سيناريوهات القدر الرّوائي | رواية “بعد سبع سنوات…” لغيوم ميسو

 

هل اجتاحك في يوم ذلك الشعور الذي تفقد فيه الأمل وتظنّ ألاّ عودة؟ وهل جرّبت في يوم مرارة الفقد ورحت تسدّ ثغرات الزمن بما يلائم حزنك؟ وهل امتحنت نفسك وأنت تودّع حبيباً بأنّك سوف تمحو كلّ رسائله وسيبقى مجرّد ذكرى؟ وهل سارعت في تعويض مكانه وغلق نوافذ الأمل؟ وهل يخامرك شعور بعد أن أغلقت بابه أنْ لا وجود لفسحة أمل؟ أعرف أنّ إجابتك عن هذه الأسئلة ستكون بنعم، فمن منّا لم يذق طعم الفقد إلاّ ما ندر، ومن منّا لم تلسعه الحياة بسمّها ولو للحظات؟ ومن منّا لم يتقلّب في غمار هذا العدم؟

ولكن.. “وكلّ الأمر في لكن” كما يُقال، قد يُولد من صُلْب هذا الحزن والضياع بصيص أمل يرتّب كلّ ما فات، وقد تكون في الحياة منعطفات تُعيد تأثيث القدر، فاستدراكات “لكن” في اللّغة قادرة على تعديل ما فات، وهكذا هي مسْرحة الأحداث في الحياة، فقد تأتي تفاصيل تمثّل منعرجاً حاسماً وما عليك سوى مطاوعتها ومسايرتها، فلعلّ في جرابها كلّ الحياة.

ربما هذا ما أراده غيوم ميسو من روايته “بعد سبع سنوات…” التي تظهر لنا بمثابة صحراء يزرع فيها ميسو شواغل الحياة المعاصرة، وينتظر أن يسقيها القارئ بماء التلقي وجماليته، فينبت منها زرع الكلمات ليبثّ على الناس ما حصد. هذه الأسئلة التي أصوغها عليك بشكل برقي تمهيدا لعوالم الرواية لم تكن لتوجد لولا انبعاثها الجديد في عالم الكتابة، ولاسيما حين يتعلّق الأمر بالروائي غيوم ميسو الذي ما فتئ ينتصر لهذه القضايا والقيم (الحب، الصداقة، الأمل، الزمن، الطلاق)، فمنذ بدأت الإبحار في رواياته تفطنّت أنّ الكثير من المشاغل في انتظارنا سواء أكنّا قرّاء عابرين أو متسلّحين بعدّة البحث فيما وراء السطور والتفتيش عن مكنونات المعنى.

حديثنا في هذه السطور المستعجلة سيكون حول رواية “بعد سبع سنوات…” لغيوم ميسو الصّادرة بالترجمة العربية عن المركز الثقافي العربي سنة 2015 ترجمة محمد التهامي العماري، وهي رواية تحكي قصة زوجين هما “سبستيان” و”نيكي” اللذين تزوّجا رغم اختلاف الطبائع ونمط العيش، ولم ينجحا في التوافق على رصيد من القيم يسمح لهما بالتقدّم في الحياة، فسبستيان كان قد تربّى تربية محافظة، في حين كانت نيكي امرأة منفتحة وتؤمن بالحرية في كلّ شيء.

ورغم إنجابهما توأمين هما “كامي” و”جيريمي”، فإنّ الطلاق كان عنوان هذا التلاقح المزعوم بين نمطين من الحياة، ولم يكنْ من الممكن أن يلتقي الزوجان مرّة أخرى بعدما استمرّ الفراق سبع سنوات فكلّ منهما على حاله، غير أنّ اختفاء الابن جيريمي الذي كان في حضانة أمه أعاد الأمور إلى نقطة البداية، بداية ستسيل حبر ميسو فوق صحراء البياض ليقدّم لنا الحياة وصعوباتها على طبق روائي ممزوج بنكهة الخيال، حيث يتنقّل الزوجان في رحلة من أميركا إلى باريس وصولاً إلى البرازيل، رحلة اختزل فيها ميسو كثيرا من التفاصيل كانت بمثابة دروس حياةٍ لزوجين عصف بهما الطّلاق، والطّريف في كلّ ذلك حين تكتشف أنّ تفاصيل الرحلة مُعدَّة مسبقا من لدن الابن من أجل لقاء بين أبويه -وقد أفلح في ذلك- فلم تكن قضية الاختطاف في البداية سوى مسرحية نسج خيوطها الابن مع صديقه وأخته.

غير أنّه وفي غمرة رسم برامجك قد تصادفك محنٌ، وهذا ما أراده ميسو حين دفع بالأحداث إلى أقصاها، حيث زجّ بالعائلة في إطار مطاردة بوليسية وصلت بهم إلى أحضان مافيا الكوكايين والمخدّرات في البرازيل، ومن ثمّة تنتهي الرواية إلى النقطة الصفر في ضرْب من الاسترجاع لمشهد ولادة نيكي للتوأمين، وهي إشارة دالة من ميسو على أنّ الكتابة ولادةٌ وخلقٌ.

في رواية “بعد سبع سنوات…” قد تجد نفسك منسجماً مع تفاصيل الأحداث إلى حدّ كبير، ففي ثنايا سطورها ستجد وقائع مرّت عليك وشخصيات تُشبهك في مسيرتها، فليست قصة سبستيان ونيكي إلاّ أنموذج يتكرّر باستمرار في هذا العالم، فكلنا قد يعيش السيناريو نفسه ضمن مخاضات الزمن العابرة. ولعلّ حنكة ميسو في سرد الأحداث هي التي جعلت الرواية تأخذ رونقاً خاصاً وبعداً تشويقيا، حيث أنّه صبغ الأحداث بنكهة درامية تغلب عليها نزعة المغامرة.

فزوجان كانا طوال رحلتهما يفككان الألغاز التي نصبها لهما الزمن علامة على أنّ الحياة مليئة بالمصاعب ولولا نزعة التعاون في حلّ أزماتها لما استطعنا التغلّب عليها. لقد وحّد الخطر الزوجين واستطاعا فعل ما لم تستطع فعله أشياء أخرى، وهذه رسالة مضمونة الوصول من ميسو إلى قرّائه في كون الحياة مليئة بالمنعطفات الجميلة والسيئة على حدّ السواء.

لقد استطاع غيوم ميسو في هذا العمل الروائي كشْف النقاب عن الجوانب السلبية للطلاق الذي يؤدّي إلى تفكّك الأسرة ولاسيما الأبناء الذين يقعون في محنة التشرّد والضياع، وهو بذلك يسرد القلق الدفين الذي تعانيه الأسر في المجتمعات الغربية في ظلّ العولمة، واللافت للانتباه في تمرير هذه القضايا أنّ ميسو يحاول في كلّ مرة أن يُنسي قارئه هموم التفاصيل ليزجّ به في عوالم الحكي المشوّق، وهذه لعمري صنعة روائية لتبليغ هموم الإنسان ومشاغله بصورة في غاية الروعة، حيث تشدّ ذائقة المتلقي وتُؤنسه في رحلة التفتيش عن المعنى الكامن وراء عوالم اللفظ، إنّه المعنى الذي نبحث عنه لنعيش به.

ومادام لكلّ قارئ فسحة في التلقي والتأويل أرى أنّ الرواية ينظمها خيط رفيع قد يغيب عن القارئ، فهناك شيء ما وراء تركيب هذه الأحداث وفق هذا المنطق، فاختفاء الابن وتجهيز كلّ تلك الترتيبات للقاء الزوجين من الفندق إلى عشاء السفينة حيث “جسر ألما” وصولاً إلى غابات الأمازون في البرازيل يشرّع الباب لسرب من التساؤلات، ورغم علمنا أنّها مرتّبة بفعل فاعل فإنّ ميسو أراد بها شيئا آخر. فماذا يقصد ميسو بهذا السيناريو؟ أيكون القدر هو العامل الرئيسي الذي يُهندس هذه الأفكار ومن ورائه أراد ميسو أن يقول لنا إنّ للأقدار حكايات تعجز عن فهمها العقول؟

أليست الأقدار وحدها هي من أرغمت الزوجين لقضاء رحلة بكامل تفاصيلها، تقلب حياتهما رأسا على عقب، حيث “وافق أن تؤخذ له صورة مع طليقته مكرها”، “ابتسمت له مبتهجة. استسلم مرغما لمرح اللحظة”. لقد كانت الأقدار في هذه الرواية تعطي درسا للزوجين وهما يتنقلان من أميركا إلى باريس إلى البرازيل، درسا شاهدا فيه وئام الأزواج ومتعة التناغم بعد أن حرمهم الطلاق من ذلك، وليس هذا فقط بل جهّز لهما القدر فسحة حميمية لاحتضان بعضهما للحظات “وقد احتضن كلّ منهما الآخر ثم ابتعدا عن بعضهما”.

لقد رمى ميسو من هذا القصّ الرائع إلى أن يقول للقارئ إنّ الأمل قد يتسلّل في هذه الحياة حتى وإن ظننا أن لا مجال لعودته، وهذا ما استطاع ميسو تأثيث صرْحه من خلال سيناريوهات القدر الروائي الذي قد يخفي نظرة الكاتب للوجود من حوله. ولم نكن نحن في كلّ هذا بمعزل عن هذا الأمل، فقد تجوّلنا مع الشخوص في باريس وأزقتها والبرازيل وغاباتها دون أن نبرح أماكننا بالفعل، وقد تعلمنا في ثنايا السطور الكثير من التفاصيل، وقد وصلنا في بعض الأحيان إلى أن نتقمّص أدوارا لم نكنْ لنحظى بها لولا متعة الخيال، فتلك هي سيناريوهات القدر الروائي.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى