عالم «سيئ السمعة»

سيئ هذا القرن. ملعون هذا الكوكب. مخيف هذا العالم. لا أحد يعرف غده. كل أمس غرناطة، كأن قد فات الأوان.

قراءة التاريخ الذي افتتحه القرن الحادي والعشرون، كانت تحمل عنوان التفاؤل ببدايات فاضلة، أو هكذا ظن حاملو الأماني بعام أو بقرن جديد.

كنا في العام ألفين. «25 أيار» على الأبواب. إسرائيل أدركت نهاية احتلالها، والمقاومة تشهر انتصارها الفريد، على احتلال دام ربع قرن، وتفترش الحدود مع فلسطين. كنا في العام ألفين، نتطلع إلى سنوات مسمَّنة، إلى افتتاح عصر الانتصار على العدو. كنا أمة تنهض إلى أفق جديد، بعد مخاض دموي دامس وبلا ولادات. كنا قد كدسنا من الخسائر ما يفطر القلب والعقل والإرادة، كأننا قدر الهزائم. كنا مدرسة للسقوط في كل امتحان، من العام 1948 إلى ما بعد اجتياح لبنان وسقوط بيروت وهروب «الإخوة العرب» إلى عروشهم وديكتاتورياتهم للاحتماء بها من شعوبهم.

كنا في العام ألفين بالتمام. أدركت حمى الفرح فلسطين. خرجت بانتفاضة الأقصى. السواعد قبل البنادق. الجبهة مفتوحة بين أحمد الدرة وأرييل شارون. والأمل بقامة عصر جديد، تكون فيه المقاومة جسراً تعبر عليه الأمة، وتكون الانتفاضة مبارزة بين العين التي تقاوم المخرز، وتنتصر عليه.

سيئ هذا القرن.

فجأة، وأمام شعوب ذاهلة، انتحرت طائرتان في برجي التجارة في نيويورك. انكسر العالم. تغيّرت الاتجاهات. لم يكن ذلك متوقعاً في أسوأ الكوابيس. أن تصل أذرع «القاعدة»، بقيادة أسامة بن لادن إلى قلعة العالم وتصيب أبراجها وتهز أمنها وتزلزل مرتكزات قوتها، ليس أمراً عابراً. كان تأسيساً لمرحلة جديدة في التاريخ البشري. لم يعد الإرهاب بضاعة محلية، أو سلعة مؤقتة. صار الإرهاب بديلاً من «البعبع» السوفياتي… وانطلق التنين الجريح من أميركا، وكان ما كان، وكان ما سيكون. وها نحن اليوم، بعد 15 عاماً، في فوهة البركان.

ملعون هذا الكوكب.

الحروب، خبز العالم اليومي. في الحرب تسقط الممنوعات. تتعرج الخطوط المستقيمة، تزحف المبادئ على جباهها وتفقد عذريتها ونقاءها. في الحروب، تنام المبادئ كالبقايا في كل فراش. تصير غطاءً للقبائح والمظالم. في الحروب، تزوج ستالين وهتلر، واقترن في ما بعد بروزفلت… التحالف مع الشيطان، لا يعقده غير الشياطين الذين يظنون أنهم ملائكة.

الحقل الأفغاني شهد موسم السفاح والزنى بين أميركا والسعودية والباكستان، لهزيمة «دولة الكفر». اجتمعت «الديموقراطية» بقيادة زعيم «العالم الحر»، مع مملكة وهابية تمارس الكمون المسلَّح ودولة ديكتاتورية نووية محظيّة، على ضرورة تجنيد المجاهدين المؤمنين بضرورة تنقية وتخليص الأرض من الكفار… ثلاث دول أسست ما عرف بـ «المجاهدين الأفغان»، وما صار في ما بعد «القاعدة»، التي عاشت ونمت في أحضان «طالبان»، الوليد الشرعي لتحالف العالم الحر والوهابية والديكتاتورية.

دار الزمن دورته.. هُزم السوفيات. شعر الأفغان العرب باليتم، فقرروا أن يكونوا آباء. وعرفنا في ما بعد أن أبوتهم مبيدة لكل جميل ورائع وممكن.

مخيف هذا العالم.

منذ غزوة نيويورك، والمشرق العربي يتراجع من حتف إلى حتف. كان المأمول أن يكون انتصار المقاومة في لبنان على إسرائيل، ونهوض الانتفاضة في فلسطين المحتلة، رافعتين لشعوب هذه الأمة، التي أقنعها انتصار المقاومة الإسلامية بأن الأفق مفتوح على جديد كل الجدة، وعلى طلاق لا رجعة فيه مع القديم التالف والمتهالك، سياسة وأنظمة واتكالا وتبعية. كان المأمول أن يكون الالتفاف حول الانتفاضة الفلسطينية طريقاً إلى جماهير، تستعجل ربيعها، لتنقضَّ في الشوارع والساحات على أنظمتها المتهالكة والاستبدادية والطاغية والتافهة.

كان ذلك متوقعاً.. ثم خرج التنين الجريح ليقول «الأمر لي وحدي»: سمى جورج بوش أعداءه. من دون استئذان، سمى شارون أعداءه في فلسطين ولبنان. «لكم بن لادنكم ولنا بن لادننا». وطحن شارون الانتفاضة، «السور الواقي» دمر فلسطين الموعودة بولادة دولتها. طحنت المؤسسات، ودمرت البلدات، واجتاحت المخيمات، ووصل شارون إلى مخدع أبو عمار.

حدث كل ذلك، فيما كانت أنظمة الذل العربية وأحزاب الإسلام السلفي، تحاول تبرئة ذمتها من «أبنائها» الأفغان، والحركات التي كانت في أساس نشوئها.

خاف الجميع، فأطاعوا بوش. سكتوا على شارون. قاطعوا «المقاطعة» حيث أبو عمار صامد بعناد من لا يعترف بهزيمة، وبمؤمن أبداً بأن شعبه شعب الجبارين.

انتهى الفعل الأول باغتيال وإخضاع بانتظار الفعل الثاني: اغتيال العراق، بعد إطاحة «طالبان».

كأن لا أمل أبداً:

وفي لحظة تونسية مفاجئة، أشعل البوعزيزي الحرائق. «الربيع العربي» فتح الأبواب للشعوب. تدفقت الجماهير إلى الميادين حاملة أحلامها بالحرية والديموقراطية والعدالة والخبز والكرامة. لم يدم «الربيع» كثيراً. أبواب الجحيم مفتوحة بعده. قالت السلطة الحاكمة أنا الطوفان. للأسف ظل الاثنان: الحكام والطوفان معاً.

التكرار ليس عيباً: تعرّض «الربيع العربي» لموجات بربرية، تفوقت في أساليبها على بربرية الأنظمة الاستبدادية. جاءت بحمولتها السلفية والأصولية، معطوفة على تجربتها في أفغانستان، وعلى عملياتها الإرهابية في بقاع الأرض الرخوة، لتضرب قلب الأمة ولتعيد التاريخ أربعة عشر قرناً إلى الوراء، على الأقل.

ما أبشعنا اليوم.

تُركت المقاومة اللبنانية لتصد وحدها عدوان تموز الذي اشتركت فيه دول عظمى و «ممالك عربية» مسلمة جداً وذات باع في تفريخ وتدعيم الحركات الإسلامية على أنواعها، «المعتدلة» بالتقية، والمنتفخة بالعنف حتى التأليه.

تُركت غزة المقاومة وحيدة مراراً. لم تسقط غزة، ولم تسقط المقاومة، لكن الأمة كلها، بمشرقها ومغربها سقطت صريعة صراعاتها التي استحضر فيها تراث «الفتنة الكبرى»، و «الطف»، ويزيد، والحجاج والخوارج.. وحدثني فلان عن فلان..
كل ذلك بدأ بأفغانستان، ثم بغزوة نيويورك وصولاً على «داعش».

ما أبشعنا اليوم!

كيف سيكون شكلنا غداً؟

النسخ المتداولة لا تمت بصلة إلى ما كانت عليه الجغرافيا العربية منذ مئة عام. هذا عصر انتهى. هذا عالم انقضى ولا رجعة إليه. هذه دول لن تظل دولاً. هذه شعوب لن تكون شعوباً. لكل طائفة ومذهب وعنصر، كيان. لم تنضج هذه الكيانات بعد. أمامها عصر من المذابح والمعارك والتهجير. لا شيء غداً غير المزيد من القتل. من يعرف عدد القتلى؟ من أحصى دموع العرب وفواجعهم؟ لا أحد، لأن المزيد آتٍ.

ليس عندنا من يسدل الستارة عن مشهد المقتلة المستدامة، منذ قرر الجنرال غورو اغتيال دمشق ومذ أعطى بلفور وعده بإقامة «وطن قومي» لليهود في فلسطين. كل أسباب الحروب متوافرة ومتجددة ويضاف إليها ولا يُحسم منها سبب واحد. بلغنا في الحروب الذروة: مئة عام من الحرب، ولم نربح. الخسارة حظنا والدمار حصتنا وانعدام الأفق مستقبلنا. هل نعدد الحروب والفتن ومواسم القتل؟ لا طاقة لنا على ذلك. إننا ننوء من تذكرها، فكيف باستحضارها، ولدينا راهنا، مساحة دامية مفتوحة من اليمن إلى العراق إلى بلاد الشام إلى سيناء إلى الصومال إلى السودانين إلى ليبيا، بأسماء وشعارات قديمة وبقوى قادرة على إعادة التاريخ إلى الوراء، مسافة 15 قرناً من الآن؟ ماذا نسمي «داعش» و «النصرة» و «القاعدة» والشقيقات الصغرى؟ ماذا نسمي إسرائيل؟

المشرق، كما يبدو، لا شفاء له. لا قضاء على «داعش» في المدى القتالي المنظور. «الدولة الإسلامية» تتجدد وتتوالى عليها المبايعة من الجهات كلها. الإرهاب يستوطن سراً في القارات الخمس. أوروبا مرعوبة، «الدول» العربية المتبقية مذعورة. العالم في «دافوس» مهتم بانخفاض أسعار النفط وازدياد قوة البرابرة، وبلوغ أذرع الإرهاب شوارع المدن والعواصم في العالم.

من ربى الإرهاب وتساهل معه وتناسى خطره ووظفه مؤقتاً، يذوق اليوم طعمه العلقمي، فيما نحن ننوء، يوما بعد يوم، بما تحمله إلينا وسائل الإعلام من صور وشرائط عن فنون القتل والتنكيل والإبادة، باسم الدين والرسل والأنبياء.

بائس هذا العالم.

خمسة عشر عاماً مضت تنبئ بعقود من العنف. تعامى العالم عن قصد ومصلحة، عن تجفيف الموارد «الدينية» و «النفطية» و «الفقهية» التي أسست قاعدة صلبة للإرهاب. ولما قاتلته، ازداد قوة وشراسة. فمن أقنع نفسه بأنه نازل السوفيات في أفغانستان وهزمهم، يشعر بأنه قادر على تغيير العالم، بالقوة، عبر منازلة القوى العظمى على أرض بلادنا، بهدف هزيمتها وإقامة نظام عالمي جديد، نواته الأولى الصلبة، دولة الخلافة الإسلامية في بلاد المسلمين الشاسعة.

فشلت الدول الكبرى في إيجاد حلول لمشكلة الإرهاب، كما فشلت المنظمات الدولية المريضة بالعجز والمصابة بعطب التأثر والخضوع للقوة الأميركية ومن معها. فشلت المنظمات الإقليمية في كبح جماح التطرف. فشلت في تحصين مجتمعاتها من الفقر والعزل والنبذ وتصدير الناس إلى سراب العيش في الغرب. فشلت في استيلاد المواطن حصانة المجتمع ودعامة الدولة.

ولسنا وحدنا… ها هي أوروبا تفشل في معالجة مسألة أوكرانيا، وتأتي متأخرة لمواجهة الإرهاب الذي حاولت توظيفه خارجها، فعاد إلى عقر دارها. ليس بوسع العالم اليوم أن يجد حلاً لأي معضلة، لكأن المسألة تقتضي قيام نظام عالمي بقيادة دولة عظمى، أو بقيادة ثنائية (كما كان في زمن الحرب الباردة وما بعدها)، لفرض حلول بالعصا والقوة والنفوذ.

ذروة العجز فلسطين. ماذا قدم العالم لفلسطين غير القرارات والتعهدات التي ظلت حبراً على ورق؟ هل نعوِّل على مجلس الأمن؟ عبث! هل نعوِّل على جامعة الدول العربية؟ هراء! هل نعوِّل على منظمة المؤتمر الإسلامي؟ خرافة، على أوروبا؟ هبل… إذاً على مَن؟

وسط هذا الظلام، ضوء واحد جدير باقتباس الأمل منه، هو ضوء المقاومة التي باتت تحيط بفلسطين من جنوب لبنان إلى أطراف القنيطرة في سوريا، والمقاومة في فلسطين التي صمدت في غزة، وزرعت بذورها في الضفة. هذا الجديد في الميدان الفلسطيني يوسع كوة الأمل.

كل ما عدا ذلك ينتمي إلى عالم الخراب الكبير.

ما قامت به المقاومة الإسلامية في الجولان، هو فاتحة لعصر صعب ولكنه يعيد تصويب البندقية إلى هدفها، فيما البنادق الأخرى مشغولة بحفر القبور.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى