك أن هؤلاء النسوة يمتلكن نوعا من الحرية والقوة التي تفتقر إليها، ومن ثم كانت تشعر في وجودهن بالنشاط والقوة، ومن بين هؤلاء تقيم علاقة عاهرة مراهقة تدعى باسيفيكا، وتقوم هذه الأخيرة بتعليمها السياحة، وتبدأ العلاقة بينهما في أخذ منحى مثلي، حيث يبدو أن الجنس – الذي يُفهم في حد ذاته على أنه تجاوز فاسق – مهم للتقدم ببطء نحو بعض الخلاص غير المحدد والضروري تمامًا للسيدة كوبرفيلد.

إن شخصيات الرواية تبدو في غير مكانها، وكأنها ولدت في الوقت الخطأ، وارتدت الزي الخطأ، وتمارس الحياة بالطريقة الخطأ، حتى ليمكن وصف حركة السيدتين الآنسة جويرنج والسيدة كوبرفيلد أنها امرأتان تستسلمان لرغبتهما، تلك الرغبة المتمثلة في البحث عن “أي شيء شرير”. إنهما تسعيان إلى حافة تلك الأشياء التي يمكن للمرء أن ينطلق منها: الكوارث، الهاوية، الجنون، الحب؟.

إضافة إلى هاتين السيدتين كان من الواضح أن الشخصيات النسائية في الرواية يفتقرن إلى شيء مهم في حياتهن ووجودهن، حتى لو لم يكن بمقدورهن التعبير عنه أو حتى البحث عنه بشكل مناسب، فقد شعرن بشيء مفقود في حياتهن وقد سعين وراءه، لقد كن يعانين من أزمة وجودية.

يشار إلى أن الكاتبة جين بولز (1917-1973)، أميركية ولدت في نيويورك لأسرة ثرية، وتوفيت في مالقة بإسبانيا، ورغم قلة إنتاجها الأدبي، حظيت بتقدير وإشادة واسعين من قبل معاصريها، حيث وصفها ترومان كابوتي بـ “الأسطورة المعاصرة”، وأشار تينيسي ويليامز إلى روايتها باعتبارها كتابه المُفضل، وتتضمن أعمالها مسرحية “في البيت الصيفي” ومجموعة قصصية بعنوان “متعٌ عادية”، بالإضافة إلى روايتها الوحيدة “سيدتان جادتان” التي صدرت عام 1943. أما المترجم وائل عشري، فحاصل على الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة نيويورك في عام 2009. من كتبه “سأم نيويورك” قصص، “الإغراء قبل الأخير للسيد أندرسون” قصص. كما صدر له أيضًا عن الكتب خان كتاب “فرناندو بيسوا: رسائل ونصوص”، من ترجمته وتحريره.

مقتطف من الرواية

وقفتا والماء يصل حتى أفخاذهما، تواجهان الشاطئ وأشجار النخيل. بدت الأشجار كما لو كانت تتحرك خلف الضباب. كان الشاطئ بلا لون. خلفهما كان ضوء السماء يزداد بسرعة كبيرة، لكن البحر كان مازال أسود تقريبا. لاحظت السيدة كوبرفيلد قرحة حمى حمراء على شفة باسيفيكا. كان الماء يقطر من شعرها فوق كتفيها.

التفتت مبتعدة عن الشاطئ وجذبت السيدة كوبرفيلد للخوض أبعد في الماء. تشيثت السيدة كوبرفيلد بذراع باسيفيكا تشبثا شديدا. وسرعان ما وصل الماء حتى ذقنها.

“الآن استلقي على ظهرك، سوف أحملك من تحت رأسك” قالت باسيفيكا.

تلفتت السيدة كوبرفيلد حولها بجموح، لكنها أطاعت، وطفت فوق ظهرها فقط بمساعدة من ذراع باسيفيكا المفرودة تحت رأسها كي تقيها الغرق. كان بوسعها رؤية قدميها الصغيرتين طافيتين على صفحة الماء. بدأت باسيفيكا في السباحة، ساحبة السيدة كوبرفيلد معها. بما أنه لم يكن بإمكانها سوى أن تستخدم ذراعا واحدة فقط، فقط كانت مهمتها شاقة وبعد قليل أصبح تنفسها مثل تنفس ثور. كانت لمسة يدها تحت رأس السيدة كوبرفيلد خفيفة جدا ـ في الحقيقة، خفيفة جدا إلى درجة أن السيدة كوبرفيلد خشيت أنها ستترك بمفردها في أي لحظة.

نظرت إلى أعلى. كانت السماء تكتظ بغيوم رمادية. أرادت أن تقول شيئا لباسيفيكا، لكنها لم تجرؤ على الالتفات برأسها.

سبحت باسيفيكا بعيدا قليلا. وقفت فجأة ووضعت كلتا يديها بثبات على الجزء الضيق من نهاية ظهر السيدة كوبرفيلد. شعرت السيدة كوبرفيلد بالسعادة والسقم في آن. التفتت بوجهها وفي فعلها هذا مست بطن باسيفيكا الثقيل مسة خفيفة بخدها. تشبثت بفخذ باسيفيكا بقوة أعوام من الأسى وخيبة الأمل في يدها.

“لا تتركيني” نادت.

في تلك اللحظة تذكرت السيدة كوبرفيلد بقوة حلما تكرر كثيرا في حياتها. يطاردها فيه كلب إلى أعلى تل صغير. في قمة التل ثمة بعض أشجار الصنوبر ومانيكان طولها ما يقارب ثمانية أقدام. اقتربت من المانيكان واكتشفت أنها صنعت من اللحم، لكن من دون حياة. كان ثوبها من مخمل أسود، يضيق جدا في نهايته. لفت السيدة كوبرفيلد إحدى ذراعي المانيكان بقوة حول خصرها. جفلت من غلظة الذراع وسرها ذلك. أما ذراع المانيكان الأخرى فثنتها إلى أعلى عند المرفق بيدها الحرة. ثم بدأت المانيكان في التأرجح إلى الأمام وإلى الخلف. تعلقت السيدة كوبرفيلد بالمانيكان أكثر، ومعا سقطتا من أعلى قمة التل واستمرتا في التدحرج لمسافة كبيرة حتى وصلتا إلى ممشى قصير، حيث ظلتا متعانقتين. كانت السيدة كوبرفيلد تفضل هذا الجزء من الحلم؛ وحقيقة أن الطريق بأكمله إلى سفح التل أدت المانيكان دور عازلبينها وبين الزجاجاتالمكسورة، وأن الأحجار الصغيرة التي سقتا فوقها أعطتها إشباعا خاصا.

بعثت باسيفيكا الحياة في المحتوى العاطفي لحلمها للحظ، وهو ما فكرت السيدة كوبرفيلد أنه بالتأكيد سبب بهجتها الغربية.

“الآن” قالت باسيفيكا، “إن لم تمانعي فسوف أسبح مرة واحدة أخرى بمفردي. لكنها ساعدت أولا السيدة كوبرفيلد على أن تقف على قدميها وقادتها عائدة إلى الشاطئ، حيث تهاوت السيدة كوبرفيلد على الرمل ورفعت رأسها مثل وردة ذابلة. كانت منهكة وترتعش مثلما يكون المرء بعد تجربة حب. رفعت عينيها إلى باسيفيكا، التي لاحظت أن عينيها كانتا أكثر بريقا ونعومةمما رأتهما في أي وقت سابق.

“عليك أن تذهبي إلى الماء أكثر” قالت باسيفيكا؛ “تبقين في البيت أكثر مما يجب”.

جرت عائدة إى الماءوسحبت ذهابا وإيابا عدة مرات.كان البحر أزرق الآن وأكثر هياجا مما كان عليه من قبل. في أثناء سباحتها استرخت باسيفيكا برهة فوق صخرة كبيرة مستوية السطح كان المد المنحسر قد كشفها. كانت مباشرة تحت مسار الأشعة الباهتة للشمس الغائمة. وجدت السيدة كوبرفيلد صعوبة في أن تراها وسرعان ما سقطت في النوم.

بمجرد عودتهما إلى الفندق، أخبرت باسيفيكا السيدة كوبرفيلد أنها ستنام مثل شخص ميت. “أتمنى ألا أستيقظ لعشرة أيام” قالت.

“سوف أنام لأسبوعين”، قالت مرة أخرى، ثم دخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها. في غرفتها هي، قررت السيدة كوبرفيلد أن من الأفضل لها أن تمر السيد كوبرفيلد. هبطت إلى الدور الأرضي وخرجت إلى الشارع، الذي بدت الحركة فيه كما لو كانت في اليوم الأول من وصولها. كان هناك بالفعل بعض الناس جالسين في شرفاتهم وينظرون إليها. كانت فتاة نحيفة جدا، مرتدية ثوبا حريريا أحمر ينسدل حتى كاحليها، تعبر الشارع في اتجاهها. بدت صغيرة على نحو يثير الدهشة وناضرة. حين أصبحت السيدة كوبرفيلد أقرب إليها قررت أنها ملايوية. جفلت قليلا حين توقفت الفتاة أمامها مباشرة وخاطبتها بإنجليزية لا شائبة فيها.

“أين كنت كي يكون شعرك مبللا تماما؟” قالت.

“كنت أسبح مع صديقة لي. ذهبنا إلى الشاطئ”. لم تشعر السيدة كوبرفيلد برغبة كبيرة في الحديث.

“أي شاطئ؟” سألت الفتاة.

“لا أعرف” قالت السيدة كوبرفيلد.

“حسنا، هلى مشيتما إلى هناك أم أخذتما سيارة؟”

“أخذنا سيارة”.

“لا يوجد أي شاطئ قريب بما يكفي كي يمشي إليه، على أي حال” قالت الفتاة.

“لا، أظن أنه لا يوجد”. قالت السيدة كوبرفيلد، متنهدة ومتلفتة حولها. كانت الفتاة تسير بجوارها.

“هل كان الماء باردا؟” سألت الفتاة.

“نعم ولا” قالت السيدة كوبرفيلد.

“هل سبحت في الماء عارية مع صديقتك؟” “نعم”.

“إذن لم يكن هنا أي أحد في المكان، على ما أعتقد”.

“لا، لم يكن هناك أحد هناك. هل تسبحين؟” سألت السيدة كوبرفيلد الفتاة.

“لا”، قالت “لا أقترب أبدا من الماء”. كان للفتاة صوت حاد. وشعرها فاتح اللون وكذلك حاجباها. كان من الممكن أن تكون نصف إنجليزية. قررت السيدة كوبرفيلد ألا تسألها.

ميدل إيست أنلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى