دراسات

سيرة اليمين الإسرائيليّ بشخص بنيامين نتنياهو [7]

يزهو نتنياهو بعدد الغارات التي شنّتها إسرائيل ضد أهداف في سوريا («المرصد السوري لحقوق الإنسان» يفتي دائماً أن إسرائيل لا تصيب إلا أهدافاً عسكريّة لأن قلوب الصهاينة تاريخيّاً رقيقة جداً نحو العرب. وهو أحياناً يبالغ في عدد ضحايا القصف الأميركي والإسرائيلي لزيادة الدعم الشعبي لهما). والغارات الإسرائيليّة هذه أسعدت الأنظمة الخليجيّة التي أخذت على أميركا انخفاضاً في عدوانيّتها في الشرق الأوسط. واتفق بوتين ونتنياهو على التنسيق الدائم في شأن الغارات الإسرائيليّة لمنع حدوث ما يمكن أن يصيب الطائرات الروسيّة بأذى، كما حدث في عام 2018 (لكن نتنياهو حمّل النظام السوري المسؤوليّة عن إسقاط الطائرة الروسيّة). ودعاه بوتين لزيارة موسكو في عام 2018 لحضور حفل ذكرى الانتصار على النازيّة في الحرب العالمية الثانية (من المفارقة ألا يتذكّر الرجل الذي يتأسّف على انهيار الإمبراطوريّة السوفياتيّة الدور الإسرائيلي المؤثّر في الحرب ضد الاتحاد السوفياتي والتجسّس ضد مصالحه). بُهرَ نتنياهو بالقوّة العسكريّة الروسيّة، وزار دول الـ«فايزغراد» والبلطيق وأوكرانيا. كل هذه الدول، يقول نتنياهو، تحترم إسرائيل كثيراً وتنشد الصداقة معها. ويتحدّث عن ذلك الاجتماع في القدس بين مسؤولي الأمن القومي في الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وأن الكلّ اتفق على ضرورة خروج القوّات العسكريّة الإيرانيّة من سوريا. هذا من صنع من يُطلق بعض الممانعين عليه وصف «بو علي بوتين». كيف ننسى أن بوتين كان خير عون للعدوان والاحتلال الإسرائيلي عبر السنوات.

وفي عام 2016، التقى «سفراء عرب في واشنطن» مع السفير الإسرائيلي في واشنطن، رون ديرمر (وهو وزير حالي مُقرّب من نتنياهو، وصديق مقرّب من يوسف العتيبة، السفير الإماراتي في واشنطن). يقول نتنياهو إن السفراء العرب سألوا السفير الإسرائيلي: «ألا يدرك الأميركيّون أن الفلسطينيّين لا يريدون السلام؟». هكذا يتحدّث المسؤولون العرب مع الإسرائيليّين في الغرف المغلقة. أجابهم ديرمر أن إسرائيل تسعى لخطة «لا تستوجب أن يرفضها العرب وإسرائيل»، وأنها ستكون قاعدة لتطبيع العلاقات «بيننا وبينكم». جلس نتنياهو مع ديرمر ووضعا المبادئ الأساسيّة لتوجيه مفاوضاتهما مع الأميركيّين حول خطة سلام…أميركيّة. والقاعدة التي اعتمدها نتنياهو لسلام يقبله هو، ويقبله معه الحلفاء العرب في الخليج هي: 1) إن على الفلسطينيّين الاعتراف بإسرائيل كدولة يهوديّة ووقف أي مطالبة بأرضهم (هو قال «أرضها»)، و2) في المقابل، تحتفظ إسرائيل بالسيطرة العسكريّة والأمنيّة على غرب نهر الأردن (في المقابل؟ ماذا يجني الفلسطينيّون منها؟ أي أنهم يعترفون بيهودية الدولة الأبدية مقابل تشريع احتلال أبدي على فلسطين). وتصرّ إسرائيل في الخطة على ثوابتها: لا انسحاب إلى حدود 1967 ولا لعودة لاجئ فلسطيني واحد إلى الدولة اليهودية. وتبقى القدس موحّدة كعاصمة لإسرائيل مقابل أن تعترف أميركا بالسيادة الإسرائيليّة على كل المجموعات اليهودية في «يهودا والسامرة». وتمنع إسرائيل الاستمرارية الكيانية للشعب الفلسطيني وتقبل فقط بـ«مواصلات كيانيّة»، أي حق التنقّل في حافلات بين الأراضي المقطّعة في الضفة الغربيّة، وحول المستوطنات اليهوديّة المتنامية.

ونصل إلى الاتفاق الإبراهيمي (هذه التسمية حتماً نابعة من عقليّة مستشرق إسرائيلي هَرِم). يقول عن ثمار التطبيع الإسرائيلي-الخليجي إن الطائرات الإسرائيليّة باتت تطير فوق أرض السعوديّة وإن «الإسرائيليّين تدفّقوا إلى دبي وأبو ظبي والبحرين، وإن أقطاب الأعمال في إسرائيل والخليج انشغلوا بإتمام اتفاقيات، بينما وصلت بضائع خليجية إلى ميناءَيْ حيفا وأشدود. والإسرائيليّون والخليجيّون عانق بعضُهم بعضاً علناً. لم يكن ذلك أقل من معجزة». طبعاً، الواقع كان مختلفاً عن وصف نتنياهو الزهري. الاتفاق المذكور كان على مستوى الطغاة فقط، وطبيعة النظام التوتاليتاري في الإمارات والسعوديّة يستطيع أن يفرض تطبيعاً على الشعب، وأن يمنع أي مظاهر اعتراض، خصوصاً أن لا مجتمع مدنيّاً مسموحاً به في الدولتيْن. في مصر والأردن التطبيع رُفض بالقطع من قبل الشعب، والضغط الخليجي على الأردن ومصر اليوم من أجل أن يقلِّدا ويعتنقا وتيرة تطبيع الإمارات سيبوء بالفشل لأن الشعب في البلديْن سيمنع ذلك. ووكالة الـ«إي بي» نشرت أخيراً تقريراً تحدّثت فيه عن خيبة أمل إسرائيليّة من ندرة السياح الخليجيّين في فلسطين المحتلّة. ويقول التقرير إن إسرائيل توقّعت تدفّقاً من السياح من البحرين والإمارات وأن يترافق ذلك مع مظاهر ودّ معهم. لكن بعد سنتين من الاتفاقيات، لم يصل من السياح الخليجيين إلى فلسطين المحتلّة إلا «بالقطّارة» -حسب وصف التقرير- مقابل نصف مليون إسرائيلي وصلوا إلى أبو ظبي ودبي. ولم يزر إسرائيل إلا 1600 إماراتي، حسب وزارة السياحة الإسرائيلية، ولم تعدّ الوزارة رقماً عن السياح البحرينيّين بسبب قلّة عددهم. والعداء لإسرائيل لا يزال قويّاً في بلدان التطبيع الخليجي، حتى حسب استطلاعات «مؤسّسة واشنطن» الملغومة. أكثر من ذلك، إن الاستطلاعات تظهر تدنّي نسبة التأييد للاتفاقيات في البحرين والإمارات. ولم تكن مظاهر الرفض العربي لإسرائيل والإسرائيليّين في الدوحة (أثناء مباريات كأس العالم) إلا دليلاً إضافياً على رفض الشعب العربي لإسرائيل. والشعب الفلسطيني لا يخفي رفضه لزيارات وفود التطبيع. وعندما دبّرت حكومتا الإمارات والبحرين زيارة من قبل «مؤثّرين على المواقع» لفلسطين تعرّضوا للبصق والرمي بالنعال في المسجد الأقصى من قبل أصحاب الأرض. ومشروع التطبيع يعتمد، أوّل ما يعتمد، على طغاة متحكّمين يفرضون السلام مع إسرائيل بالقوة مقابل رضى أميركي ومنافع مالية أو تسليحيّة. يقول نتنياهو: «لقد وضعت أميركا الآن التطبيع على رأس أولويّاتها وهي مستعدّة لتقديم حوافز ملموسة لدول أخرى» كي تشارك في التطبيع. ولا يخفي الزعماء العرب أن دوافعهم من التطبيع هي أميركيّة الهدف محض. يقول وزير الخارجية المغربي لنتنياهو إن هدف التطبيع هو إقامة علاقات أقوى مع أميركا خصوصاً بالنسبة إلى الصحراء الغربيّة. قال نتنياهو: «اتفقنا أن نرى ماذا يمكن لواحدنا أن يفعل للآخر». هذه هي التبادليّة في العلاقة النفعيّة بين دول التطبيع وإسرائيل. دول الخليج تريد من إسرائيل توفير صفقات أسلحة متطوّرة من أميركا، وتريد منها تغاضياً أكبر عن جرائمها ضدّ حقوق الإنسان. والدول العربيّة والأفريقيّة الفقيرة تريد دوراً إسرائيليّاً في حثّ الحكومة الأميركيّة على تقديم مساعدات ماليّة لها (هذا كان حساب الطغمة الموساديّة في السودان).

ويروي نتنياهو القصّة العجيبة عن توفير لقاحات «فايزر» لإسرائيل قبل كل دول العالم قاطبةً. كنتُ أظنّ أن إدارة ترامب هي المسؤولة عن هذه الأسبقيّة في توفير اللقاحات. القصّة تتعلّق بطائفيّة وعصبيّة رئيس شركة «فايزر». اتصل به نتنياهو ولم يكن يعرفه، لكنه سمعَ قبل أعوام من رئيس وزراء اليونان أنه يهودي. الرجل انتشى من اتصال نتنياهو وأخبر نتنياهو أن زوجته لا تقلّ ابتهاجاً بالاتصال مع زعيم الدولة اليهوديّة. ورئيس شركة «فايزر» زعمَ في ما بعد أنه أعطى الأولويّة لإسرائيل لأن نتنياهو كان أوّل المتصلين. أي إن الشركة تبني قراراتها التي تهمّ الصحة العالميّة على أساس المحسوبيّة والواسطة الدينيّة والعلاقة الشخصيّة المبنيّة على رابط الدين. لو أن رئيس الشركة كان مسلماً وأمّن أول لقاحات لدولة إسلاميّة لكان تعرّض للفصل وكان الكونغرس الأميركي سيجري تحقيقاً في هذا الخرق الفظيع لأصول التعامل الخلقي في الأعمال. (وكان نتنياهو يتصل أيضاً برئيس الشركة المنافسة، «موديرنا»، لعلَّ وعسى.) ولا شكّ أن اتصال رئيس حكومة إسرائيل بأصحاب الشركات يحمل في طيّاته ليس فقط وزن القوة العظمى من ورائه، لكنه يحمل أيضاً الخوف لديهم من ردّ طلب زعيم لدولة تستسهل إطلاق وصف معاداة الساميّة على أي كان إذا لم يتماشَ مع مصالحها أو إذا لم يلبِّ طلباتها الكثيرة.

ولا يساور القارئ أو القارئة، عندما يقرأ وصفه لحربه ضد غزة في عام 2021، شكّاً أن نتنياهو هو مجرم حرب بحقّ وحقيق. يعترف: «أسقطنا عدة أبراج كان فيها قيادة لـ”حماس”»، ويتبجّح أنه قتل وقصف ودمّرَ، لكن بعدد محدود من الضحايا المدنيّين، حسب زعمه. طبعاً، بايدن لم يتردّد في تقديم كل الدعم لعدوان إسرائيل على غزة لكن كلام بايدن له كان ذا دلالات للمستقبل في العلاقات الأميركيّة-الإسرائيليّة. قال له بايدن: «بيبي. عليَّ أن أُعلمكَ أنني أتعرّض للكثير من الضغوطات من هنا. هذا ليس الحزب الديموقراطي (زمن) سكوب جاكسن». (وسكوب جاكسن كان سناتوراً شهيراً ومن عتاة الصهاينة وهو مسؤول عن التزمّت والتعصّب في التشريع الملائِم لإسرائيل في الكونغرس الأميركي. وكان يجمع بين مرض معاداة الشيوعيّة ومرض معاداة العرب). وهذه الإشارة لبايدن لم تكن تكتيكاً، خصوصاً أن بايدن من الثابتين في دعم عدوان إسرائيل. هو كان يحذّر نتنياهو من أن الحزب الديموقراطي تغيّر عن زمن السبعينيّات. القاعدة الحزبيّة تغيّرت وباتت أكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني (بنسبة النصف تقريباً) مع أن اللوبي الإسرائيلي يحرص على الحفاظ على صهيونيّة القيادة الديموقراطيّة في الكونغرس، وقد نجح في ذلك أيما ذلك. وزعيم الديموقراطيّين الجديد في مجلس النوّاب من عتاة الصهاينة، مثلما كانت نانسي بيلوسي التي سبقته في المنصب. (وهذه المعادلة صحيحة في فرنسا أيضاً: حيث إن قاعدة الحزب الاشتراكي معادية للصهيونيّة في أكثرها والقيادة تبقى متعصّبة لإسرائيل—وللسعوديّة أيضاً ربما لأن فرانسوا هولاند رأى ملامح اشتراكية في الوهابيّة).

ولا يخفي نتنياهو قلقه الشديد من خطر داهم يتهدّد إسرائيل: يصف نتنياهو الخطر بـ«المشؤوم»، وهو يتعلّق بهبّة الشعب الفلسطيني في أراضي 1948 أثناء العدوان على غزة في عام 2021. يعترف أنه في ظل الحرب على غزة، «اعتدت مجموعات من العرب الإسرائيليّين المتطرّفين على أحياء يهودية ببنادق رشاشة، وقتلوهم في الأبنية والشوارع». يزعم أن العرب واليهود كانوا يتعايشون سلميّاً وبانسجام قبل ذلك. أي أن نتنياهو يزعم أن العرب تحت حكم الدولة اليهوديّة في أراضي 1948 لم يعترضوا البتّة على عنصريّة وعدوان الدولة قبل العدوان على غزة في عام 2021. ويصف العرب «المعتدين» بأنهم «خليط من المتطرّفين الإسلاميّين والعناصر المجرمة». كم هو التوصيف العدواني والعنصري سهل على دعاة الصهيونيّة تاريخيّاً. الحلّ عند إسرائيل لهذا الخطر العربي الداهم يكمن، طبعاً، في المزيد من القمع للسكّان الأصليّين وفتات من الإنفاق الذي يظلّ أقلّ بكثير من الإنفاق السخي على الأحياء والمدن ذات الأكثريّة اليهوديّة.

هذا الكتاب لنتنياهو لا يختم حياته السياسيّة إذ هو يعود مرّة أخرى ليُتوّج أطول عهد لرئيس وزراء في تاريخ إسرائيل. وصعود وعودة نتنياهو يرجعان لعوامل عدة، أهمّها التغيير الديموغرافي الحاصل: حجم الجالية اليهوديّة الروسيّة زاد في العقديْن الماضييْن وهم في غالبهم من دعاة التصلّب نحو العرب، وارثين عقيدة تتناقض مع سياسات الاتحاد السوفياتي المتعاطفة مع العرب بصورة عامّة. العامل الآخر هو تنامي نسبة الحريديم من السكان اليهود (يحظون من الإنفاق ما يزيد عن حجم الإنفاق في المناطق العربيّة). ويشكِّل الحريديم ربع الطلاب اليهود في المدارس الإسرائيليّة، وخُمس الطلاب عامةً في المدارس الإسرائيليّة. يشكِّل الحريديم نحو 13% من السكّان لكنّ العائلة الحريديّة لديها ما معدّله سبعة أولاد. نصف رجالهم فقط يعملون وهم يحظون كمجموعة متديّنة بكميّة من الامتيازات والاستثناءات والحظوة الحكوميّة (لا يزال البعض في العالم العربي يظنّ أن إسرائيل علمانيّة ولا يزال البعض يتمثّل بنظامها السياسي الفاسد). إن الفاصل الأساسي في دولة العدوّ هو بين الذين يجنحون نحو تخفيض منسوب العلمانيّة النسبيّة في الدولة، ومن يجنحون نحو زيادة منسوب العلمانيّة النسبيّة. اليسار واليمين لم يعودا القاطع الفاصل في إسرائيل. اليسار مات، كما مات حزب العمل الذي عوَّل عليه ياسر عرفات للوصول إلى دويلة فلسطينيّة في الضفة والقطاع. إن التظاهرات العارمة التي عمّت إسرائيل في الأيام الماضية لا علاقة لها بالموقف من العرب أو الدولة الفلسطينيّة. هي كلّها مسائل تخصّ اليهود في الدولة، مع التجاهل التام لوضع العرب في داخل الدولة أو في مناطق احتلال 1967. الصراع هو حقيقي وسيزعزع الكيان من الداخل لكن لا يمكن التعويل عليه بالنسبة إلى العرب. رفاه وسؤدد العرب لا يأتيان إلا على أيديهم هم.

نتنياهو مثله مثل بيل كلينتون أو وليد جنبلاط عندنا. رجل بقليل من المبادئ تؤهّله للتكيّف مع التغيير في توجّهات الناخبين ينجح في الاستمراريّة السياسيّة. وهو قادر على البروز بمظهر مرشّح متغيّر بحسب الظروف. هو زاد من تحالفه مع الأحزاب الدينيّة لعلمه أنه يصعب عليها التحالف مع خصومه في اليمين (المروحة الإسرائيلية السياسيّة هي بين يمين ويمين متطرّف وأقصى اليمين المتطرّف. خُدع العرب طويلاً بالحديث عن يسار ويمين في إسرائيل). والرجل الذي استورد الماكينات الانتخابيّة الأميركيّة إلى إسرائيل برع في مخاطبة الرأي العام اليهودي بكل أطيافه. والانتخابات الأخيرة—على عكس التوجّهات في الرأي العام الأميركي—أثبتت أن الشباب الإسرائيلي أكثر عدوانيّة ويمينيّة من باقي المجموعات الديموغرافيّة.

إرث نتنياهو لم يحن حسابه وتقييمه بعد لأنه لا يزال يحكم ويتملّص من محاكمة لم تؤثّر عليه (انتخابيّاً) منذ عام 2016. المحاسبة في إسرائيل ليست كما في لبنان، لكنها ليست كما في السويد. لا يقضي مسؤول أياماً في السجن إلا إذا زاد في ارتكابه من الجرائم (موشي كاتزاف، الرئيس الإسرائيلي الذي قضى وقتاً في السجن، اغتصب—وتحرّشَ بـ—العشرات من النساء. كان القضاء ساكتاً على ارتكاباته إلى أن طفح الكيل في زمن الوعي المتنامي عن الجرائم الذكوريّة الجنسيّة. طبعاً، لم يقض كاتزاف كل سنوات محكوميّته، مثله مثل إيهود أولمرت. لكن نتنياهو ألحق ضرراً كبيراً بالمصلحة الصهيونيّة العليا، أي التحالف الاستراتيجي مع أميركا. عندما قرّر ديفيد بن غوريون نقل مؤتمرات الحركة الصهيونيّة من أوروبا إلى أميركا في عام 1942 كان يتخذ قراراً استراتيجيّاً سرّع من خطة تنفيذ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. وبن غوريون أراد من الصهيونيّة أن تحرص على الحياديّة في الصراع بين الحزبيْن في الولايات المتحدة. لم يكن تبدر أي لهجة تفضيل أو تحبيذ من قبل الحكومة الإسرائيليّة نحو المتصارعين في الانتخابات الأميركيّة. قد يكون لنتنياهو الفضل في تدمير الإجماع بين الحزبيْن على الدعم المُطلق لإسرائيل. نتنياهو كان أوّل زعيم إسرائيلي يتحدّى الرئيس الأميركي في عقر داره، كما فعل في عهد أوباما عندما خطب ضد الاتفاق النووي في الكونغرس الأميركي. نتنياهو ألصق إسرائيل بصفة اليمين المحافظ والمتعنّت. هذا ما أبعد البضاعة السياسيّة الصهيونيّة عن الجمهور الليبرالي في هوليوود أو في الجامعات الأميركيّة. لم يعد أمام الحكومة الإسرائيليّة من حيلة لصدّ المدّ الشبابي ضد إسرائيل إلا تعميم تعريف سياسي باطل لمعاداة السامية كي يتيح المجال للجامعات والشركات والمؤسسات الحكومية لحظر الآراء المتعاطفة مع شعب فلسطين تحت طائلة مخالفة القوانين أو النُّظُم الداخليّة. هذا الإنجاز لنتنياهو يصعب محوه لأن جيلاً قد تربّى على فكرة أن الصهيونيّة ودعم إسرائيل المُطلق هما مشروع اليمين الجمهوري المحافظ، وخصوصاً المسيحيّين الصهاينة. أكثر من ذلك، لقد نجح نتنياهو في إبعاد اليهود الأميركيّين عن إسرائيل أكثر فأكثر. لا تعني إسرائيل الكثير للجيل الجديد من اليهود الشباب في أميركا.

نتنياهو يواجه اليوم عالماً عربيّاً متغيّراً. صحيح أن إسرائيل حظيت بحلفٍ قويّ مع السعوديّة والإمارات والضغط يشتدّ على مصر والأردن لتقليد وتيرة التطبيع الإماراتي لكن تلك الوتيرة تحتاج إلى توتاليتاريّة ووفرة اقتصاديّة غير متوفّرتيْن. والتحالف الذي يقوده هو الأكثر يمينيّة وتطرّفاً إيديولوجياً في تاريخ إسرائيل. لكن الصحافة الليبراليّة الغربيّة تخطئ عندما تصف التحالف بأنه الأكثر تطرّفاً. التحالف الذي قاد إنشاء الدولة هو الأكثر تطرّفاً وقاد حملات تطهير عرقي وجرائم حرب جماعيّة. لكن نتنياهو يزيد الشرخ بين اليهود، وبين إسرائيل والليبراليّة الغربيّة. هذا المتغيّر يعني أن إسرائيل ستسعى إلى دعم اليمين الغربي، وفي هذا مجازفة ستزيد من لصق العلامة التجاريّة-السياسيّة لإسرائيل باليمين الغربي بصورة عامة.

(انتهى)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى